ما هي الليبرالية؟

حسام الدين فياض
2024 / 7 / 3

” الليبرالية مفهوم إنساني يعبر عن " وسيلة متغيرة " لتحقيق غاية ثابتة هي ضمان حرية الفرد والتطلع، من ثم إلى إقامة نظام متكامل من العدل الاجتماعي الشامل، وهو مفهوم أو وسيلة من إبداعات العقل البشري المتطلع دوماً إلى تحقيق غاية عمارة الأرض كغاية كبرى “.
برزت الليبرالية كحركة سياسية خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية بين الفلاسفة والاقتصاديين في العالم الغربي. رفضت الليبرالية المفاهيم الشائعة في ذلك الوقت من امتياز وراثي، ودين دولة، وملكية مطلقة والحق الإلهي للملوك. غالباً ما يُنسب لفيلسوف القرن السابع عشر جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليداً فلسفياً مميزاً. جادل لوك بأن لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة والحرية والتملك، وأضاف أن الحكومات يجب ألا تنتهك هذه الحقوق وذلك بالاستناد إلى العقد الاجتماعي. يعارض الليبراليون المحافظة التقليدية ويسعون لاستبدال الحكم الديكتاتوري المطلق في الحكومة بديمقراطية تمثيلية وسيادة القانون.
تعبّر مقولة الليبرالية عن حقائق تاريخية موضوعية، تغطي على رهانات إشكالية معقدة عاشتها المجتمعات الغربية الحديثة. ولئن كان من الصحيح أن الأطروحة الليبرالية قامت على مثال التقدم والتحرر الإنساني بما اقتضى لاحقاً وضع النظم المؤسسية الكفيلة بتجسيد هذا التحرر، إلا أنها عاشت منذ البداية مفارقة الحاجة المتزايدة للدولة من أجل تكثيف الحريات الفردية في استقلال عن السلطة المركزية.
إن الليبرالية ليست عقيدة كالعقائد الأخرى، إنها عقيدة صنعها بشر أحرار في حد ذواتهم، يرفضون أن يخضعوا لضرورات إيديولوجية سلطوية، ولمفهوم تبسيطي للحتمية الاجتماعية، وأن يضعوا أنفسهم في خدمة الدولة، كما في القومية، التي نجد لها آثاراً في التفكير الجمهوري في فرنسا، أو في خدمة حزب، كما في حالة الفاشية والشيوعية، وحتى الاشتراكية. لا يمكن الليبرالية أن تكون بالتحديد عقيدة دوغمائية، وسيكون هذا تناقضاً في التعبير. إنها عقيدة سلبية: عقيدة مقاومة راديكالية لسلطات السيطرة وللدفاع عن الحرية والكرامة البشرية. وهي كذلك عقيدة إيجابية: تحاول أن تعيد تفسير أهدافها بلا هوادة حيث تلاؤمها مع الشروط الاجتماعية والتاريخية الجديدة، وتتصف بثباتها التكويني وفي الوقت ذاته بمرونتها التطورية لا بقدرتها على التكييف.
ويعني ذلك أن الليبرالية ليست مجرد طريقة تفكير فحسب، بل هي منظومة فكرية كلية تتناول الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية، كما تشمل المناهج الفكرية والعلمية وتقوم على الحياد التام تجاه كل العقائد والملل والمذاهب فلكل فرد أن يعتنق ما يشاء وله الاستقلال التام في ذلك لا يجبر على فكر محدد ولو كان حقاً وهو ما تم التعبير عنه بالحرية الميتافيزيقية، بهذا المعنى تتحقق العلمانية في الفكر الليبرالي، لذا لا نجد دولة تتصف بالليبرالية إلا وهي علمانية المذهب في الفكر والتطبيق. بناءً على ما سبق سنحاول توضيح العناصر التالية:
أولاً- مفهوم مصطلح الليبرالية:
- الليبرالية مصطلح أجنبي معرب مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية، و (Liberalisme Le) في الفرنسية، وهي تعني " التحررية "، ويعود اشتقاقها إلى (Liberty) في الإنجليزية أو (La libirte) في الفرنسية، ومعناها الحرية.
- تعتبر الليبرالية Liberalism " إحدى الإيديولوجيات السياسية الكبرى في العالم الحديث، وهي تتميز بالأهمية التي تعزوها لحقوق الفرد المدنية والسياسية، لأنها مذهب سياسي أو حركة وعي اجتماعي، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وتتحرك (الليبرالية) وفق أخلاق وقيم المجتمع التي يتبناها، فتتكيف حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى آخر. فالليبرالية مذهب سياسي واقتصادي معاً تقوم على فلسفة استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية. وكمفهوم اصطلاحي ترجع إلى الأصول اللغوية اللاتينية التي دخلت إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية بحكم التواصل الثقافي مع الحضارة الإغريقية، ويعود ظهورها في كل من فرنسا وإنكلترا وهولندا إلى القرن السادس عشر، إذ أصبحت إحدى أهم مفردات الثقافة السياسية الأوروبية في ذلك الوقت، ونقلت إلى العربية غداة ترجمتها من أصلها اللاتيني من قبل رفاعة الطهطاوي بـ:(الحرية) والذي ترجم (ليبرالي) إلى (حُريَّ).
- إذن الليبرالية مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها. ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية.
- ويقوم هذا المذهب على أساس عَلماني يعظم الإنسان، ويرى أنه مستقل بذاته في إدراك احتياجاته، تقول الموسوعة الأمريكية الأكاديمية: إن النظام الليبرالي الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) بدأ يضع الإنسان بدلاً من الإله في وسط الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني.
- أما جميل صليبا يرى أنه: " مذهب الحرية (Liberalism) أيضاً مذهب سياسي فلسفي يقرر أن وحدة الدين ليست ضرورية للتنظيم الاجتماعي الصالح، وأن القانون يجب أن يكفل حرية الرأي والاعتقاد ".
- وقد أطلق مصطلح " الليبرالية " على عدة أمور، من أهمها: حركة فكرية ضمن البروتستانتية المعاصرة، وقد أطلق على هذه الحركة اسم "الليبرالية" لأنها تعتمد على حرية التفكير، وانتهاج الفكر العقلاني في التعامل مع النصوص الدينية. يقول " برتراند رسل ": بدأ يظهر في أعقاب عصر الإصلاح الديني موقف جديد إزاء السياسة والفلسفة في شمال أوروبا، وقد ظهر هذا الموقف بوصفه رد فعل على فترة الحروب الدينية والخضوع لروما. ويطلق على هذا الموقف الجديد تجاه مشكلات الميدان الثقافي والاجتماعي اسم الليبرالية، وهي تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عدداً من السمات المميزة، فقد كانت الليبرالية أولاً بروتستانتية في المحل الأول، ولكن ليس على الطريقة الكالفينية الضيقة، والواقع أنها أقرب بكثير إلى أن تكون تطوراً للفكرة البروتستانتية القائلة: إن على كل فرد أن يسوي أموره مع الله بطريقته الخاصة، هذا فضلاً عن أن التعصب والتزمت يضر بالأعمال الاقتصادية.
والبروتستانتية في حد ذاتها اختصرت الطريق أمام الليبرالية العقلانية المحضة، وهذه الحركة الفكرية داخلها أطلق عليها اسم الليبرالية مع أنها لازالت حركة دينية لأنها فسرت الدين بطريقة معينة جعلته متوافقاً مع الليبرالية العلمانية.
- يقول منير البعلبكي: " كما يطلق لفظ " الليبرالية " كذلك على حركة في البروتستانتية المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية، وعلى مضمون النصرانية الروحي والأخلاقي، وقد كان من آثار هذه الحركة انتهاج الطريقة التاريخية في تفسير الأناجيل ".
- فقد نشأت الليبرالية كردة فعل غير واعية بذاتها ضد مظالم الكنيسة والإقطاع، ثم تشكلت في كل بلد بصورة خاصة، وكانت وراء الثورات الكبرى في العالم الغربي (الثورة الإنجليزية، والأمريكية، والفرنسية)، ولكن نقاط الالتقاء لم تكن واضحة بدرجة كافية، وهذا يتبين من تعدد اتجاهاتها وتياراتها.
- يقول " دونالد سترومبرج ": " والحق أن كلمة الليبرالية مصطلح عريض وغامض، شأنه في ذلك شأن مصطلح الرومانسية، ولا يزال حتى يومنا هذا على حالة من الغموض والإبهام ".
- وفي الموسوعة الشاملة: " تعتبر الليبرالية مصطلحاً غامضاً لأن معناها وتأكيداتها تبدلت بصورة ملحوظة بمرور السنين".
- وتذهب الموسوعة البريطانية: "ونادراً ما توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، بل إن بعضها تنهار بسببه".
- وإذا ذكر اسم " الليبرالية " فإنه – كما يقول برترناند رسل -: تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عدداً من السمات المتميزة ".
* ومن أهم أسباب غموض مصطلح الليبرالية: غموض مبدأ الحرية، حيث يعتمد مفهوم الليبرالية على الحرية اعتماداً تاماً، ولا يمكن إخراج "الحرية" من المفهوم الليبرالي عند أي اتجاه يعتبر نفسه ليبرالياً.
بمعنى أنه كمفهوم لا يمكن تحديده وضبطه، لأن أصحاب الأفكار المختلفة في الحرية الليبرالية يعتمد كل واحد منهم على " الحرية " في الوصول لفكرته وقد خرجت أفكار مضادة لليبرالية من رحم الحرية التي تعتبر المكون الأساسي لليبرالية مثل: الفاشية، والنازية، والشيوعية، فكل واحدة من هذه المذاهب تنادي بالحرية، وتعتبر نفسها الممثل الشرعي لعصر التنوير، وتتهم غيرها بأنه ضد الحرية.
وقد حصل التنازع بين اتجاهات الليبرالية في تكييف " الحرية "، والبرامج المحققة لها، ومن هذا المنطلق جاء المفهوم السلبي، والمفهوم الإيجابي للحرية.
ثانياً- الأسس الفكرية لليبرالية: تقوم الليبرالية على أسس فكرية هي القدر المشترك بين سائر اتجاهاتها وتياراتها المختلفة، ولا يمكن اعتبار أي فرد ليبرالياً وهو لا يقر بهذه الأسس ولا يعترف بها، لأنها هي الأجزاء المكونة لهذا المذهب والمميزة له عن غيره.
- وتنقسم هذه الأسس المكونة لليبرالية إلى قسمين:
• ذاتية مميزة لليبرالية عن غيرها من المذاهب الفكرية الغربية التي ظهرت في عصر النهضة والتنوير، وهي أساسان هما: " الحرية " و " الفردية ".
• مشتركة بين الليبرالية وغيرها من المذاهب الفكرية الغربية، وهي أساس واحد هو: "العقلانية"، فكل المذاهب التي ظهرت في أوروبا في العصر الحديث خرجت من الفكر العقلاني الذي يعتقد باستقلال العقل في إدراك المصالح الإنسانية في كل أمر دون الحاجة إلى الدين.
فالليبرالية حقيقة مركبة تركيباً تاماً من " الحرية الفردية العقلانية "، ولكن هذه الأسس المكونة لحقيقتها مجملة، تعددت تصورات الليبراليين في تفصيلاتها الفكرية، فضلاً عن آثارها العملية، والطريقة التطبيقية أثناء العمل السياسي أو الاقتصادي.
- الأساس الأول (الحرية): التي تعني أن الفرد حر في أفعاله، ومستقل في تصرفاته دون أي تدخل من الدولة أو غيرها، فوظيفة الدولة حماية هذه الحرية، وتوسيعها، وتعزيز الحقوق، واستقلال السلطات، وأن يعطى الأفراد أكبر قدر من الضمانات في مواجهة التعسف والظلم الاجتماعي.
- الأساس الثاني (الفردية) الفردية هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة، فها هو عصر النهضة يأتي كرد فعل لفكر القرون الوسطى، ويتحرر الفرد من الانضباط الكاثوليكي الطويل.
وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطاً وثيقاً، فأصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته.
- بالمقابل جاءت هذه الفردية بمفهومين مختلفين:
• أحدهما: الفردية بمعنى الأنانية وحب الذات، وهذا المعنى هو الذي غلب على الفكر الغربي منذ عصر النهضة وإلى القرن العشرين، وهذا هو الاتجاه التقليدي في الأدبيات الليبرالية.
• والثاني: الفردية بمعنى استقلال الفرد من خلال العمل المتواصل والاعتماد على النفس، وهذا هو الاتجاه البراغماتي، وهو مفهوم حديث للفردية.
- الأساس الثالث: العقلانية: تعني العقلانية استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية، وقد تم استقلاله نتيجة تحريره من الاعتماد على السلطة اللاهوتية الطاغية.
ونلاحظ أن الاعتماد على العقل وتحييد الدين جاء بصورة متدرجة، ولكنه استحكم في عصر التنوير، وزاد ترسيخه كمصدر وحيد للمعرفة في القرن التاسع عشر الذي هو قمة الهرب الليبرالي. وقد أصبح الاعتماد على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق سمة من أبرز سمات الفكر الأوروبي المعاصر.
ثالثاً- عوامل نشأة الليبرالية في الغرب: أوروبا بين الانحراف الديني والاستبداد السياسي، فيمل يلي:
1- الانحراف الديني: ظهرت دعوة المسيح – عليه السلام - في المستعمرات الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وهي إمبراطورية وثنية لا تؤمن إلا بالأمور الحسية، وشديدة الاعتداد بالشهوات الجسدية. وتعتبر الإنساني سيد المخلوقات.
وقد قابل الرومان أتباع الدين الجديد بالاضطهاد والتعذيب وساندهم في ذلك اليهود الحاقدون على المسيح عليه السلام والحواريين، مما اضطرهم إلى الهروب والاختفاء بدينهم.
في هذه الأجواء القاسية عاشت النصرانية، وفي مناخ الاضطهاد والمطاردة والقتل والتعذيب تربى أتباع المسيح عليه السلام وقد ظن الرومان أنهم قضوا على هذا الدين بصلب نبيهم وقتله.
وقد قام اليهود بدور خطير في القضاء على النصرانية، وهو التحريف والتبديل من الداخل. وعند التأمل في عقائد النصارى بعد التحريف نجد التشابه الكبير مع عقائد فلسفية كانت موجودة في حوض البحر المتوسط كالعقيدة المترائية، والأفلاطونية الحديثة، والفلسفة الرواقية وغيرها.
2- الاستبداد السياسي: إن النظام السياسي الذي كان يحكم المجتمع الأوروبي في العصر الوسيط هو " نظام الإقطاع " وهو نظام جاهلي مستبد، وصل إلى ذروة الطغيان والعدوان على حرية الإنسان. وقد تكون هذا النظام بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، ودخول البرابرة إلى روما، وانهيار الإمبراطورية الغربية وتفكك الدول المرتبطة بها وانقسامها.
رابعاً- اتجاهات الليبرالية: قبل الدخول في الاتجاهات نجد أن الليبرالية تعود لتراثين، يحمل كل واحد منهما ما يميزه عن الآخر، وهما:
• التراث الإنجليزي: وهي مبادئ الليبرالية الكلاسيكية، إضافة إلى تغليب الحرية على المساواة، وإرجاع مفاهيم العدالة الاجتماعية ومساواة الفرص إلى إمكانية الحرية لكل فرد في البدايات، وأما النتائج فلا تدخل المساواة فيها. واعتبروا تدخل الدولة بالإعانات المقدمة للفقراء عدواناً على حرية الأغنياء، فهي تؤمن بالمفهوم السلبي للحرية.
• التراث الفرنسي: تؤمن بالمفهوم الإيجابي للحرية وبتغليب المساواة على الحرية لأنها أساس الديموقراطية وأهمية تقدم الدعم والضمانات الاجتماعية للفقراء.
1- الليبرالية الكلاسيكية: هذا الاتجاه هو النموذج المعتمد لليبرالية فهو الأقدم من حيث النشأة، ظهرت في القرن الثامن عشر، وكذلك تعود إليه الأفكار الليبرالية القديمة، ويعتمد هذا الاتجاه على الحرية الفردية، ومنع تدخل الدولة وغيرها سواء في الاقتصاد أو غيره، ويعتقد الكلاسيكيون أن ترك الفرد يحقق مصلحته الذاتية الخاصة كفيل بتحقيق السعادة للمجتمع بشكل طبيعي دون تدخل بشري.
2- الراديكالية الفلسفية (مذهب المنفعة القانونية): يعتبر هذا الاتجاه في جوهره برنامج من إصلاحات قانونية واقتصادية وسياسية، تعتمد على مبدأ " تحقق أعظم السعادة لأكبر عدد ".
ويعود هذا الاتجاه (لجيرمي بنثام)، (جيمس مِل) وغيرهما، وقد بني على أساس أخلاقي وهو أن مبدأ المنفعة معيار الصواب والخطأ هي تحقيق اللذة والتخلص من الألم، واللذة والتحرر من الألم هو الغرض الوحيد للرغبة والإرادة. وهكذا يصبح تحقيق اللذة والمصلحة الذاتية الخاصة جوهر مذهب المنفعة وبذلك تكون الحقيقة الطبيعية للنفس الإنسانية هي الأنانية وحب الذات والأثرة.
3- الليبرالية الفكرية: ارتبطت الليبرالية في المجال الفكري بجهود " جون ستيوارت مل "، وقد جاءت جهوده في فترة مهمة من تاريخ الليبرالية، وقد اقتضت هذه الفترة وجود آراء تجديدية، لأن الشعارات الليبرالية تبين زيفها مما دعا لإعادة التقويم لليبرالية.
ومن جهود ملْ التطويرية إبراز حرية الفكر والرأي، والانتقال من الكلام في ليبرالية الدولة إلى الحديث في ليبرالية المجتمع، ومن خلال حرية الفكر والرأي انطلق ملْ في آرائه السياسية.
إن ما اعترف به ملْ لم تراه أبداً الليبرالية القديمة إنه لابد أن يكون وراء كل حكومة ليبرالية مجتمع ليبرالي. فالمجتمع الليبرالي أو الجماعة يصبح عاملاً ثالثاً له الغلبة في العلاقة بين الفرد والحكومة، وفي كفالة حرية الفكر.
4- التحليل الحديث (المدرسة الكلاسيكية الحديثة): ظهر هذا الاتجاه في ظروف اجتماعية متناقضة، وناقمة على أسلوب الإنتاج الرأسمالي، فهو اتجاه فكري اقتصادي ليبرالي، وأسلوب جديد مبتكر للتحليل الاقتصادي، وقد قام هذا الاتجاه على فكر ثلاثة من أبرز الاقتصاديين الليبراليين وهم: " ستانلي جيفونز "، " وليون فالراس "، و " كارل منجر ".
وقد تأثر هذا الاتجاه بفكر " الراديكالية الفلسفية " حيث يرون أن مشكلة علم الاقتصاد هي إشباع حاجاتنا إلى أقصى حد بأقل حد. ووضعوا على هذا الأساس نظرية القيمة توهموا أنها خرجت من الفكر الاقتصادي المحض دون ارتباط بأي نظام اجتماعي لاعتمادها على المنفعة.
5- الليبرالية الاجتماعية: يعد هذا الاتجاه من أشهر الاتجاهات في مقابل الليبرالية الكلاسيكية. والمبرر لظهور هذا الاتجاه المساوئ الاجتماعية العنيفة والأزمات المتعددة لليبرالية ومن أبرز هذه الأزمات أزمة الكساد العظيم في 1929م، مثل انتشار البطالة والفقر وغيرها، وأنه من الضروري تدخل الدولة وقيامها بدورها الإيجابي لعلاج المشكلات الاقتصادية، لذلك أٌتهمت هذه المدرسة بخروجها عن الليبرالية إلى الاشتراكية، وكان من أشهر منظري هذا الاتجاه (جون كينز) والذي سادت آراؤه بين أربعينيات وتسعينيات القرن العشرين، وعند ظهور عيوب الطريقة الكنزية ظهرت مدرسة ما يسمى (بالطريق الثالث) لتجديد الليبرالية الاجتماعية ولمواجهة تيار العولمة الذي يمثل الليبرالية الكلاسيكية الجديدة، وقد تبنى هذه المدرسة مجموعة من الزعماء الغربيين مثل الأمريكي (بيل كلنتون) والإنجليزي (توني بلير) والألماني (غيرهارد شرودر).
6- الليبرالية البراغماتية: هذا الاتجاه هو اتجاه " الليبرالية الأمريكية "، فقد بدأت الليبرالية الأمريكية متأثرة بجون لوك، ولكن ما لبثت أن تطورت بعد الثورة الصناعية الهائلة لتصبح أكثر عملية ومادية، ومن ثم اعتنقت فلسفة جديدة تعتمد على النتائج العملية في النظرة للحياة وهي (البراغماتية) وقد أصبحت النظرة الأمريكية الجديدة للحياة (البراغماتية) بمثابة إصلاح وتعديل للفكر الليبرالي ليكون موافقاً لروح العصر وظروفه المتغيرة، وليكون دعماً لتقدمه ونموه في ظل المتغيرات التقنية. والبراغماتية فلسفة أمريكية خالصة تركز على فردية الإنسان ونفعيته بصورة عملية مستقبلية.
7- الليبرالية الجديدة: هذا الاتجاه هو آخر أطوار الليبرالية، وهو الليبرالية التي تبنته الدول الصناعية الكبرى والمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية وبدأت آثاره ومعالمه تتضح أكثر فأكثر.
وقد أصبح صوت هذا الاتجاه هو المرتفع لتبني الإمبراطورية الأمريكية له، لاسيما في ظل نظام القطب الواحد وقد شعرت بقية الدول المعتقدة بأفكار اقتصادية مخالفة له تشعر أنه لا مجال في قبوله ولا يمكن رفضه بالوقت ذاته، ولهذا أخذت في تعديل ما تعتقده من أفكار ليتوافق معه، ويصبح مشابهاً له، كما حدث في الاتجاه الأوروبي الذي يعتقد أكثر أعضائه بالليبرالية الاجتماعية.
- السؤال الذي يطرح نفسه علينا ما هي الحريات الأربع التي استند إليها النظام الليبرالي لتوطيد دعائم نظامه الاجتماعي؟ في حقيقة الأمر حاول هذا النظام الدفاع عن الحريات التالية: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية.
تسعى الحرية السياسية إلى جعل للفرد كلاماً مسموعاً، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامة للأمة، ووضع خططها، ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها، وذلك لأن النظام الاجتماعي للأمة والجهاز الحاكم فيها مسألة تتصل اتصالاً مباشراً بحياة كل فرد من أفرادها، وتؤثر تأثيراً حاسماً في سعادته أو شقائه، فمن الطبيعي حينئذ أن يكون لكل فرد حق المشاركة في بناء النظام والحكم. وإذا كانت المسألة الاجتماعية مسألة حياة أو موت، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامة، فمن الطبيعي أيضاً ألا يباح الاضطلاع بمسؤوليتها لفرد أو لمجموعة من الأفراد - مهما كانت الظروف - ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله على الأهواء والأخطاء.
فلا بد إذاً من إعلان المساواة التامة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافة، لأنهم يتساوون في تحمل نتائج المسألة الاجتماعية، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية. وعلى هذا الأساس قام حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام، الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم عن أكثرية المواطنين.
أما عن الحرية الاقتصادية فإنها ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحر الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح، وتقرر فتح جميع الأبواب وتهيئة كل الميادين أمام المواطن في المجال الاقتصادي، فيباح التملك للاستهلاك وللإنتاج معاً، وتباح هذه الملكية الإنتاجية التي يتكون منها رأس المال من غير حد وتقييد، وللجميع على حد سواء فلكل فرد مطلق الحرية في إنتاج أي أسلوب، وسلوك أي طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها، على ضوء مصالحته ومنافعه الشخصية. وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرية الاقتصادية: أن قوانين الاقتصاد السياسي التي تجري على أصول عامة بصورة طبيعية كفيلة بسعادة المجتمع وحفظ التوازن الاقتصادي فيه، وأن المصلحة الشخصية - التي هي الحافز القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه - هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامة، وأن التنافس الذي يقوم في السوق الحرة نتيجة لتساوي المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية الاقتصادية يكفي وحده لتحقيق روح العدل والإنصاف في شتى الاتفاقات والمعاملات.
فالقوانين الطبيعية للاقتصاد تتدخل - مثلاً - في حفظ المستوى الطبيعي للثمن بصورة تكاد أن تكون آلية، وذلك أن الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأن ارتفاع الثمن يؤثر في انخفاض الطلب، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر، ولا يتركه حتى ينخفض به إلى مستواه السابق، وبذلك يزول الشذوذ.
تفرض المصلحة الشخصية على الفرد دائماً التفكير في كيفية زيادة الإنتاج وتحسينه، مع تقليل مصارفه ونفقاته، وذلك يحقق مصلحة المجتمع في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصة بالفرد أيضاً. والتنافس يقتضي - بصورة طبيعية - تحديد أثمان البضائع وأجور العمال والمستخدمين بشكل عادل لا ظلم فيه ولا إجحاف، لأن كل بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه أو تخفيض أجور عماله، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجين.
تعني الحرية الفكرية أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم، يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم، أو ما توحيه إليهم رغباتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة، فالدولة لا تسلب هذه الحرية عن فرد، ولا تمنعه عن ممارسة حقه فيها والإعلان عن أفكاره، ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.
أما الحرية الشخصية فإنها تعبّر عن تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف ألوان الضغط والتحديد، فهو يملك إرادته، وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم. فالحد النهائي الذي تقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد: حرية الآخرين، فما لم يمسها الفرد بسوء فلا جناح عليه أن يكيف حياته باللون الذي يحلو له، ويتبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها، لأن ذلك مسألة خاصة تتصل بكيانه وحاضره ومستقبله. وما دام يملك هذا الكيان فهو قادر على التصرف فيه كما يشاء.
وليست الحرية الدينية - في رأي الليبرالية التي تنادي بها - إلا تعبيراً عن الحرية الفكرية في جانبها العقائدي، وعن الحرية الشخصية في الجانب العملي الذي يتصل بالشعائر والسلوك. ويستخلص من هذا العرض: أن الخط الفكري العريض لهذا النظام - كما أشرنا إليه - هو أن مصالح المجتمع مرتبطة بمصالح الأفراد، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها. هذه هي الديمقراطية الليبرالية في ركائزها الأساسية التي قامت من أجلها جملة من الثورات، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأمم، في ظل قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعددون محاسنها كأنهم يصفون الجنة في نعيمها وسعادتها، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء، وقد أجريت عليها بعد ذلك عدة تعديلات، غير أنها لم تمس جوهرها بالصميم، بل بقيت محتفظة بأهم ركائزها وأسسها.
خلاصة القول إن الليبرالية - حسب ديفيد بروكس - تطورت على مدى القرنين الماضيين بوصفها نظاماً يحترم الكرامة الإنسانية ويحتفي بحرية الاختيار الفردية. فبموجب الليبرالية الديمقراطية، لا نصدر أحكاماً على الطريقة التي تحددون بها الغرض من حياتكم، ولكن كل ما نرجوه هو أن نقيم أنظمة تعاون عادلة تستطيعون في ظلها أن تسعوا أحراراً إلى الأغراض التي تختارونها بحرية، مهما تكن هذه الأغراض. فالليبرالية تنزع إلى اللامبالاة بأغراض الحياة، مستعيضة عن ذلك بالتركيز على العمليات والسبل، من قبيل سيادة القانون، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير، والمراجعة القضائية، والانتخابات الحرة، والنظام الدولي القائم على القواعد. كما يخلص بروكس إلى أن نجاة الليبرالية واستمرارها يكمن في اعترافها بما يستشعره الناس من نقص وفقر في حياتهم، وبعجزها عن تعويض ذلك، ويقول إن الليبرالية طريقة رائعة لإقامة مجتمع عادل يساعد أشتات الناس في الحياة معاً في سلام. لكن لا يمكنها أن تكون الغرض النهائي في الحياة. فعلينا أن نكون ليبراليين في الفضاء العام، وأن نتبنى في عمق وجودنا ولاءات، فنكون كاثوليكيين أو يهوداً أو رواقيين أو مناصرين للبيئة أو ماركسيين أو منتمين إلى أية عقيدة مقدسة ووجودية أخرى. فالناس بحاجة إلى الشعور بأنهم مرتبطون بنظام أسمى، والقواعد اللطيفة لا تشبع هذا التوق.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي