كتاب -أوراق كرزية- لإدريس معزوز دحض لخرافات الأمس وترميم ترهات اليوم .

عزيز باكوش
2024 / 6 / 12

استرعاني‭ ‬هذا‭ ‬التمهيد المكثف الظليل الذي ‭ ‬يرسم‭ ‬الولوج إلى معالم كتاب "أوراق كرزية "‮ للكاتب المغربي إدريس معزوز "ما أنا بمؤرخ ولن أكونه، دافعي رغبة جامحة في بسط المعلومة الوثيقة دحضا لخرافات الأمس وترهات اليوم، التي ترسخت في أذهان الأرعال الجديدة، وصارت هي الحقيقة المطلقة مدينة طالما هيمن فيها المنطوق وندر المخطوط." وللوهلة الأولى انتصرت لتوصيفه كتابا مفتوحا يشجع على التحرر من المسلمات بالقدر الذي يدحض تاريخها الطويل الذي يحمل في ثنياته تمثلات شعبية تحولت مع مرور الزمن إلى عوائق تكبح طموحات العقل المستنير .
"ما أنا بمؤرخ ولن أكونه، دافعي رغبة جامحة في بسط المعلومة الوثيقة دحضا لخرافات الأمس " بهذه العبارات استهل الكاتب منجزه التوثيقي الصادر حديثا عن دار مقاربات في 337 صفحة من القطع الكبير. مزدان بغلاف الفنان المبدع عبد الواحد غنمي.فيما خص ظهر الغلاف بمعلومات عن المؤلف وصورته ومقتطف بالفرنسية للمعمرة كوليت 1920."‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ والكتاب في جوهره منجز ثقافي الأول في مسار الكاتب المغربي المولود بصفرو 1952. عمل بداية بمصالح البريد والتلفون والتلغراف بعد تخرجه من المدرسة الوطنية للبريد بالرباط .وفي عام 1979 التحق بقطاع التربية الوطنية أستاذا للغة العربية إلى أن تقاعد طوعيا 2005 . كما يمكن اعتباره من جهة ثانية تجربة حفر واستبئار معلنة في تاريخ مدينة صفرو ‬يسهل تحديدها بين ‬ثلاث‭ ‬مجالات " التاريخ الوثيقة والنص الشفهي. ‬من‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬يضع‭ ‬المؤلف بينه وبين الموروث الشفهي مسافة ويفرد ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬للنص أكان وثيقة التاريخية أم شهادة دامغة جازما‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬معارف‭ ‬أو موروث ثقافي يحظى‭ ‬بالمصداقية ‬دون‭ ‬نص أو قرار أو شهادة رسمية تسنده.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ولعل كتاب " أوراق كرزية" دعوة لتقاسم حوار حضاري شفيف حول تاريخ مدينة صفرو الشهيرة بالكرز " حب الملوك" بلغة صريحة ومفعمة بالسؤال والمعنى. وايضا دعوة للتشارك مع حالات نفسية وأوضاع اجتماعية وتاريخية حوارا لا يبتدئ بالدهشة،إلا لينتهي بها مختمرة ناضجة . الكتاب في تقديرنا رأي يسائل واقعا كي يساهم في خلق عالم معرفي جديد،نتأمله عابرا للحواس والإدراكات. نتأمله بكل يقظة فكرية وتوثب انفعالي. كتاب مفتوح يشجع على التحرر من المسلمات ويدحض تاريخها الطويل الذي يحمل في ثنياته تمثلات شعبية تحولت مع مرور الزمن إلى عوائق تكبح طموحات العقل المستنير .
في مقدمة بقلمه يقر المؤلف فيما يشبه تبرئة الذمة أن " مشروعي ليس إفاضة أو إضافة أو سبقا أو دفاعا عن الخصوصية المحلية.. وإنما هو محاولة بسيطة تروم تجميع المعلومات وتصريفها ويمضي مؤكدا في السياق ذاته أن واحدة من مهامه الأساسية " سرد الأحداث كما جرت بثبوتية وصدق دون اجترار أو دوغمائية أو تقريظ جهة وتشتير بأخرى. " وعلى صعيد منهجية اشتغاله يكشف المؤلف دون مواربة عن القواعد التي شكلت آلية ومنهجا في إبراز هذا المنجز التوثيقي القيم حول مدينة صفرو مهد الانتماء فيقول " تعريب ما أتيح لدي مما كتبه أو أشار إليه الأجانب خلال مرورهم بهذه المدينة والإنبناء إلى القول المأثور،إضافة إلى شهادات من عايشوا الأحداث حضوريا أو كانوا قريبين من زمن وقوعها. فعلموها سماعا فاشيا مستفيضا من آبائهم وأجدادهم. فضلا عن الاستشهاد بالنصوص الإدارية تشريعا وتنفيذا تهم الأشخاص والمنشآت والمرافق العام".
في "أوراق كرزية" لا يتحدث المؤلف عن حادث أو مكان عام دون مرجع أو مصدر موثوق يسنده. هكذا يتعرف القارئ على مدينة صفرو قديما كإحداثيات جغرافية وتاريخية وإثنية . فأهل صفرو يقول الكاتب " في سنة 1883 لم يتجاوزوا 3000 آلاف نسمة ضمنهم 1000يهودي. لكن في سنة 1950 سيرتفع العدد إلى 18850 نسمة 12100 مسلمون وو6100 من اليهود و650 من الأوروبيين أغلبهم فرنسيون . ومن غير عناء يتعرف القارئ عن كل ما يتعلق بصفرو منذ النشأة إلى اليوم. "صفرو بلدة صغيرة، وأنقوعة ذات أتربة خصبة وسواق رقراقة، تتموقع مقعرة عند قدم الأطلس المتوسط ملامسا سهل سايس، بعلو 804 م عن سطح البحر بمنطقة السلاوي و847 م بالمدينة الجديدة. تحف بها وبمزارعها المرتفعات الآتية : شمالا جبل "بينا" 800 م ، وجنوبا جبل "الكبير" 1000م، وشرقا جبل "تريالة" 902 م، وغربا هضبة "سيدي علي بوسرغين" 965 م وجبل "دكارات" 1156م." كما يتعرف القارئ بواسطة الوثيقة التاريخية الأصل على تواريخ رحلات الأجانب من وإلى صفرو، دخول أول فرقة عسكرية فرنسية لصفرو شتنبر 1911، وتواريخ إحداث البنيات العسكرية والمؤسساتية الدرك ،1930 الشرطة 1949 فرقة لرجال المطافئ 1939. شبكة للهاتف1926، إحداث طريف فاس صفرو 1919 كما يورد مسار التعليم بداية من 1920 ،وتاريخ إحداث أول مدرسة فرنسية بصفرو 1928 ،وأول مدرسة إسرائيلية 1931 ، بناء مدرسة للبنات المسلمات بحي بني مدرك 1941، دخول السينما 1936 ، فتح أول وكالة بنكية 1928 .إلى غير ذلك من التجليات الثقافية للحاضرة الصفريوية من فنون وطقوس وعادات وموروث ثقافي متنوع متعدد الغنى عربي مسلم يهودي فرنسي وكذلك العادات الدينية اليهودية الحرف والأوزان الزوايا والعادات ..إلى غير ذلك.
لذلك، يبدو الكتاب مزدحما بعدد كبير من الشهادات والوثائق والأسماء والمصادر والمراجع التاريخية .ما يؤشر أن الجهد الفكري مؤطر بإسنادات منهجية وعلمية. والكتاب في جوهره وثيقة تاريخية داعمة لما يرد المؤلف أن يؤكد من خلاله أنه لا ينطق عن الهوى . وإنه لم ينقل سوى ما تنطق به الوثائق التاريخية الدامغة مع تطريز أدبي لا يسمح بأي انزياح . وإن كنا لا نشك في كون النص التاريخي وثيقة تساعد على تقريب وفهم مضمون حادثة تاريخية معينة، مكتوبة تكون شاهدة على الماضي البعيد من إنجاز مجموعة من البشر ضمن جغرافية محددة ، بلغة أهلها أو لغة بديلة شريطة أن تكن أصلية .فإن السؤال حول أهمية الغاية من توظيفها ،والسياق الزاحم الذي نضجت فيه ووضوح الرسالة المراد توجيهها وكذلك الجهة المستهدفة يظل مشروعا ودائم الاستمرارية .
فالقراءة عموما وكتاب أوراق كرزية على نحو خاص ،لا تعني سوى الحصول على إجابات متماهية عن أسئلة تتجدد مع الحياة . وهي بهذا المعنى عامل مساعد على مواكبة المستجدات وإبقاء الذاكرة يقظة . كما هي بالمعنى ذاته ترسيخ سؤال الوجود ومعناه في الحياة . ولعل أجمل ما يتعلمه القارئ من مطالعته للكتاب هو الانتقال من البديهة في المتداول الشعبي عبر التأمل والتفكير وبذل المجهود الذهني إلى أفق أكثر انفتاحا ومعارف أشد استنارة ووثوقية.
وعن أصول أهل صفرو نقرأ في الصفحة 8 من الكتاب "أهم من أصول أمازيغية، تهود بعضهم، وأسلم بعضهم الآخر .والدارجة الصفريوية خلط للغات الأمازيغية والعربية والعبرية والفرنسية في مجتمع يتنوع عنصره البشري، ويحتاج لأجل صناعة المعنى إلى الامتياح من هذا الخلط. أما اللكنة المحلية فملامحها الصوتية تتناغم مع ريثمات هذا الخلط. وفي الجانب الديني، احتضنت مدينة صفرو الديانات الإبراهيمية الثالث: الإسلام دينا أغلبيا ، اليهودية والمسيحية ومورست الشعائر والعبادات في المساحات الآتية الإسلام: - أربعة مساجد بصوامعها ودورات مياهها وهي الجامع الكبير، مسجد السمارين، مسجد سيدي مسعود الدراوي ومسجد القلع. - 12 زاوية، بعضها اتخذت مساحات للصالة عدا صالة الجمعة. - مصلى بساحة المقام - 9 كتاتيب الإقراء وتحفيظ القرآن الكريم، أكثرها في حضنة المساجد والزوايا *اليهودية: 9 ثالث بيع: اثنتان بحي المالح، والثالثة بمقر الجمعية الخيرية اليهودية الحديث البناء بباب المربع )1936(، يحتضن هذا المقر المدرسة والبيعة والأرشيف والمستوصف .EM HABANIM والمذبح *المسيحية: بطريق) 1935 (NOTRE- DAME DE TOUTES- GRÂCES :كنيسة - سيدي علي بوسرغين. - دير LAURENT SAINT :couvent يسار مسلك الراجلين المرور به صعودا الى ضريح سيدي علي بوسرغين في موقع مقعر به خميلة من الأشجار الظليلة. - مركز التبشير المسيحي للمعمدانية السيدة CARY MAUDE المعروفة لدى أهالي صفرو ب: مدام ستيري، ويقع بدرب المتر شمال باب بني مدرك مطال شرقا على مقر الخيرية الإسلامية. استقطبت المدينة في مراحل تاريخية قديمة اليهود الوافدين من وسط الجزائر ودبدوب وتافيلالت، وفي مراحل الحقة الفارين من محاكم التفتيش غداة سقوط الأندلس، كما استقطبت - على دفعات متتالية - الشرفاء العلويين الوافدين من تافيلالت والأطلس الصغير، وفي مستهل القرن العشرين استطاب بعض الأوربيين العيش في صفرو فاتخذوا عاليتها الغربية سكنا وثيرا ممتعا."

وعلى صعيد آخر ، وفيما يشبه انتقاد سياسة الأمر الواقع ، وتوجيه اللوم للسياسة المتبعة والتهميش السائد لمدينة صفرو ركز المؤلف على فترة لها أهميتها تمتد من عتبة القرن العشرين إلى انتهاء الحماية الفرنسية،حيث يقول "خلالها اهتلكت البنيات المحلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، لتطفو بنيات جديدة بديلة أحدثها الوجود الفرنسي، وصاحبها تغيير تدريجي في البنية العمرانية، تلى ذلك تقوقع البلدة جراء انكسارات متلاحقة أهمها:أ- أدرجت صفرو عام 1917 ضمن لائحة مشروع إحداث 15 بلدية حضرية في المنطقة الفرنسية بالمغرب لكن سرعان ما بخست واستصغرت إلا من إنشاءات بسيطة أملتها حاجة المعمرين المحليين ب- بعد صدور وعد بلفور عام ،1917 استمالت الحركة الصهيونية غالبية اليهود سكان صفرو فانخرطوا في مشروع " أرض الميعاد "
وفي مستهل السنوات الخمسين شرع" المعمرون " تباعا في النزوح الجماعي ruée إلى الوطن البديل، فتخلوا عن مدينتهم وهم نصف سكانها، وأكثرهم ثراء، وأرقاهم تعليما، وأميلهم نحو الحداثة. فخلفوا فراغا أرجعها القهقرى. تزامن ذلك مع بداية رحيل الفرنسيين المقيمين . في مبتدأ السنوات الستين، انضمت ثلة واسعة من النشطاء المحليين السابقين في الحركة الوطنية زمن الحماية إلى المعارضة، فتم ترويض أشخاص من خارج هذه الحركة وخلق منهم نخبة محلية بديلة لم ترق بالمدينة إلى الأفضل، وتعامت عن تنامي أحياء عشوائية خدشت الوجه الوسيم للمدينة.أوراقي جزئيات صورة مفككة تستوجب إعادة تركيب مبناها ليتشكل معناها. فإن وجدت نقصه أو بخسة أو زلقة أو غلطة فغير مفتعلة او متعمدة ؛ مردها إلى الشاهدين الذين ناطقتهم واستدرجتهم، فالمعلومة الواحدة قصت علي بصيغ متهافتة contradictoires وأسماء بعض الأشخاص ألقاب مشينة تحاشيتها..."
ويخصص المؤلف فصولا للحديث المقاومة الصفريوية، انطلاقا من أحداث 20-21 غشت 1953 ومحاكمة 5 نونبر. ويورد الأحكام الصادرة ضد المقاومين بمدينة صفرو الذين طالتهم حملة الاعتقال يومي 20و21 غشت 1953 ويذكر اساءهم كاملة .ص310 ، ويمر على إنجازات المقاومة الصفريوية ضد المستعمر من توزيع المناشير وشن اضرابات عامة احتجاجا على عزل المغفور له محمد الخامس. كما يورد تفاصيل عمليات قتل وحرق ومحاولات اغتيال وهجوم على الثكنة العسكرية بمساي طريق بولمان قام بها المقاومون ضد المستعمر بتنسيق مع الوجدي ابن علي المدعو ابن طابو ص311
ويورد ما حدث صيف 1963 شمس العشية ـالسنوات العجاف ومن فصل " عدوة الروح 1972-1974 " نقتبس ما يلي :
في ساحة المقام ببلدتي الكرزية "حب الملوك"، توقفت الحافلة، فتعمد بعض الطالب تجاهلي بحيث غيروا وجهتهم من دون توديع، أما الآخرون، وهم كثيرون، فرافقوني إلى البيت غير آبهين وال مكترثين بتبعات ذلك ، فقد أبانوا عن نبلهم وشهامتهم في مدينة صغيرة اختيرت لها طغمة مخزنية جهبذية تتفرس في العباد، وتحصي أنفاسهم ، وتستشف خطواتهم في كل حي وزقاق. بيتنا فالحي وسط بستان مزهر وارف ، كان أبي قد شرع في بنائه عام 1953 بعد فيضان 1950 خارج أسوار المدينة العتيقة، لكن أشغال البناء توقفت في غشت من نفس العام إثر اعتقاله من طرف الوجود الفرنسي فيما عرف بثورة الملك والشعب، ولم تستأنف إلا قبيل الاستقلال. ولجت الحديقة الأمامية للبيت، كان الباب مشرعا، ما ان تجلت صورتي أمام ناظري والدتي ، حتى هوت أرضا مغشيا عليها، ناحبة بملء قواها، وحين هدأ روعها همهمت متداعية بكلمات طلسمية متقطعة، لم أقو على النبس أو الهمس، فقد تهدج صوتي ، تخنقه عبراتي ، بعضها تبخر على سخين خدي. اتخذت البستان فضاء طاهرا عبقا استعدادا للتأقلم مع الصفحات الجديدة لقادم الأيام بعد انبعاثي من جحور العدم. كنت أتمدد على غلالته المزركشة بألوان الزهور والورود ، وأستحم بأشعة الشمس الذهبية المتسربة بين أفنان الأشجار التي اعتدت من قبل تقليمها وسقيها وإزاحة الطفيليات حول سيقانها. كان هذا الاستحمام يبدد عني رطوبة العدم، كما كانت جمالية البستان تذيب في ذاتي كوابيس الدياجير. شكل البستان حضنا أخضر دافئا لجسدي المنهك وفضاء أزرق لروحي المتعبة، جددت صحبتي بكائناته الخضراء وزواياه المزهرة ، مجتمع الرهبة والانبطاح... كان يؤلمني إشفاق البعض، ويستفزني تشفي البعض الآخر، ويقاهرني تنمر من لهم صلة بالطغمة المهيمنة على المجتمع المحلي الصغير . صرت أحدوثة لمن يتفصح، وأمثولة لمن يعتبر، وصار وجودي وصلة إشهارية لمن يبصر بي... فتبين لي ، وبال مشاحة، ان احتجازي القسري إثر اعتقال والدي مقاوما سابقا ومناضلا حاليا لم يكن اعتباطيا بل بيداغوجيا لمجتمع سواده 329 مغلق بفكر ضحل...وحين تفطنت إلى أني باخس ذاتي، انتبذت عنه ، وتفرغت لبناء حياة أفضل . وكذلك كان."والمؤلف لا يدع الفرصة تمر دون أن يشكر كل من نفحه بالمعلومة، او ساعده على تصحيح المغلوط، وتكملة المبتور، أو أطلعه على ما لديه من وثائق وصور استند إليها بوصفها استدلالات أساسية لهذا العمل ."

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي