|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
أمين بن سعيد
2024 / 7 / 18
لا أعلم كم بقينا كذلك، لكنه كان وقتا طويلا. لم نتكلم، وظللنا ملتصقين حتى شعرتُ بها ترتجف...
- سيصيبك برد، تعالي لنذهب.
- أتمنى أن أبقى هكذا حتى أصبح عجوزا...
- وأنا أيضا.
- أريد أن نمضي الليلة معا...
- أين؟
- عندي أو عندك، لا يهم، المهم أن نكون معا...
- أفوّض لك القرار.
- عندي...
- لنغادر إذن، الطقس بارد، لا أريدك أن تمرضي...
ثم مررنا بجانب هاتف عمومي، فتوقفت ملاك، ونظرت أرضا قليلا، ثم لي...
- سأكلم إيمان...
- سأنتظركِ.
دخلتْ ثم عادت ولم تبطئ...
- ليست في منزلها...
- ...
- كنت سأطلب منها الحضور...
- ...
- لا يهم الآن.
لم نتكلم كثيرا في طريقنا إلى منزل ملاك، لكني فكرت في إيمان، واسترجعت ما وقع معها في الكلية وكيف ضمّتني...لكن، لم أتجاوزه إلى ما حدث بعده، وكيف تركتني...
كانت عمارة مخصصة للطالبات، وملاك كانت في الرابع. صعدنا الخطوات وأنا عن يسارها، ثم انعطفتْ يمينا، وتوقفتْ. نظرتُ على بعد أمتار، فرأيتُ إيمان جالسة أمام الباب...
كانت لحظة فارقة من أهم لحظاتنا، حيث كانت أول مرة نجتمع ثلاثتنا معا... مواقفنا اختلفت. إيمان، ارتبكت وقامت، وظلت ساكتة. أنا، بقيت واقفا أنظر لإيمان دون كلام. أما ملاك، فبعد لحظة من توقفها، أخذت بزمام الأمور، ومشت نحو إيمان، فمشيت معها...
- أنتِ هنا؟ اتصلت بك منذ قليل لأطلب منك الحضور...
- عندي قرابة النصف ساعة...
- لندخل، تشعرين بالبرد؟
- قليلا...
فتحت ملاك الباب ودخلت، ثم إيمان بعد أن ابتسمت لي ابتسامة كتلك التي تُبتسم لغريب شاءت الصدف أن نكون معه في نفس المكان، ثم كنت الأخير. تصرف ملاك كان وكأنها المرة الألف وليس الأولى، أجلست إيمان على بنك وأحضرت لها غطاء، أما أنا فطلبت مني أن أتبعها إلى الحمام أين خلعتُ حذائي المبلل ثم وضعتُ ساقي في ماء دافئ تكفلتْ بتعديل حرارته ثم أحضرتْ لي منشفة...
- تريد شاي أم قهوة؟
- قهوة.
- لتدخن...! الشاي أحسن، ومعه بعض المكسرات... ما رأيك؟
- جيد.
- أدفئ ساقيك جيدا ثم التحق بنا، خذ وقتك.
- وأنتِ؟
- لم أمش في الماء أنا...
- نسيتُ رجليّ عندما مشيتُ بجانب البحر...
- البحر يُنسي كل شيء، لذلك يحبه العشاق... سألتحق بإيمان... خذ وقتك.
- نعم...
ثم خرجتْ، ولم تغلق الباب... سمعتها تكلم إيمان دون أن أعي ما قالت، ولم أسمع من إيمان ردا. بقيت جالسا لحظات، أنظر الحائط أمامي، مستمتعا بوقع دفئ الماء على رجليّ، خالي الذهن...
- هل أنت بخير؟
- نعم
- أصرت ملاك على الشاي... لا أشربه...
- لا تشربي إذا كنتِ لا تحبينه...
- وأكسر خاطرها؟
- ...
- لا يجب أن نكسر خاطر من نحب...
- ...
- تريد أن أخرج؟ أن أغادر؟
- ...
- أنت غاضب مني...
- ...
- لم تلتفتْ لي حتى!
- تركتني... دون أن تقولي أي شيء!
- لم يكن الأمر بيدي...
- ...
- كنت أنتظرك، لكن...
- لكن ماذا؟ ما الذي حدث؟
- ملاك... ملاك حَدَثَتْ... أسمعها تنادي، سألتحق بها في المطبخ...
طبعا، لم يكن بمقدوري أن أفهم قصدها من "حدوث ملاك" في تلك اللحظة. والفهم الوحيد والمنطقي الذي كان عندي وقتها، أنها عاودت الاتصال بصديقتها التي لم تكلمها منذ أربعة أشهر، مباشرة قبل قدومي، والذي لم أر معه أي مانع من أن تكلمني، وتتركني مثلما فعلتْ.
ثم... التحقتُ بالصالة، فوجدتهما على نفس البنك، لكن كل في حافة، ملاك تنظر إلى أسفل وإيمان تنظر إليها. جلستُ على بنك مقابل لهما، فرفعت ملاك رأسها، نظرت إلى الشاي على الطاولة، ثم نحوي...
- قلي ما رأيك؟
- ... جيد، شكرا لك.
- أول مرة نجتمع، نحن الثلاثة...
- نعم.
- ستسمعانني الآن حتى أكمل ما عندي... لا أحد يقاطعني...
- نعم.
- إيمان، لا تحبين الشاي، لكنك تشربين منه الآن. هو قال إنه يفضل قهوة، أما أنت فلم تقولي شيئا، برغم علمك أني أعلم أنك لا تشربين الشاي، لكنك سكتِّ... وفي سكوتك تكمن المشكلة، وكذلك في قبولي بذلك...
- أقول شيئا؟
- قلت لكِ لا تقاطعيني.
- ...
- أشعر بالحرج الآن، مثلكما، لكني سعيدة... منذ قليل، كنا معا، كانت لحظة صفاء رائعة بين حبيبين، لكني اتصلت بكِ، لأني وبرغم لحظتي تلك، افتقدت صديقتي وأردتها أن تكون معي... صديقتي التي تحب حبيبي وهو يبادلها نفس الحب... منذ أشهر شعرت بالغيرة منكِ، لكن غيرتي تلاشت شيئا فشيئا وغلبتها رغبتي ألا أخسركِ. من المفروض أني كنت عملت على إبعادكِ عمن أحب وبكل الوسائل، الخيار كان واضحا، كان علي ألا أفكر إلا في نفسي وألا أهتم لما ستشعرين، لكني لم أفعل، بل حدث العكس، وكنت كل يوم يمر أفتقدكِ أكثر وأكثر، حتى خلصت أني لا أستطيع أن أمشي خطوة أخرى دونكِ. لا أريد أن أختار بين من أحب وبين من أحب! سأقبل كل شيء، أي صيغة... لا أعلم كيف، لكن ما أعلمه أني لا أريد حياة لستما فيها!
- أستطيع الكلام؟
- نعم
- أنا لا أشعر بالحرج، لكني إلى الآن لم أفهم ما المانع أن نكون معا؟ كان ذلك كل ما أردتُ منذ أول لحظة رأيتكما فيها... مثل الآن، هل يوجد مانع أن نكون دائما هكذا؟ ثم من قرر ألا نكلم بعضنا؟ لم يكن قراري بل أنتما اتفقتما وقررتما! وهذا ظلم لأني طرف ولم أستشر ولم تأبها لرأيي ولما سيحصل لي بعد قراركما! فقط أريد أن أفهم أين المانع في أن نكون مع بعض مثلما نحن الآن؟ في الكلية، خارجها، في منزلي أو في منزل أي منكما، نتكلم معا، نضحك معا، ندرس، نأكل، نمشي، نجلس، نقوم... ما المانع؟ إيمان؟
- ليس الأمر بكل هذه السهولة التي وصفتها، وإلى هذه اللحظة ليس سهلا مثلما تتصور، أظنك لم تضع نفسك مرة مكان إحدانا، افعل وستفهم...
- ومن قال لكِ أني لم أفعل؟
- وماذا كانت النتيجة؟
- أنسحب، لكن بعد أن أكون واضحا، لا أستطيع قبول أن تكون مع شخص آخر، وبما أنها تحبه مثلما تحبني لن ألومها فلا أحد اختار من يحب، لكنها لا تستطيع لومي إذا كنت لا أستطيع حتى تحمل الفكرة في حد ذاتها، سأنسحب وسأغلب عقلي على مشاعري لأني أعلم مسبقا أني لا أستطيع قبول ذلك منذ البدء، وذلك طبعي هويتي جيناتي التي لن تتغير، لو كان عندي أمل حتى صغير أن أتغير ربما قبلت وحاولت، لكن مع يقيني منذ البداية أني لا يمكن أن أتغير يبقى أمامي حل وحيد وهو أن أنسحب. سأكون مجبرا على ذلك، سأتألم، لكن على الأقل أكون واضحا وصادقا مع نفسي ومع التي أحب...
- أحب ملاك مثلما أحبك أنتَ، فهل ستنسحب؟
- كنت أتكلم عمن أحب مع شخص آخر... ولد يعني وليس صديقتها... لا مجال للمقارنة هنا... أنتِ لم تفهمي قصدي...
- فهمتك جيدا، لكنك من لم يفهم...
- غريب! ما الذي لم أفهمه؟ وكيف تقارنين صداقتك بملاك بشخص تحبه معي؟ ولد أعني، ذكر!
- كنت أظن ملاك صديقتي الحميمة، لكن المدة الماضية اكتشفت أنها أكثر من ذلك...
- يسعدني ذلك، ولم أفهم وجه المقارنة حتى الآن؟
- سأتكلم عن نفسي، ملاك تستطيع فعل ذلك بمفردها... المنطق الذي تكلمتَ به والذي كان سيحملك على الانسحاب هو نفس المنطق الذي حملني على قراري بقطع كل صلة بكما، لكني اكتشفت بعد ذلك أن لملاك قيمة أكبر مما كنت أظن، الاختيار بين حبيبي وصديقتي سهل ومهما كانت قيمتها لم أكن لأختارها، لكني لم أستطع... عدم استطاعتي يعني أنها أكثر بكثير من صديقة أو حتى أخت... مع قلبي لن أختار كل العالم بدءا من كل أفراد أسرتي مرورا بأصدقائي المقربين وحتى آخر شخص عنده قيمة عندي، كنت سأفعل ذلك دون تردد، وشخص وحيد لم أستطع ذلك معه ولن أستطيع... ملاك! هل فهمتَ؟
- بما أني لا أرى أي وجه مقارنة... أكون بالتالي... لم أفهم... صديقتك التي تعرفين منذ زمن تحبينها أكثر حتى من أفراد أسرتك، نعم قليل وجود هذا، لكن لا أرى غرابة فيه... وبالنسبة لي ربما في المستقبل أفضل محمد أو جامبو عن كل أفراد أسرتي وكل من أعرف...
- هل ستفضل محمد عليّ؟
- بالتأكيد لا، ولا مجال للمقارنة...
- هل سيكون محمد بنفس قيمتي؟
- ما هذه الأسئلة؟ بالتأكيد لا ولا مجال للمقارنة!
- وإذا كان بنفس المنزلة؟
- لا يمكن أن يكون بنفس المنزلة!
- افرض أنه أصبح بنفس القيمة...
- لا يمكن أن يصبح بنفس القيمة! الصديق أو الصديقة مهما كانت منزلته لا يمكن أن يصل منزلة الحبيبة، ثم لا أزال لا أفهم لماذا تصرين على المقارنة بين ما لا يقارن؟
- ملاك... هل يمكن أن تصل الصديقة إلى منزلة الحبيب؟
- نعم... يمكن... وقد وَصَلَتْ دون أن أدري...
- أنتِ أيضا مثلها، طيب لنقل ذلك، أين المشكل؟ ثم أين وجه المقارنة؟ لا أتصور أن علاقتي بجامبو ستنتهي يوما وإن حدث ذلك أكيد سأحزن وسأفتقدها لكن لا أرى كيف سأقارنها بكِ؟
- تخيل أنك معي ولا تفكر إلا فيها؟ هل ستبقى صديقة فقط؟
- كلامكِ ينطبق على إيمان وليس على جامبو... انتظري قليلا أظنني فهمتُ... وإذا كان الذي فهمته صحيحا كيف أكون موجودا أصلا؟
- لست مثلية...
- الذي فهمته أنكِ وهي بينكما حب وليس صداقة... امرأة وامرأة، رجل ورجل، أظن أن اسمها مثلية، أم عندها تسمية أخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك لا أكون أنا إلا عبيط القرية أم هناك تسمية أخرى؟
- لم تفهم...
- يعني كل شيء منذ البداية خططتما له، وضحكتما عليّ! لدرجة أني لم أركما يوما معا طيلة أربعة أشهر! كنتما بارعتين كل أتقنت دورها ببراعة فائقة! ثم بعد كل لك، تعترفان لي الآن؟! أعترف أني صدقتُ كل شيء منذ اليوم الأول وحتى الآن! اللعنة! إيمان أنتِ حقا شيطانة اليوم حضنتني أمام كل الطلبة! بكيتِ! وقلتِ ما قلتِ وصدقتكِ! كل ذلك تمثيل؟ ولأجل ماذا؟ لو كنت قتلتُ أباك أو أمك ربما فهمت كل الغل والحقد الذي تحملينه لي؟! وأنتِ! تبعتني، وطردتِ أصدقائي، ثم جلستِ واعتذرتِ، ثم حتى عندما تركتكِ، لحقتِ بي وارتميتِ في حضني! وصدقتكِ! الآن فهمت لماذا اتصلتِ بها... لكني لا أفهم لماذا فعلتما كل هذا؟ ذكرتماني بأفلام انتقام كثيرة شاهدتها، لكني لم أفعل شيئا يستحق منكما كل هذا الشر! هل تستطيعان جواب سؤالي: لماذا؟ وماذا ربحتما؟ مثليتان سخرتا من زميل دراسة والذي إلى الأبد سيكون زميل مهنة غصبا عنكما ستكونان مطالبتين باحترامه!
- ماذا تقول؟ خيالك أخذك بعيدا جدا!
- وأنتِ؟ نفس الجواب؟ وبالمناسبة تلك النوبة أيضا كانت تمثيلية؟ والذي وقع قبلها كان نفس الشيء؟
- اجلس ولا تنطق بأي حرف، اسمع ولا تتكلم، ما قلته غير صحيح، لست مثلية وملاك ليست مثلية وكل الذي حصل كان حقيقة ولم يكن تمثيلا! اجلس قلت لكَ!
- نعم... حصل وتلقيت أوامر كثيرة طبقتها بالحرف... اسكت، لا تتكلم، لا تتحرك! الزمن تغير عزيزتي! آخر شيء سأقوله... لست عنيفا لكني الآن أتمنى لو تتحولا إلى ذكرين! وأعترف مرة أخرى أني كنت أغبى بشر على سطح الأرض: برافو!!
لم يبق من العقل الكثير في تلك اللحظة، والقليل جدا الذي بقي استعملته لأمنع نفسي من ضربهما، نعم تمنيت لو كانا ذكرين وقتها، كنت ضربتهما وأمضيت الليلة ماشيا فوق جسديهما... وقفت ملاك عند الباب وحاولت منعي من الخروج لكني فتحت الباب رغما عنها وغادرتُ...
برغم كل شيء، وبمرور الأعوام، لا يزال وجهها ذاك لا يغيب عن ذاكرتي، ولا تزال كلماتها تسمعها أذناي وكأنها الآن: "لم يحصل شيء! ثم، وعدتني ألا تتركني أبدا مهما حصل! وها أنت تتركني بعد أقل من ثلاث ساعات من وعدك! ستعرف أنك مخطئ وستعتذر لكني لن أغفر لك!"
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |