|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
اسحق قومي
2024 / 6 / 30
في مُقَدِّمَةٍ قَصيرَةٍ أقول: يَرَى بَعضُ أَتْرابِنا ومَنْ يُعَاقِرونَ صَنْعَةَ الكِتابَةِ والتَّشْكِيلِ والبُحوثِ، بأَنَّ الأَديبَ النَّاجِحَ والمُوفَّقَ والذَّكِيَّ هو ذاكَ الذي ابْتَعَدَ عن الدُّخولِ في قَضايا حَياتِيَّةٍ وسُلوكِيَّةٍ تَعُمُّ المُجْتَمَعَ لابَلِ المُجْتَمَعاتِ، وزَهِدَ في قَوْلِ الحَقِّ وذلكَ لِكَثْرَةِ الرِّياءِ وتَفَشِّيهِ بينَ العَامَّةِ والخاصَّةِ. ويَعْتَبِرونَ الأَكْثَرَ حَضَارِيَّةً وتَقَدُّمِيَّةً وإنسانِيَّةً ذاكَ الذي خَصَّ نَفْسَهُ وابْتَعَدَ عن مُعَالجَةِ قَضايا عَويصَةٍ وعَدَمِ الدُّخولِ مع الآخَرِينَ في سِجالاتٍ سُفْسِطائِيَّةٍ، ومِثْلُ هذا يَعْتَبِرُ كُلَّ ما يَدورُ حَوْلَهُ لا يَعْنِيهِ لأَنَّهُ فَقَدَ الثِّقَةَ في أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ شيءٍ مِمَّا يَعْتَرِي مُجْتَمَعَهُ. وبهذا المَعْنى فإنَّنا نَرَى وُجودَ نَوْعَيْنِ من الغَيِّ والخُبْثِ والرِّياءِ والمُهادَنَةِ في هذا القَوْلِ أو الرَّأْي. فإذا كان هذا المُدَّعِي بالثَّقافَةِ وأنَّهُ نِبْراسٌ في المُجْتَمَعِ ويدعو للتَّنويرِ ويَدَّعِي بالثَّقافَةِ لا يُعَالجُ مع ثُلَّةِ أقرانِهِ قَضايا خَطِيرَةٍ تَنْخَرُ مُجْتَمَعَهُ أو أَبْناءَ أُسْرَتِهِ الصَّغيرَةِ والكَبيرَةِ فإنَّني أَرَى فيهِ وبِمَنْ يَتَقاطَعُ معهُ في مِثْلِ هذا الرَّأْي بأنَّهُ خِيانَةٌ واضِحَةُ المَعالِمِ وجَرِيمَةٌ من أَكْبَرِ الجَرائِمِ التي يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيها وهو المَعْنِيُّ بها وبِمُعَالَجَتِها. ونحن لا نَفْتَرِضُ سَلَفاً بأَنَّ مُشارَكَتَهُ سَتَكونُ سِحْراً تُحَقِّقُ أَهْدافَها.
ورَغْمَ أَنِّي أُرِيدُ الابْتِعادَ عن رَأْيِ الوجودِيَّةِ السارترِيَّةِ التي أَزْعُمُ أَنِّي انْتَسَبْتُ لَها دَهْراً، وأَعْنِي ما أَتَّفِقُ بهِ مع الفَيلَسوفِ الأَلمانِيِّ هايدغر حِينَ يقولُ: «أَنْ تَكونَ إنْساناً يَعْني أَنْ تَكونَ في هذا العالَمِ». والكَينونَةُ هنا هي صِيرورَةٌ تَشيرُ إلى الوُجودِ الإنسانيِّ في العالَمِ، وذاكَ الوُجودُ المُحَدَّدُ بالزَّمانِ والمَكانِ. الكَينونَةُ وصَلاحِيَّتُها في الوُجودِ هذا الأَمْرُ يُقْلِقُ أَصْحابَ نَظَرِيَّةِ عَدَمِ نَقْدِ الحاصِلِ في المُجْتَمَعاتِ، وأنَّ الزَّمَنَ كَفيلٌ بإِصْلاحِ ما هو غَيْرُ نافِعٍ وغَيْرُ مُفِيدٍ. رَغْمَ أنَّ القَوْلَ (لا يُصْلِحُ العَطَّارُ ما أَفْسَدَهُ الدَّهْرُ). إنَّما أَصْحابُ هذهِ النَّظَرِيَّةِ البائِسَةِ والخَبِيثَةِ لا يُرِيدونَ أَنْ يُقَدِّموا أَنْفُسَهُمْ في سِجالٍ ومَحْرَقَةٍ تُؤَدِّي إلى ضَياعِ أَوْقاتِهِمْ وحَياتِهِمُ القَصِيرَةَ كما يَراها الفَيلَسوفُ الأَلمانِيُّ هايدغر.
ولكن في هذهِ الجُزْئِيَّةِ أَرَى أَنَّ هُناكَ تَناقُضاً يَتَبَناهُ أَصْحابُ النَّظَرِيَّةِ العَبَثِيَّةِ إذْ أَنَّ هايدغر يَرى أَنَّ الوُجودَ لا يَكونُ وُجوداً حَيّاً بدونِ تَفاعُلٍ حَقِيقِيٍّ من قِبَلِ الإنسانِ مع مُجْتَمَعِهِ وقَضاياهِ، وهذا وَفْقاً للمَنْهَجِ الظّاهِراتِيِّ الذي يقولُ بأَنَّنا نُدْرِكُ العالَمَ من خِلالِ خِبْراتِنا واهْتِماماتِنا، وتَخْتَلِطُ في ذاكَ الإِدْراكِ العاطِفَةُ التي تَلْعَبُ دَوْراً في تَقديمِ مُقارَباتٍ نَظُنُّها أَنَّها واقِعِيَّةٌ ومَنْطِقِيَّةٌ. ولا نُريدُ هنا أَنْ نَتَبَنى مَفاهيمَ الفَلسَفَةِ الوُجودِيَّةِ لأَنَّنا نُحاوِلُ تَقديمَ مَوْضوعٍ أَراهُ مُتَفَشِّياً فيما بَيْنَ مَنْ يَدَّعونَ بالثَّقافَةِ والعِلْمِ، ومُفادُهُ كما قُلْنا النَّأْيُ عن نَقْدِ أَغْلَبِ الظَّواهِرِ الاجْتِماعِيَّةِ والسُّلوكِيَّةِ العامَّةِ التي تَغْلِبُ عَلَيْها السُّلوكِيَّةُ العَبَثِيَّةُ هذه الأَيّامِ.
إنَّ الآراءَ في هذهِ الجُزْئِيَّةِ سَتَخْتَلِفُ وتَتَراوحُ ما بَيْنَ المُؤَيِّدِ مع تَحَفُّظِهِ على المَنْهَجِيَّةِ التي يَتَبَناها المُحاوِرُ أو صاحِبُ المَشْروعِ، وما بَيْنَ آلِيَّةِ الحِوارِ ومَحَطاتِهِ وكَمْ تَقْتَرِبُ من جَوْهَرِ وحَقيقَةِ الظَّواهِرِ الاجْتِماعِيَّةِ، كما سَيَكونُ هُناكَ أَسْئِلَةٌ تَدورُ في مَحاوِرِ الشَّكِّ إِحْداهَا يقولُ: هَلِ الظَّاهِرَةُ التي تَراها أَنْتَ خَطَراً أو خَطَأً أَراها أَنا كما تَراها؟
ما هي المعاييرُ التي تتبناها في تَقييمكَ للظاهِرَةِ؟ وكيف نَثِقُ بأنَّ ما تَقولُهُ من رَأيٍّ يُقاربُ الحقيقةَ في جَوهرِ الظاهِرَةِ أمْ أنَّ المُجتمعاتِ لتقدمها وتطورها والزياداتِ السكانية ومتطلباتِ الحياةِ واختلافِ الآراءِ كُلَّها تُشكِّلُ عائقاً حقيقياً أمامَ رؤيةٍ صائبةٍ وسليمةٍ؟ ولهذا إنَّ السيرورةَ للمُجتمعاتِ كفيلةٌ بأن تُصفي كُلَّ الإرهاصاتِ والأمراضِ والظواهرِ الشاذةِ التي تراها أيُّها الواقعيُّ والموضوعيُّ والعلميُّ.
هذا الردُّ من قِبَلِ المدرسةِ العَبَثِيَّةِ قد يُحيلُنا إلى سُؤالٍ واقعيٍّ وحقيقيٍّ. وبِناءً على آليةِ وجَوهرِ النظريةِ الطبيعيةِ في التعلُّمِ كما في المدارسِ التربويةِ، فإننا نقعُ غالباً في أتونِ التجرِبةِ غير القائمةِ على العلمِ، بل إنَّ الحَدسَ هو من يقودُنا إليها.
كثيرةٌ هي المحطاتُ لكننا نكتفي بهذا القدرِ وننتهي إلى رَأيٍّ هو أنَّ أيَّ مرضٍ اجتماعيٍّ يُشبِهُ المرضَ الفرديَّ، وخاصةً تلكَ الأمراضَ المُعْديةَ. فإذا لم نذهب نَقِي أنفسَنا أَولاً منها، وإذا لم يَذْهَبِ المريضُ إلى الطبيبِ ويُعطيهِ الدواءَ ويبقى في البيتِ، فإنَّهُ خَطَرٌ على نَفْسِهِ وعلى المُحيطينَ به.
ونعتقدُ بأنَّ هذهِ الفكرةَ لكي تتحققَ فعاليتُها في معالجةِ الأمراضِ الاجتماعيةِ لا يمكنُ أن يُنجزَها نَقدٌ يُقدِّمهُ الأديبُ أو الباحثُ لنفسِه. ومن هنا أؤمنُ وأثقُ بأنَّ يكونَ في كُلِّ قارةٍ أو دولةٍ رابطةٌ للمثقفينَ تُعالجُ في اجتماعاتِها الدوريةِ مواضيعَ الأمراضِ الاجتماعيةِ والظواهرِ والسلوكياتِ التي تَرَى بأنها خطرٌ على المجتمعاتِ والعالمِ.
إنَّ أيَّ مجتمعٍ يَخلُو من النُّقادِ والعمليةِ النقديةِ القائمةِ على منهجيةٍ واضحةِ المعالمِ وأهدافِها وغاياتِها واضحةٍ، فهي مجتمعاتٌ تَعيشُ التَّخَلُّفَ أو أنها مجتمعاتٌ مُتَقَدِّمةٌ ومُتَطَوِّرةٌ ولكنها تَعيشُ الفوضى الخلاقةَ.
برأيي إنَّ تركَ الأمورِ والأمراضِ الاجتماعيةِ على علاتها، وأنَّ هناك الدولةَ هي المسؤولةُ عن معالجةِ تلك الأزماتِ عن طريقِ المُحاسبةِ القانونيةِ لأفرادٍ يَعبَثونَ بمُقدراتِ المجتمعِ هو أمرٌ عبثيٌّ لا يُفضي إلى نتائجٍ غير التدميرِ في نهايةِ الأمرِ. فالسدودُ لا تنهارُ إلا إذا زادت وتراكمت كَمِيَّةُ المياهِ الزائدةِ عن قُدرَتِها خَلْفَها، أو أصابها زلزالٌ أو عبَثَ برأسِ السَّدِ أحدُ العابثينَ.
ومن خلالِ التجربةِ الشخصيةِ يمكنُ أنَّ الفردَ يكونُ في حالةٍ من الهدوءِ والراحةِ إذا ما عالجَ كُلَّ المستجداتِ في وَقتِها ووضعَها في نِصابِها السليمِ.
وللحديثِ صلةٌ.
إسحق قومي، 29/6/2024م