|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
فوز حمزة
2024 / 7 / 3
استوقفني العنوان من بين عنوانات كثيرة ظهرتْ في إشعاراتِ الفيس بوك (خلوة كاتب أحمق)
أعرفُ هذا الكاتب .. لقد قرأتُ له من قبل قصصًا عن نساءٍ مثيراتٍ للجدلِ .. وأنا أضغط على المنشورِ كي أقرؤهُ .. تساءلتُ: تُرى لِمَ يَصفُ نفسهُ بالأحمق؟! ما الذي سأعثرُ عليهِ في ذلك المكان المدعو الخلوة؟!.
وجدتُ نفسي تنساقُ وراءه لأدخلَ عالمهُ السّري.
بدأتُ بمراقبتهِ وهو جالسٌ خلفَ مكتبهِ منغمسًا في الأعمالِ الأدبية التي أمامه بينما قطته الرمادية ترقد فوق ساقيه لا تصدر أيّة حركة. رفعَ رأسهُ قليلًا يصغي السمعَ وعلامة امتعاض بانتْ على ملامحهِ .. إذ ثمة ضجيج لأطفالٍ صادرٌ من الغرفةِ المجاورة بينما حلقاتٌ من دخانٍ تشكلتْ من سيجارتهِ فوق رأسه.
تنفسَ بعمقٍ مغمض العينينِ قبلَ أن يَهمَّ بفتح الدُّرج الأول .. أخرجَ منه دفترًا غلافه بني اللون وبدأ يدون فيه.. ثم وجَّه نظراته نحو كتب رُصتْ على رفوفٍ بمتناول اليد .. فراح ينقَّل عينيهِ بينَ الأدراجِ وبين الرفوفِ البيضاء كأن ثمة علاقة غامضة تربط بينهما لا يعرفها إلّا هو.
لاحتْ مني نظرة لمحبرةٍ قديمةٍ موضوعة على طرفِ المكتبِ .. خطرَ ببالي سؤاله: لِمَ تحتفظُ بها؟!.
سرتُ بضع خطوات .. فضولي دفعني لتفقُّد أوراقه بعد مغادرته لمقعدهٍ .. وأنا أقلّبها بين يديَّ .. أحسستُ أنها لم تكنْ مجرد أوراق .. بل عالم من حُب .. مشاعر مبعثرة فوقَ الورقِ!.
ثمة ورقة كُتبَ عليها باللون الأزرق: أنني أخافُ على كتاباتي من نفسي .. وأخاف على نفسي من قصصي .. وأخاف من القارئ على نفسي وعلى قصصي!.
الكلمات الأخيرة كُتِبتْ بلون مُزج من الأصفر والأحمر.
اقتربَ من لوحة جدارية لسيدة تَظهرُ بثوبٍ أسود ويزين جيدها عقدٌ من اللؤلؤ بحباتٍ صغيرة .. ربما هي إحدى بطلاته اللواتي مارسنَ الحبَ مع حروفه .. ظلَ يحدقُ فيها مبتعدًا مرة ومقتربًا أخرى .. وبفرحٍ طفولي همس لها: ستكونينَ أنتِ بطلة قصتي القادمة.. ما رأيكِ لو جعلتُ منكِ امرأةً عاديةً تُعدّ العشاء .. تغسلُ الصحونَ .. ثم تندسُ مع زوجها تحتَ الفراشِ بينما جسمها معبأ برائحةِ الطبيخِ؟.
سأطلقُ عليكِ اسم رجاء .. فهو يليقُ بسيدة منزل .
لحظات مرت حتى قال بصوتٍ أعلى وبنبرةٍ فيها شيء من الاستنكار: لا لا! سأجعلُ منكِ سيدة أعمال ناجحة تقعُ في حُب سائقها الخاص .. أنا أعشقُ الجنونَ في النساءِ .. وحينها ستكونين السيدة مريم. ربما سأصنعُ منك فنانة تحترمُ جسدها وتعتبره مِلْكًا لها .. فلا تمنحهُ إلا لمن تحب .. آنذاك سأغير اسمكِ إلى منار. تساءل وهو يمرر سبابته فوق شفتيها الورديتين: هل يحق لي أن أجعلُ منك وزيرةً أو نائبة في البرلمان؟.
استطردَ وهو يهبطُ بأصبعهِ نحو مفرقِ ثدييها: ولِمَ لا؟. .. لكنْ لابد من التمعنِ عند اختياري للاسمِ .. وغالبًا ما يطيلُ بيّ اختيار الاسم أكثر من كتابتي للقصة!.
وهو يتحدثُ .. شعرتُ بروحِ رجاء ومريم ومنار تطوفُ حولي!. رجاء كانتْ الأطول .. أما مريم فهي الأجمل .. لكنْ منار كانتْ الأكثر حزنًا.!
استبدَّ بي الشغفُ لمعرفة كيف يَبثُ الروح في صلصال شخصياته وهي ما تزالُ أجنَّة تقفُ بين رأسِ القلمِ وأول السطرِ .. تنتظرُ لحظة الولادة .. فيمنحها الرُّوحَ .. ثم الملامحَ لتغدو كأنها إحدى جاراتي .. أو واحدة من زميلاتِ المدرسةِ .. أو ربما غريبة تعرفتُ عليها في حافلة؟.!
انشغلَ عن بطلاتهِ قليلًا بصوتِ الموسيقى الهادئة المنبعثة منْ هاتفهِ.
فجأة لمعتْ عيناهُ كأنهُ عثرَ على كنزٍ عظيمٍ قائلًا لنفسه: ليلةُ البارحةِ كنتُ في عربةِ قطار .. التقيتُ بسيدتينِ .. أي وجدتُ قصتينِ بدلًا من واحدة .. إذ غالبًا ما تتناثرُ القصص على الأرصفةِ البائسة .. وقد أجدها مركونة كحقيبةِ مسافر في منتصفِ الليلِ .. أو أعثرُ عليها أثناء وقوفي عند إشارة المرور.
أردتُ إخباره: في النهاية .. لا نعثر عليها إلا في أكثرِ الأماكنِ عتمة من أفكارنا .. لكنهُ استدارَ بهدوءٍ نحو اللوحةِ يحدَّثها: عليّ الآن تغيير ديكورالقصة بما يتناسب مع تفاصيل هاتين السيّدتين .. أو بالأحرى تلك التي أدعتْ أنها أُمٌ للأخرى .. حدسي يُخبرني أنها تكذب!.
خروجه من الخلوة منحني الوقتَ لأقرأ ما دوُّنه على الورق: اسمها فخرية .. وهو اسم سيّدة القطار الأم .. اسمها لم يَرُق لي .. لا أحبُ الأسماءَ التي تنتهي ب ( يه )! فأنا حينما أكتب عن شخصية .. أقعُ في حبها .. أهيم بتفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة .. جنونها يُلهب سطوري .. بل حتى كذبها يمنحني مساحة واسعة للتلاعب بالأحداث.
سأختارُ لها اسمًا يدلُ على أنها سيدة لعوب كما ظهرتْ لي في مقطورتها .. والتي ما إن أغلقتْ البابَ علينا حتى رفعتْ الشالَ من على شعرِها ليظهر سواده الفاحم .. وذلك النمشُ المعتلي صدرها المكتنز .. كان مثيرًا لرجلٍ مثلي لا يجد حرجًا في مشاكسة إحدى بطلاته!.
لماذا دعتني؟! هل توسّمتْ فيّ الأدب؟! هل حقًا وضعتْ ثقتها في رَجُلٍ قابلته في قطار .. أم خطرَ ببالها شيء آخر؟!. شيء له علاقة بما يحدثُ في قطاراتِ منتصفِ الليلِ.!
لو كنتُ أصغر قليلًا لقلتُ لنفسي: لا بأس بقليلٍ من قلةِ الأدبِ .. لكن تعبيراتها الآن كانتْ بداية لقصة مؤثرة! استشففتُ ذلكَ من حركةِ يديها .. وصدرها المكشوف وهو يرتفعُ ويهبطُ .. وهذا مؤشر لما في داخلها من براكينٍ لا تعرف كيف وأين تفجرها .. دُهشتُ وهي تخبرني بأسرارِها فوقَ الفراشِ .. وقالتْ شيئًا آخر أثار فضولي أنها ستفشي سرًا خطيرًا في نهايةِ الرحلةِ!.
لكن كيف لي البوح بأسرار بطلتي فخرية وهي سيدة عشوائية؟!. .. لا تفكرُ كثيرًا قبل التحدث .. هوايتها كيلَ التهم للآخرين!.
نعم سأكتُبها في قصة.. سيكونُ الأمرَ مختلفًا .. ستكون باسمٍ آخر وشخصية مختلفة .. وأغير في الحدث قليلًا لو استدعى الأمر.
تركتُ الأم والابنة .. وخرجتُ أدخن سيجارة في المحطة .. وأتمشى قليلاً فوق الرصيف .. رأيتهما كمن تتشاجران .. خرجتْ الابنة تحاول الإمساك بيدي وكأنها تطلب مني أن أكون طرفًا في قصتها .. لكنْ باءتْ محاولتها بالفشلِ حتى بعد أن بدأتْ بالبكاء .. أريدُ أنْ أظلُّ حُرًا.. بل ربما أذهبُ أبعدَ من ذلك حينما أشاركُ القرُّاءَ لحظة ولادة الحدث وتصاعده ثم تذوُّقَ متعةَ الوصولِ للنهاية .. فأنا مثلهم متشوق لها .. لكنّي أخبرتها قبل صعودي القطار: لا تخافي ..
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |