|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
فوز حمزة
2024 / 6 / 17
هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها إلى هذا المطعم.
لقد سمع عن وجباته اللذيذة و خدمته التي أشاد بها كل من ارتاده من أصدقائه. عزم خوض التجربة بناءً على آرائهم و اعتمادًا على ثقته بهم. الآن وجد ميزة جديدة جعلته يتأكد في أنه لن يندم على اختياره.
اللوحات المعلقة على الجدران البيضاء و أصص النباتات التي زينت بها زوايا المكان، والموسيقا الهادئة التي تبث لحنًا غربيًا، هذه الأشياء فجرت داخله إحساسًا مثيرًا ونادرًا للغاية.
وقف وسط المطعم محتارًا كعادته، يبحث عن مكان مناسب. فكر في طلب المساعدة من النادل، إلا إن سماع اسمه من أحدهم جعله يلتفت.
الصوت قادم من شخص يجلس على طاولة قرب النافذة، أنه زميل له كان في الجامعة.
شعر بلمسات برد لذيذة و منعشة تسللت إليه من النافذة الكبيرة، حلقت به لأيام الدراسة الرائعة حينما تبادلا ذكريات تلك الأيام.
حسد في سره الصديق على حسن الانتقاء، وتمنى لو أن له تلك المقدرة على رصد الأشياء الجميلة دون الوقوع في الحيرة والتردد.
تنفس الصعداء بعد تركه أمر أختيار وجبة الطعام لهذا الصديق عندما أبدى حيرته إزاء الأصناف الكثيرة التي في القائمة.
- هل تزوجت؟
بدا كحديقة متساقطة الأوراق وقت الخريف. سؤال الصديق غير ألوانه، بث في داخله رغبة للهرب ليرسم ابتسامة تهكم، وعيناه تقول: ليتني لم أفعل!
- نعم. تزوجت.
- وكيف هي زوجتك؟ هل ما زالت جميلة كما كانت أيام الجامعة؟
السؤال الثاني كان كالرصاصة التي يتلقاها حصان هزيل يترنح بينما العالم ماثل أمامه.
- تزوجت من إحدى قريبات أمي، فتاة طيبة نالت موافقة الجميع.
استدار نحو النافذة، تقافزت الذكريات أمامه وطوفان من أفكار عادت من بعيد اعتراه.
الصمت الذي ساد بينهما، منحه وقتًا لاسترداد أنفاسه.
ذكرى حبيبته تمنح الضباب سببًا ليهبط، فيرى نفسه على حقيقتها. أحرق بيده الحب داخل قلبه، فتمكن البرد من عظامه، فالحب المحترق لا يدفئ، بل يمنح مزيدًا من الرماد.
حانت منه التفاتة ثانية صوب النافذة، ثمة قط مختبئ خلف شجرة.
- لا بأس.
بهذه الكلمة ختم الصديق حديث الشجون، قبل أن يضع في فمه قطعة لحم، ليعرض عليه العمل معه.
ظل يحدق في طبق الطعام أمامه قائلًا بعد هنيهة:
- أنا لا أعمل في الهندسة!
- كيف ذلك؟ ألم نتخرج معًا في نفس القسم؟!
شعر بالأسى ينبعث من صلب الكلمات المحترقة في جوفه.
- والدي ارتأى العمل معه، لم يترك لي خيارًا آخر.
الصمت هذه المرة كان متفقًا عليه من الاثنين. شعرا بالأرض قد امتلأت بالكلمات المتساقطة التي لا طائل منها.
- كيف وجدت الطعام؟
أدرك أن هذا السؤال ما هو إلا محاولة من الصديق للخروج من النفق الذي دخلا فيه دون رغبتهما، وحين لم يجب على السؤال، عاود الصديق سؤاله:
- كيف تمضي وقتك؟
- أعصره بين أسناني!
قالها كمن يحدث نفسه.
نظر إلى أقفاص العصافير التي وضعت عند المدخل، شعر كأنها مرآة تعكس حياته، لا تستخدم إلا لتزيين المكان وإشاعة روح السلام لمن ينظر إليها، وهذا هو أكبر إنجاز لها.
- هل ما زالت لوحاتك زاهية الألوان؟ كنت رسامًا بارعًا! لطالما حلمت بإقامة معرض للوحاتك.
- لم أعد أحلم بشيء.
شبك الصديق كفيه قرب ذقنه ليقول بعد إطلاقه لتنهيدة قصيرة:
- يا صديقي، الواقع يرسم لك الحدود بينما الأحلام تمنحك الأجنحة، لقد أغلقت عليك بابًا من أبواب الحياة!
شعر كأنه يلاحق القطارات، وعند كل محطة يبدأ بالترنح حين يشعر بأن هذه المدينة ليست هي التي يروم المكوث فيها.
- لم أكن أملك زمام الأمور. كان عليّ اختيار ما يناسبني.
- والحرية يا صديقي خيار من تلك الخيارات.
بينما أخذ يفكر بكلمات الصديق، راحت عيناه تحدقان بما وراء النافذة .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |