|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
فوز حمزة
2024 / 7 / 13
في بدء الحديث عن قصص (أمي وذلك العشيق) أود الاشارة بسرعة الى المنظومة العامة لاشتغال الكاتبة (فوز حمزة) , خاصة تلك المتعلقة بتقنيات الكتابة ومحتواها ومهيمنتها الفكرية . ان الكاتبة عبر المجموعات الأربع السابقة , وهذه المجموعة الخامسة , تؤكد مشروعها (التقني ـ الثقافي) . تطرح أبعاده بطريقة طريفة أكاد ألخصها بـ (متعة الأدب ؛ بلغته أولاً , ومحتواه ثانياً , وأغراضه البعيدة ثالثاً).ولو تابعنا هذا التلخيص فسنجد ما قبله عملا كبيرا وفعلا سرديا مغامرا , بل توجد مؤهلات فطرية وصناعية لا يمكن توفرها لغير الفعل المثابر والتدرب اليومي الجهيد.
ان قصص (أمي وذلك العشيق) عمل يتم مشروع الكاتبة بطوره الخامس , يطرح رؤى خاصة بالكاتبة ؛ رؤى تتيح لها الدخول ـ بلا تردد ـ الى عالم السرد الرصين . لندخل وإياها بعالمها القصصي ؛ عبر المنظومة الخامسة الآتية :
أولاً : تحولات الشخوص
يرد في (الصفحة11) من المجموعة القصصية ما يشير الى النموذج الخاص بتحول حال الشخوص , بقصة النموذج (الرسول) ؛ وهي قصة مشحونة بالفكر والشجن على الرغم من ان تقنياتها اعتيادية ؛ ما بين الحديث والتقليدي . ستمر الشخصية المحورية بأربعة تحولات , هي:
1 ـ الشخصية ألية مباغتة : تبدأ الكاتبة بتوصيل طاقة السرد للقارئ عبر شخصية (وهم) اسمه (زائري) ؛ يكون شخصية آلية , مباغته , شبحية . دليلنا قول الكاتبة فوز في /
[زائري هذا الصباح كان مختلفاً , غير متوقع , لم يطرق باب المنزل ولم يستخدم النوافذ, مع انها كانت مشرعة]( )
2ـ الشخصية شبيهة الواقع : هنا يكون فعل الشخصية معقداً جداً ؛ إذ ان فاعل الحدث يتعايش مع الموقف العام (للبطلة ـ الراوية) بواقعية مقنعة , وتعامله ككائن ضيف , او ساعي بريد معروف لديها ومحترم , مثلما يرد في /
[استقبلته بالرضا هذه المرة وابتسامة عريضة , أشرتُ له الى مكان الكرسي الهزاز وأخبرتُهُ بإمكانه الجلوس عليه . جلس ضيفي ملتفاً بعباءته السوداء. اعترف , لم يكن ودوداً] ـ القصة ذاتها , ص11
3 ـ الشخصية وهم مجرد : يتبين من متابعة القصة ثمة وجود غير مرئي للبطل ؛ فاعل الأحداث , لا ملامح له , لا حركة بائنة منه ؛ كأننا أمام وهم مجرد من الصفات كلها , عدا كونه صورة ناقلة لمحتوى . يقتحم خلوة البطلة ـ الند له , من جنبة الرتبة السردية . هذا الضيف (الرسول) لا يُلمس , مسموع الصوت بلا فم ولا لسان . انه مجرد وهم .. أكيد! , بدلالة المقطع الآتي : [نظرت اليه ... , هل أقتله كما أفعل في كل مرة يزورني بها؟ . أعرف ان هذا السؤال غبي , فكلما قتلته عاد أشد قوة وأكثر وحشية , بعد كل قتلة يعود شامخاً هازئاً مني !ْ] ـ القصة ذاتها , ص11
* ربما تحتاج هذه الجزئية من القص الى شيء من التوضيح لذا نقول : ان الوهم هو الرديف الأساسي للوجود البشري , وهو ذاته الذي كلما نحاول قتله نحييه , وهو ذاته من يشتم ويهزأ ... إذاً هو كائن غير منطقي , قوي متوحش ..
4 ـ الشخصية اسطورية : ان الشخصية الآلية التي تحولت الى شخصية شبه واقعية , ثم تصيّرت وهماً مجرداً من أية ملامح ؛ ها هي تتحول مرة رابعة الى شخصية اسطورية , لها قدرة على تغيير هيأتها من طبيعتها كوهم الى طبيعة الفاعل المهيمن , المتعاظم , البديل عن القوى المحيطة به كلها . انه يجمع بفعله بين العناصر المادية وغير المادية مثل جميع الأساطير التي خلقها الخيال المتعاظم للبشرية. لننقل بعضاً من حوار البطلين :
[ ـ ثمة رسائل لكِ عندي ...
ـ اقرئيها , تمعني فيها...
سألته : من أرسلها؟
اجابني بينما جسده يتحرك بقوة الكرسي الهزاز ومعه الكون يتحرك :
ـ لا اعلم , انا رسول فقط] ـ القصة ذاتها , ص12.
* يمكننا ان نبرر حال التأسطر هنا بالقول : لا يوجد من يحرك الكون سوى القدر الأُسطوري , منطلقاً من هزات الكرسي الى أعلى هزة وحركة ارضية الى اعلى هزة عند بوابات السماء!.
ومن طريف الثيم الرديفة بتحولات الشخصية ؛ ان البطلة تقرأ الرسائل فتجد انها مصائرها التي وضعها لها القدر , كونها فواصل للعمر الزمني منقولة عبر تأملها لعمرها من البدء حتى لحظة انجاز ذهانها لذلك الوهم , بدلالة انها عندما أتمت قراءة الرسائل وجدت الكرسي فارغاً.
وثمة فعل سردي محذوف يقول : طالما انتهت رسالة العمر , إذاً ليمضي العمر بالرحلة نحو السماء بهدوء ورضا!
ثانياً : البث والتأثيث
اننا نفهم بأن بُنى القصة ـ بعد اكتمالها ـ يكون مظهراً تدوينياً أخيراً لها , بينما البث السردي لجمل القصة قد مرّ بعدة مراحل للتأثيث البنائي ؛ ومثالنا في قصة شجرة العشق سيوضح هذا النموذج من البث والتأثيث. لنتابع ذلك عبر الخطوات الآتية :
أ ـ الأشياء
وهي ثلاثة أنواع ؛ أشياء كبرى , أشياء صغرى , أشياء لا مادية.
يمكننا تحديدها على النحو الآتي :
1 ـ الأشياء الكبرى : وتبدأ بالعنوان (شجرة) , ثم الإلهة الكبرى , ثم كوكب ابنادوسي. 2 ـ الأشياء الصغرى : تشمل جمر الاقحوان , ثم ماء النهر , ثم زورق النجاة.
3 ـ الاشياء غير المادية : تشمل نور العشق , ونور القلب, وصوت العاشق , وزاد النور.
* ان وظيفة الأشياء الكبرى ان تقوم بصناعة الحدث الأكبر والأهم بصفتها كوجود غير عاقل. اما الأشياء الصغرى فوظيفتها ان تساعد على انجاز الحدث الأكبر برعاية الشخوص وتمكينهم من البث القولي لمجمل القول . بينما وظيفة الأشياء غير المادية فهي تبيين طبيعة ومحتوى وتركيب نفسية الشخوص وتوجيه قولهم نحو الدلالة الكبرى للقيمة الأهم في القص.
ب ـ الشخوص
هم مجموعة الأدوات السردية ـ بيد الكاتبة ـ التي تستعيض بهم عن نفسها متوزعة الأفكار والرؤى , تنفذ بهم خطة السرد كله بعد تأثيث مكان السرد .
سنركز على الشخوص الأساس فقط . ان أول الشخوص هي الإلهة الكبرى شبيهة عشتار , ثم النبي شبيه كلكامش , ثم الرسام الصعلوك العاشق الثمل , ثم شجرة العشق.
* نلاحظ ان الشخوص كلهم افتراضيين , وهو ما يوسع مساحة التخيل ثم التمتع بأجواء غريبة , تثير أكثر من سؤال يؤدي لأكثر من زاوية معرفية للمتعة الفنية. * نلاحظ ان عمليات التحول في طبيعة ووظائف الشخوص في المحور أولاً ؛ يستمر في هذا المحور أيضاً بالتقاسم لسلطة الهيمنة الفكرية بين الاسطورة المتخيلة والامنيات البشرية لمستقبل الكون.
* والأمر الآخر ؛ هو ان الشخوص كلهم منذهلون بالوجد والوجود , بما فيه وما فيهم من حيوية (الماء والنار), ولا استثناء لشجرة العشق نفسها.
ج ـ المكان
هو الآخر من خلق الكاتبة , صُنِع بما يتعاضد مع الرومانس الجديد المتفرد , اذ هو سماء وشمس وماء وحديقة وشجرة. ويبدو ان ليس للسماء ولا للماء ولا للشمس سوى المساعدة في الاقناع ؛ بأن فعل نزول الإلهة الكبرى جاء بحتمية وجود أماكن اخرى غيرها. هذا الوجود الغيري هو الحديقة. وماذا في الحديقة لتكون بهذه الأهمية؟.
ان الإلهة الكبرى والنبي جوارها سارا على الأرض لمدى ساعة فوجدا :
[وصلا حديقة غناء , قال لها :
ـ انظري إليهم , هذا يرقص , ذاك يحتسي وآخر يتأمل , وهذا الذي قرب النبع مزهو بنفسه , يعتقد أنه عثر على الحقية.
ـ إذاً ؛ عثر على نفسه!
في طرف الحديقة صعلوك يرسم على الجدار ملامح امرأة , ما ان رآها , حتى تجلى له شيء في الافق, قال لها ونظرة عينيه توهجت بشكل غريب .
...
ـ من أنت
ـ انا صعلوك المكان] ـ قصة شجرة العشق , ص112.
إذاً المكان ـ الحديقة ـ هو /
1ـ حاوٍ لكل من ؛ شجرة العشق والأبطال كلهم
2ـ عنده يقع الحدث الأكبر والأحداث الرئيسة والمساعدة.
3ـ فيه تبدل الإلهة عاشقها ومكانها ومصيرها .
4ـ فيه يتشكل عالم خليط من الآلهة والبشر والسعادة الأرضية .
5ـ تفقد الآلهة سيطرتها على المنتسبين لها فضلا عن خروج البشر على سلطة الآلهة. د ـ فنتازيا هادئة
تتميز فكرة القصة بكونها فنتازيا هادئة تختلف عن مجمل نتاج القصص بمجموعة (أمي وذلك العشيق) , بكونها تعالج حدثاً غير واقعي تماماً , تخلق له ظرفاً مقنعاً من الفنتازيا الهادئة , تعبر به نحو الأماني التي يحلم بها العقل البشري منذ بداية صرخات العقل الانساني لبيكون وكانت. تلك الصرخة تكررها الكاتبة الانثى الباحثة عن معنى المصير ولا جدوى منه ان لم يخلق بشراً آلهة او آلهة بشراً ؛ لهم سعادة كبرى يختارونها بحرية تامة.
هـ ـ الحدث الأوحد
في القصة حدث واحد هو (نزول الالهة الكبرى) شبيهة عشتار من السماء الى الارض , وله حدث مساعد وحيد هو الحلول بحديقة الناس. وجرى في الحديقة ثلاثة أحدات تابعة ؛ هي : (قيام الصعلوك برسم الإلهة , وعشق الإلهة للصعلوك , وبقاء الإلهة في الأرض. لقد اوحى هذا الحدث بأهم فعل مستقبلي ؛ ألا وهو " اننا نخلد الآلهة ونسعدها بقدر ما تعطينا وتسعدنا"
وـ فلسفة القصة
لعلها قصة الأسئلة الوجودية الأهم لقصص المجموعة كلها فعندما يريد النبي ان يحرج الالهة يقول لها ـ ذما بالبشر ـ: (ستكثرين من طرح الأسئلة , ص116) . تجيب الالهة بما يشبه الافتتان بأسئلة المعرفة كونها هي روح الوجود , فتقول : ... الآن فقط عرفت (كيف للروح ان تنساب بالجسد.. ـ ص116)
ثمة خاتمة تفعل ذات الفعل الذي تنورت به الالهة, تقول الخاتمة :أبصر الوهج يتسلل من الشجرة ويملأ المكان . ابتسم بحزن وهو يتذكر كلمات إلاهته .
*بظني ان فلسفة القصة تلخص بالآتي :
(لا خلود ولا سعادة ولا جمال في أي مكان خارج الأرض. ولا زمن ولا وجود غير وجود ارضنا وزمن حياتنا).
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |