نعم للحياة

عثمان بوتات
2024 / 6 / 23

مقدمة

إني أكتب بإيقاع سريع، وإن أفكاري كالمنشار تحطم ذهابا وايابا، وإني أتعمد السخرية حيال ذلك بشكل فاضح. وإني دوما أناقض أفكاري وأنتقدها بعنف، ذلك أن من يقرأ لي عاجز حتى على الفهم! وبقدر خطورة جرأتي هذه بقدر ما أقدرها كطبع.
فلطالما تناقضي كان بالنسبة لي سلاح ذو حدين. فالبنسبة لي اليوم قد أرى الصواب في فكرة، وغدا في نقيضها. لكنني كفؤ بما يكفي لمجابهة منتقديَّ، وذلك أنه سلف وخضت هذه المعركة مع نفسي.
ولأجل هذه الدينامية الفكرية، أجد نفسي ملزم أن ابتدع شخصية أحاورها، قد تكون هي نفسي في ما مضى أو هي شخصية اعتادت سؤالي. لكن الأهم، أن تكون شخصية شاهدة على مراحل ارتقاء حكمتي.
مع ذلك، فإنني لا أعشق القارئ الذي يشاركني قلقي وزخمي الفكري، أو يفهمه، أو ينتقده. الحق يقال، أحيانا أشك أن تفلسفي عادة سيئة! لكنها جديرة بالتقدير، كما جدير بالتقدير ذلك الذي يشاركني قلقي. لكنني أعشق من يقترب من حكمتي وليس من الحكمة، أعشق كل روحاني وأبحث عن كل روحاني، قادر على تفهمي وفهمي حول نيتي؛ أنها ليست نية سخرية أو هدم أو إغراء، وإنما نية لطيفة في الواقع، وهي تميز نهايات كتاباتي... إني أبحث عن من وجدني في النهاية.
" افهمني ، أنا لست كالعالم التقليدي ، إن لدي جنوني ، وأعيش في بُعد آخر وليس لدى الوقت للأشياء التي بلا روح " تشارلز بيوكاوسكي


الفصل الأول

1

أ ترغب بالحرية؟ إذن تلزمك الشجاعة. والشجاع من تكبد مسؤولية وضعه، وهو حر في اختياراته من عدمها. لكن من يكشف عن حريته يصير متباه بها، ويُرى كأبله! إن حالة الحرية تتطلب بالفعل شجاعة وجهد فكري، دفع بك إلى إلقاء كل مفهوم من شأنه أن يقنعنك بوجودك الضروري أو المقدّر؛ ولهذا السبب أنت محكوم عليك بالحرية لو كسبت الشجاعة. وأما إذا وجدت نفسك خاضع، فإنك جبان! لكن على الأقل تبدو حكيم.

لكن قيمة الشجاعة محدودة بالخارج، أي في مواجهة الخارج. وهي قيمة فاضلة على الجبن مثلا. لكن، الحذر أن تقف-بوصفك مفكر نزيه-عند هذا الحد، أي الخارج -إن مواجهة الخارج، بالنسبة للشجعان، معركة تتعب الروح! والأمر السيان بالنسبة لغير الشجعان، أولئك الذين تقاد بهم بالمعركة.

يا من تخلصوا من ثقل أقدارهم! ويا من تكبّدوا عناء صنعها! إنه في النهاية أنتم جميعا في معركة ضد الأقدار، التي تصنعونها أو تصنع لكم، أي الحياة. وإنها مؤلمة بالنسبة لكم جميعا، أليس كذلك؟!

2

أما أنت فتحتاج لطاقة الاستمرار معي.

الشجاعة والجبن على حد مساو يجعل منك إما شخصية متفائلة و إما متشائمة، ناحية الحياة. وبالرغم من مقاومتك الشريفة، تزال مريض ومتألم وغير راضي عن دورك كقائد أو كأحد من القطيع.

إن الحياة تشبه المرأة في احترامها. إنها لا تلتفت إلا لمن لا يعيرها أي اهتمام. وأما ذلك الذي يطمع بها فتسخر منه مهما بدى جدير بها. إنها تحترم من يفهمها، وأما من يرى فيها ما ليس فيها فهي تحتقره. فالحذر إذن! أن تتفاءل أو تتشاءم، إنها تريدك واقعي، تذكر! أي أن تعترف بأن الألم متأصل بطبيعتها ولا هروب منه.

لكنك تجحد جاهدا أليس كذلك! إنه أشبه باعتراف المريض بمرضه، أعلم.

فهل للمريض أمل في العلاج دون أن يعترف بمرضه؟

3

أنه لا فرق بين حياتك وحياة الأخر، فأكنت تعيش اليسر أم العسر بحياتك فلا قدرة لك بصرف النظر عن ذلك كي تفر من الألم. إننا جميعا نعاني، نمرض، نشيخ، ونموت! وليس لجودة حياتنا أو مدتها أو أو... أي دور في منع الألم.

لكن الإنسان بطبعه يميل إلى التغاضي!

إنه من العبث أن نولد، نعاني، ونموت!!! محال! لن نقبل هذا بالترحيب.

لهذا فالإنسان كان بحاجة إلى التفاؤل. ولعل تفاؤله المدهش لحد الآن أمَلُه في الخلود والخلاص. أو كان بحاجة إلى التشاؤم، ولعل تشاؤمه الموفق لحد الآن قد جعل منه نفعي متشبث بالحياة بقوة ويرغب في عيشها بأكبر قدر من الرغد.

4

يبدو لي، وقد عشت بأسلوب التقي والمتمرد، أن أساليب العيش بكم اختلافها الشكلي، يعبرن عن شعور جوهري مكبوت وحيد يميز هذا الإنسان: إنه الشعور بالسخط. وأنا وأنت شاهدين! أنه منذ كان الإنسان إلى الآن، لم يتوقف عنفا وقسوة مع ذاته ومع الآخر، كتعبير عن هذا السخط. إن المشكل ليس في الفكر أو في الظرف، كما يتهم بعضهم بعض، أ كان هذا الفكر ديني، أم سياسي، أم عرقي الخ... الفكر يقدم التبرير صحيح، والظرف يقدم أرض خصبة كذلك. لكن الإنسان لطالما كان مغرم بالحرب ومستعد لها. إنه ساخط، تلك هي المشكلة! فحتى إذا لم يتوفر له التبرير والأرض لِشن حرب، لَشنها ضد ذاته وانتحر.

إن الإنسان ساخط دوما! ذلك أنه يتطلع لحياة أفضل!

5

في الأحلام أيها المجنون أنَّ الحياة التي تتطلع لها موجودة بالفعل بمكان ما، أو ستوجد بزمن ما!

لقد ضللت الطريق مند زمن بعيد!

إنك تسبح بأحلام وردية بئيسة، تبدو لي!

وأكاد أشفق عليك، لكني لن أمارس هذه الخطيئة ضدك!

ومحال أن تفهم كلماتي قبل الصباح!

6

في محاولة إثبات، مقنعة لي على الأقل، أدركت حقيقة هي على طرف لساني الآن. وأتفضل بها إليك وإلى كل من يعيش في زمن ما بعد الصباح، إلى كل صاحي يتمتع ولو بقليل من النزاهة والجهد دفع الحياة ألّا تلتفت إليه. أدعوك، وبقدر جهدك السابق، أن لا تبالي! لكن أن تضاعف جهدك لقبول حقيقتي: أن الحياة مستمرة في تأليمك-وبصرف النظر عن مبالاتك من عدمها-.
لكن عدم لامبالاتك لها، أنت بحاجة إلى لذلك، كي توفر طاقتك لشيء أهم، وأيضا كي تلتفت إليك وتُقَدّرك. لكن الحياة لا تشبه المرأة عامة بهذه السمة. فالمرأة في حالتها النادرة جدا أو الشابة قد تحب، وأما الحياة فهي تشبه المرأة الأم ربما! في طبعها الذي يساهم في الولادة نحو الموت. أو ربما هي تشبه الأرض! في طبعها المتغير-الضروري. لكن الحياة هائلة على أشكال التشبيه هذه؛ فهي تمثل أمنا، وأرضنا، وأجسادنا، ومشاعرنا... إنها تمثل حياتنا! وإنه، لِمرة أخرى، ل"إن هذه الحياة معاناة".
إنه كما لا يصادف، هذه هي نفسها الحقيقة النبيلة الأولى التي ستجدها في التعاليم البوذية دوكها-عدم الرضا. لكني لا أدعوك التسليم، كما لم أسلم، بهذه الحقيقة أو بغيرها. إنما أن تقف على قدميك وتجرب، وفقط بعدها أن تتابع حكمتي. جرب وراقب أنه لا أحد يشعر بالرضى حقا. فحتى ذلك الذي يبدو إليك لا يتألم ماديا إلى حد الآن، قد يكون غير راضي أو غير مشبع بما يكفي ( ماديا، أو عاطفيا، أو نفسيا... ). إننا دوما نطمع في المزيد من الإشباع وفي المزيد من الاستمتاع وفي تجربة المشاعر الجديدة والغير مملة. لكن كل عنصر فينا أو في الخارج ومهما بدا صغير أو مستمر، إنه في الواقع يتلاشى ويزول حتما، حتى جسدنا هذا.

7

فماذا تريد من الحياة؟

يلزمك لو بلغت مراد حكمتي السابقة أن لا تجيب في الحقيقة، أو أن تجد الخطأ في سؤالي. غير ذلك فأنت تائه ولا تناسبك حكمتي.

انتبه! أن تريد يعني أن تطمع، والطمع سيلقي بك خارجا. ويعيدك للمعركة التي سبق ودمرت روحك. أما الآن فقد اكتفيت من الخارج ولم تعد مبال. فلا جدوى من -الحصول على- طالما هو زائل وغير مشبع وسيدفعك للرغبة في -الحصول على- في كل مرة. الأمر أشبه بإلقاء الوقود بالنار، إذ هي لن تشبع مهما بلغ كم الوقود. إذن الصواب يكون: ماذا لا تريد من الحياة؟ صحيح؟

"لا تريد" أي ممارسة النقيض، انتبه! وبالتالي الإبحار عكس رياح العادي، لكن دعني أؤنبك بكل أسف، أنك ستبدو كالمجنون بعدما كنت تبدو كالحكيم أو كالأبله. لكن يلزمنا أن لا نكترث بعد الآن حول كيف نبدو، صحيح؟ إذن ماشكمانا، خلي الناس فالناس ومتسوقش إيلا بنتي لهم قرع كتمشط فالراس.

وأما أن لا تريد فهذا من القناعة.

وأما فضيلة القناعة فهي عرفت كفضيلة دينية. لكن ليس الجميع حكيم. فمن بلغ مرحلة البلاهة قد لا يثق بفضائل الدين، وحجته أنه وجد خطأ جزئي هدم إيمانه بالكلي المعصوم من الخطأ، وهذا منطقي في رأي أرسطو، لكنه أبله بالطبع. ولأني لست أدري أ أنت حكيم أم أبله! وجدت نفسي ملزم الإقدام على التعقلن حيال هذه الفضيلة، لطالما ليس الجميع متفائل من أجل الدين، لكن الجميع عاجز عن تكذيب المنطقي.

8

ما الذي يجعل من الطمع رذيلة مثلاَ؟

راقب معي الشعور بالطمع-كما جربتَه بالتأكيد، إنه شعور لا ينبع من ذاتك وحسب، وإنما ينتشر خارجا نحو امتلاك أشياء، وأشخاص، وتجارب... تشرع البحث عن ذلك منذ أن تستيقظ وعن المزيد منها. وفي نهاية يومك ترى نفسك بطبع وبشعور وبطاقة جديدة ( الحقد، أو الغضب، أو الإحباط، أو ربما المتعة... ) إلّا أن ترضى! الرضى هو الوهم الذي يحفز الطمع نحو الاستمرار، فهو هدفه الذي يتلهف إليه.

وهذا جانب من شر الطمع. لكنه قد لا يكون مقنعا! كما قد لا يكون ما سلف وذكرت بأن كل شيء نطمع فيه يتلاشى ويزول، مقنعا!

9

وإن كنت في ريب وجموح إلى هذا الحد، فواصل معي.

إذا كان الطمع مرتبط ارتباط وثيق بالخارج، بما يحمل هذا الخارج من أفكار لدينا عن ما هو عليه؛ فإن الأساس الذي يقوم عليه يستدعي الشك! والشك على نحو يبدو مجنون كما بدا ديكارت ذات يوم.

يذهب ديكارت في تأمله الأول[1] بأطروحة كاملة الصفات الشكية صوب الخارج: إذا كانت الحواس في بعض الأحيان خداعة فإنه من الحكمة ألّا نطمأن إلى من خدعونا ولو لمرة واحدة. وإذا كان لا يمكن التمييز بين النوم واليقظة إذن لما لا الواقع هو حلم آخر.
إذن ليس لدينا ضمانات تضمن حقيقة الخارج!

10

الآن بين يدي ما يكفي للاقتناع بأن الطمع رذيلة. فهو فاسد أخلاقيا-في أنه يلطخ مشاعري سلبية. ثم أن ما أطمع إليه هو زائل حتما-الطمع ضرب من الغباء. وأخيرا، أن ذلك الخارج الذي يحتاجه الطمع مشكوك في وجوده أصلا-فالطمع يرتكز على الوهم ربما.

لكنك لم تسألني لماذا تكرمت في مبالاتي حول كل جزئيات الحياة هذه وقد سبق وأرشدتك أن لا تبالي بشأنها؟ احذر! فأنا لا أرغب في مصدقين وإنما في متيقظين.

سبب مبالاتي وجديتي، ذلك كي لا أبدو أني أعطي الأحكام على مزاجي وإنما لأسباب منطقية. وتانيا، كي تعرف ما الذي يجب أن يدفعك كي لا تبالي. وتالتا، لأنه هذه هي مرَّتك الأخيرة في المبالات، لتباليها بكل طاقتك.

انتبه أن تختلط عليك الأمور! فأنا لازلت لم أتناول فضيلة القناعة دون الاستعانة بمفهومها الديني كما وعدت. لكني تناولت نقيضتها-رذيلة الطمع-. وهذا جزء من خدعة منطقية. أي إثبات عدم صحة نقيض الشيء يعني صحة الشيء دون الحاجة لإثبات صحته.

11

وعلى ذكر المنطق، دعنا نحاول أن نتفحص معه هذه الفضيلة.

المنطق يزعم أنه يستحيل وجود محمول دون موضوع. من المستحيل مثلا أن أقول "جالس فوق الكرسي" دون أن يكون أحد ما يمارس "الجلوس" على "الكرسي". بنفس المنطق يطرح ديكارت الكوجيطو: أمارس الشك، التفكير، إذن أنا موجود. فلا يمكن أن يمارس الشك إلّا إذا كنت موجودا وأمارسه-كذات-.[2]

إذن الداخل فينا يمكن معرفته، بينما الخارج يبقى مشكوكا فيه، في النهاية، وكما سلف وبين ديكارت نفسه.

الشعور بالقناعة في هذا السياق-على نقيض الطمع الذي يشترط الخارج لتنغمس فيه-هو أن تقبل كل ما يأتيك من الخارج دون أن تنغمس فيه، إذن حدودها في داخلك، أي في ذاتك. إذن القناعة يمكن الوثوق فيها ببساطة، وذلك أنها غير مشكوك في صوابها، لأنها حبيسة الذات. لكنك لا تحتاج إلى كل هذا التعقيد المنطقي والفلسفي لتعرف ذلك، إنما تحتاج لروح نقية قابلة أن تستشعر الخير لا غير، ستشعر بذلك صدقني، ستشعر باليقين مع ذاتك، بينما حيث تكون منغمس خارجا فأنت دوما في قلق وفي شك حول هل ما تفعله صواب أم لا.

12

لكن القناعة فعل ذاتي كما أكرر ضمنيا، فإياك أن تفعلها واجبا!

إنك حينما تفعل الواجبات وتطيع الخارج، سواء كانت أفكار أم غرائز، فأنت تزيد الطين بِلة. إن الواجبات التي ستلقن لك أو تكون من طبائعك، هي ضخمة ومتناقضة، فقد تأمرك بالطمع والقناعة في نفس الوقت أحيانا. إن القيام بالواجبات على أحسن وجه مهمّة مستحيلة، كما فحص صلاحها من فسادها، إن هذا عمل قد لا ينتهي-بلغة ديكارت في سياق مختلف-.

13

لهذا اعرف بدل أن تؤمن!

" الفضيلة هي المعرفة، والمعرفة هي الفضيلة "، هكذا حدثنا سقراط. وهكذا أختم وأوجز أفكاري التي بالغت في تقليصها لعلها تبدو سهلة الهضم بالنسبة إليك. أذن هذه هي العلاقة بين القناعة والمعرفة من جهة، وبين الطمع والجهل من جهة أخرى. ف"اعرف داخلك وخارجك تكن فاضلا"... هذه هي حكمتي، فلتتفضل.

الفصل الثاني

14

سؤالك كان عن سبيل الحرية حينما قابلتني، حسنا. إذن اقبل الآتي: إن الحرية التي كنت تقصد-وبكل أسف-لا وجود لها إلا بذهنك، هي وهم!... إن الخارج قدرك ولا دخل لك في تغييره. لكن، لا تقلق! ابتسم فإنك حر مع هذا! إنك حر في رد فعلك اتجاه قدرك، وتلك هي حريتك الطاهرة. اسعى لتغيير داخلك، لا خارجك. فلتتدرب على رد الفعل السليم من الآن.

15

"أرغب دائماً في أن أتعلم أكثر كيف أرى الجمال في الضرورة التي تحكم الأشياء: هكذا سأكون واحداً من أولئك الذين يضفون الجمال على الأشياء. حب القدر Amor fati: سيكون حبي الوحيد من الآن فصاعداً... أرغب أيضاً، وفي كل الظروف، ألا أكون سوى رجل يقول نعم -للقدر-" [3]

نيتشه يهديك سلاح سلمي ناحية الحياة، حب القدر. إنه مفهوم سلف وبانت ملامحه مع الرواقيين، فلا بأس لو اشتبه لك في سطحيته. لكن الحذر ألف مرة أن يشتبه إليك مع حب قدر المعابد! إن حبهم في الواقع عزاء! ويريدونك صبورا مسلما أمرك.

16

لقد سلف وتفاءلت في فضائل الدين، كما في صلاح القناعة، بكل صدق، وهذا الأمر بالتحديد وكي لا أنسى هو إهداء برجاء إلى كل متشائم ناحية الدين: أرجوك أن لا تتصف بالحقد!

لكن مع المفاهيم النيتشوية، التشبيهات الدينية تخاصمنا مع الفكرة المراد وصولها في عمقها، كما أن الفلسفة الرواقية نفسها لم تتعمق بالفكرة كما فعل هو.

17

أ لا تظن، بعد أن صرت لا مبال نحو الحياة، وبعدما هي قدرتك على وقاحتك؛ أنك بحاجة إلى طاقة تدفع بك نحو الأمام؟

" الحياة يجب أن تفهم إلى الوراء، لكن أن تعاش إلى الأمام" يقول كيركغارد. فبعد أن فهمتها-شيئا ما-إلى الواء؛ ألا تظن أنك بحاجة إلى أن تعيشها؟ وكي تفعل ذلك، أ لا ترى أنك بحاجة ماسة لحبها-براحتها، وبقسوتها... في كُليتها-؟

أظن أنه حان الوقت كي تقول "نعم"، لكن في السر!-أي أن لا تقول ال "نعم" هذه بصوت مسموع للخارج وللحياة نفسها، وإنما مع نفسك-. وعمليا، أن لا تشقي نفسك محاولا تقييم ما عشته في ما مضى، ومتطلع لخلق عيشة أفضل في ما هو قادم. إنك في الآن، أنت لا تحبها! ولذلك تكافح من أجل أن لا تعيش اللحظة الحالية، مهاجرها بذلك نحو الماضي أو المستقبل. إنك لم تحبها يوما في الحقيقة. أنت فقط تتأسف وتأمل.

18

في فيلم "الختم السابع" لبرغمان، يعبَّر لنا عن كيف يسعى الإنسان لإيجاد النور داخل ظلمات الحياة. إن ذلك يشبه غريزة إلهية متأصلة بأرواحنا. لكن في النهاية ننتبه إلى أن المرء كي يؤمن بهذا النور، أي أن يحب الحياة، هو بحاجة إلى صورة مصغرة يعبر لها عن حبه هذا الإلهي، كما في قصة حب ميا وجوف. وبجانب هذا فالمرء بحاجة كذلك إلى الفن، وسيلته لتحمل الحقيقة، والبحث عن المعنى-كما عبر نيتشه-، وهي وسيلة يتمتع بها الثنائي كذلك، بوصفهم فنانين. بينما الفارس في محاولة بئيسة لتأخير موته الحتمي، ومحاولة مواجهة وهزيمة الموت نفسه! وهذا مناقض لحب الحياة، بكلياتها. والموت طبيعي وجزء من الحياة! رغم ذلك، الفارس قد يكون وجد معنى بالأخير متمثلا في تضحيته. لكن الأساسي، أنه مهما بلغنا معرفة وشكا وعلما وأخلاقا وشجاعة... نزال بحاجة إلى الحب، بشتى تجلياته، حتى يقودنا إلى حب الحياة نفسها.

19

وفي السياق نفسه، نعود مع نيتشه. إنه يشبه الحياة بالموسيقى! إذ سيكون من الممل الاستماع إلى عمل موسيقي ممتع أكثر من مرة، كما سيكون من معذب الاستماع إلى عمل حزين مرة أخرى. فلابد أن يتميز العمل الموسيقى بالتنافر، بين الشجن، والرومنسية، والقلق... وفي ذلك يكمن جماله، ويجذبنا إلى الاستماع له في كل مرة. فبنفس النمط الذي نقبل ونحب الموسيقى بفرحها وحزنها، يلزمنا قبول وحب الحياة ومعانقة أقدارها. وذلك كأننا سنعيد عيش الحياة نفسها مرارا وتكرارا إلى ما لانهاية-العود الأبدي.

لكن يلزمني وضع نقطة عند هذه المرحلة معك! فأنا لا أتوق إلى مدح رؤية-عن ما وراء الحياة-غير أخرى، بل لا يهمني ولا يهمك الصادقة فيهم حقا، أ هي رؤية الإبراهيميين ، أم الهندوس، أم البوذيبن، أم رؤية نيتشه...! إني أتوق لتفعك في هذه الحياة وحسب.

20

دعني أعترف لك، أنني لم أصل رغم معارفي سوى إلى رغبة في المزيد من المعرفة وشعورٌ بالجهل! إن رحلتي المعرفية بطيئة على الرغم، لكنها سلاحي، كما الفن سلاحي. لكنني لم أشعر بالاكتفاء وبالنور في هذه الحياة إلّا حينما أحببت... حينما سعيت إلى حب كل شيء. وفي أغلب الأحيان كان ذلك سرا! الحقيقة، أنه ليس الكل جدير بأن يعترف له بالحب!... ثق بي! إنك حتما ستصادف بطريقك شخص أو شيء يشبه الحياة في صفاتها وجدير بالحب... فالحذر! ليس في أن تحبه، وإنما أن يعرف أنك تحبه. يجب أن توفر اعترافك بالحب لشيء إلهي، إلى نجم من السماء... لا يتصف بصفات الأرض. ويجب أن تجده بالضرورة، وذلك كي يعزز إيمانك في المحبة وقابليتها، وليس في الحب في ذاته، لأن الحب موجود فيك بالأصل، لكنك في حاجة إلى معرفته... ابحث عن الحب في ذاتك وفي كل الأشياء... ذلك هو الإلهي، أو اليينغ يانغ، أو الروحاني... أو مهما يكن.
"ما تبحث عنه يبحث عنك هو الآخر" الرومي.

مراجع
[1]تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى لديكارت ص 65 عثمان أمين
[2]نفسه، ص.75
[3]العلم المرح لنيتشه فقرة 276

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي