|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
فوز حمزة
2024 / 6 / 23
كل يوم ومنذ سنوات بعيدة، حينما يبدأ النهار بالانحسار،تخيم العتمة على قلبي وتبدأ خزانة الذاكرة بفتح منافذ الحزن.
كنت في العاشرة من عمري، لم أغادر بعد حدائق الطفولة، أرتع وألعب فيها، أطارد فراشات الأحلام، أنصت لشدو الطيور،أما قطتي البنية، فلها النصيب الأكبر من اهتمامي.
الساعة كانت تشير إلى السادسة مساءً، موعدي المقدس مع فترة برامج الاطفال التي كان التلفزيون يذيعها، في هذه اللحظة التي كنت استعد فيها لدخول عالمي السحري، سمعت صرخة مزقت الستار الذي كان يفصلني عن عالم الكبار البشع.
أصوات في الخارج بدأت تعلو .. كلمات بدت لي غير مترابطة مثل: لماذا يا ربي؟! .. ابتعدوا .. يا حسرتي على شبابهم ! لا حول ولاقوة إلا بالله! .. وهذه الأخيرة كانت تعني أن هناك مصيبة حصلت لأنني كثيرًا ما سمعتها من والدي في مثل هذا الموقف وكلمات أخرى ضاعت في زوايا النسيان.
حاولت تجاهل كل ذلك، فلدي ما هو أهم، لكن أن تترك أمي شاي العصر، لترتدي عباءتها وتهرع إلى الخارج، فهذا يعني أن هناك أمرًا جللاً قد وقع.
ضاعت أمي وسط حشود النساء التي تجمهرت خارج بيت أحد الجيران، هالني منظر الناس، فلم يسبق لي مشاهدة هذا العدد منهم.
لا أحد منهم يهتم بوجود الآخر.
الجميع عيونهم تتطلع إلى الداخل، بعضهم طلب من الناس فسح المجال لهم للدخول، اكتفى بعض الرجال بهز رؤوسهم بأسف ودون التفوه بكلمة.
سمعت أحدهم يقول:
- كنت أتوقع هذه النتيجة، وقد حذرته.
ردَّ عليه آخر:
- لا نفع للكلام الآن، لقد وقع المحظور. أما المرأة البدينة التي لم تسعفها ساقاها للوقوف، قالت بعد مسح دموعها بحجاب أسود كانت ترتديه:
- الحمدلله أن أمه توفاها الأجل قبل هذا اليوم.
فجأة، تفرق الناس وسرت همهمة بينهم.
في هذه اللحظة، دفعتني يد رجل ضخم، أبيض البشرة، له شارب كثيف، يرتدي بزة عسكرية نظيفة عليها شارات فوق منطقة الصدر والأكتاف، دفعني بقوة لأجد نفسي في حضن امرأة لا أعرفها ثم انطلق بسيارة بيضاء هو ومن معه من الرجال .
اندفع الرجال والنساء داخل البيت وأنا معهم، المنظر الذي رأيته اغتصب طفولتي، مزق غشاء برائتي ليتركني أعاني من جرم لم ارتكبه، حلمت سفاحًا بكوابيس مكررة، جعلت الليل مصدرًا لخوف لم يفارقني منذ ذلك اليوم.
حدقت في الجثة الملقاة على الأرض. إنه ابن الجيران، الشاب الذي كان يحبني كثيرًا ويشتري لي الحلوى ويقول لأمي: سأخصم هذا من مهرها، فيضحكون بينما أنا التهم الحلوى.
رأيته ممددًا على الأرض وفوق ثيابه أثار دماء، أما ملامح وجهه، فلم أتبينها لأنها تغيرت بفعل الضربات والكدمات.
احتضنته أخته الشابة ناحبة.
خرجت بأقصى سرعة، أردت العودة إلى حدائقي. وجدت أن أقدامًا لوحوش كاسرة قد داست على زهوري، و أحرقت أشجاري، لا طائر يغرد، و لا فراشات تطير!
جلست على الشوك أبكي بصمت، أما كفي، فرائحة قطرات الدم التي وجدتها عالقة فيها، ما زالت تملأ أنف ذاكرتي.
تلك الليلة، حينما كانت أمي تضع على جبيني كمادة الماء البارد، سمعتها تقول لأبي:
- هل من العدل أن تقتل الحكومة كل من لا يريد الذهاب للحرب؟!
أجابها وهو يضع يده على ساقي يتحسس حرارتي:
- اسكتي يا مرة! الحايط أله إذان!
حين انتهيت من كتابة هذه القصة، صداعًا شديدًا أصابني، بينما شعور بالغثيان أجبرني على ترك الآلة الحاسبة.
الحزن لا يقبل شريكًا ولا يرتضي الرشوة.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |