سقوط دعوات الاتهامات ضد العولمة

محمد رضا عباس
2024 / 5 / 28

الزمن كان ومازال بجانب العولمة , وهو بالضبط ما ذكرت في عدد من المقالات حولها, وفي ملخصها قلت ان العولمة وجدت لتبقى ولن تموت ما دام هناك مجموعتين بشريتين تحتاج سلعة الواحدة الأخرى , لان العولمة لم تكن من اختراعات القرن الماضي وانما وجدت منذ ان تعلم البشر السفر من قرية الى أخرى طلبا للبيع والشراء , وعليه وبكل ثقة نقول , على سبيل المثال , ان رحلة الشتاء والصيف لأهل مكة و التي ذكرت في القران الكريم كانت نوع من العولمة , حيث كان تجار مكة يسافرون الى الشام في الصيف والى اليمن في الشتاء , وان هذا السفر هو الذي جعل عرب قريش الاغنى بين العرب . هذه السفرة كانت نسخة مطابقة لشروط عولمة القرن العشرين . عولمة القرن العشرين دعت الى الانتقال الحر للبضائع , حرية انتقال رأسمال و حرية انتقال العمالة وحرية انتقال المعلومات , ورحلة قريش كانت كذلك , حيث لم تكن هناك حدود خطت لتقسيم الأوطان , ينتقل من يريد العمل او العلم من بلده متى شاء بدون جواز سفر او فيزا .
الا ان العولمة واجهت هجمات عنيفة من عدة اطراف : دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية . ومن هذه الاتهامات هي ان العولمة صديقة حميمية للشركات العملاقة , مضرة للبيئة , تنقص من سيادة الدول , فرض ثقافة دول على دول أخرى, وان العولمة تؤدي الى فقر الطبقة العاملة .
طبعا الرد على هذه الاتهامات يحتاج الى اكثر من مقال , ولهذا سوف اختصر الرد على كل اتهام بقليل من الاسطر .
الاتهام بان العولمة سوف تؤدي الى هيمنة الشركات العملاقة على الشركات الصغيرة وسوف تدفعها الى الإفلاس لم يتحقق. والحقيقة ان انتاج الشركات العملاقة قد انخفض نسبة الى انتاج الشركات الصغيرة . العولمة نقلت الفوائد التي تتمتع بها الشركات الكبيرة الى الشركات الصغيرة , لان رفع الحواجز امام انتقال رأسمال و التكنلوجيا والمعلومات فتح المجال للشركات الصغيرة والمتوسطة ان تتحدى الشركات الكبرى.
الاضرار بالبيئة هو الاخر لم يتحقق . على العكس فان البيئة حول العالم بدأت تتحسن , وذلك لسببين وهما , الأول هو ان أصحاب الاعمال وصلوا الى قناعة بان الاستمرار على طريقة الإنتاج القديمة يشكل خطرا على اسواقهم . المستهلكون بدأوا يخشون اضرار البيئة على صحتهم , وثانيا ان مطالبة الحكومات الصناعية من شركات الإنتاج الكبرى لاستخدام التكنلوجيا الحديثة من اجل حماية البيئة غير مكلفة جدا , تشكل فقط 2% من مجموع مبيعاتهم . حتى الصين بدأت فرض قوانين على الشركات الصناعية لحماية البيئة , بعد ان تضخم انتاجها من عام الى عام.
حديث تحول العالم الى قرية صغيرة هو الاخر لم يتحقق . الصناعات ما زالت متمركزة في مناطق محددة من العالم , الأفلام السينمائية متمركزة في هوليود , السيارات الفاخرة في المانيا وانكلترا , البترول في الشرق الأوسط , وصناعة الجوت في الفلبين و إندونيسيا , وان التحدي الكبير للشركات هو كيفية التنافس مع هذه المراكز الإنتاجية . كما وان انتقال الشركات من بلدانها الى بلدان أخرى من اجل الاستفادة من رخص الايدي العاملة سوف لن يطول كثيرا , حيث ان اغلبها قد بيعت او دخلت في شراكة مع أصحاب الاعمال المحليين. الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة مازالت تعمل في بلدانها مستفيدين من الدعم الحكومي وحجم سوقها و استخدام التكنلوجيا المتقدمة ذات الإنتاجية العالية .
كما وان العولمة لم تؤدي الى هيمنة ثقافة خارجية على ثقافة داخلية . أوروبا ما زالت تتمتع بعاداتها وثقافتها ولم يؤثر عليها حجم العلاقات التجارية مع أمريكا , وكذلك الصين . الصين ما زالت محتفظة بأزيائها الشعبية وثقافة مجاميعها البشرية . منطقة الشرق الأوسط , وهي المنطقة ذات الاعتماد القوي على التجارة الخارجية , لم تؤدي هذه التجارة الى تبني الثقافة الغربية . صحيح ان البلوجينز اصبح لبسا عاديا للشباب والشابات العربيات , وصحيح ان الشباب العربي يراقب الأفلام الغربية , ويسوق السيارات اليابانية والمانية ويأكل البيزة والدجاج المقرمش الأمريكي , و يفضل شرب الكوكا كولا والبيبسي ,ولكن الشاب العربي ما زال يمارس الثقافة التي يرثها من بيته , ومازال يذهب الى المساجد لأداء الصلاة ومازال يصوم رمضان .
هذا مع العلم , ان بعض ثقافات منطقة الشرق الأوسط نجحت في دخول الأسواق الغربية وبكل جدارة . المواطن الغربي اصبح يتمتع بما تجود دول المنطقة من صناعة و زراعة وطعام . ما زال السجاد الإيراني يحتل المرتبة الأولى في الأسواق الاوربية , ومازال الفستق الحلبي سيد المكسرات في أروبا , واذا زرت دول أوروبا سوف لن تجد نقص في مطاعم الحلال . بالحقيقة , المطاعم العربية في أمريكا أصبحت تنافس المطاعم الكبرى فيها .
اذن , التخوف من ان العولمة سوف تؤدي الى انحراف ثقافة الشرق الأوسط وتبعد ابناءه عن الدين , لم يثبت ذلك , حيث مازال هناك شباب يذهبون الى البارات في ليلة الجمعة , وشباب اخرون يذهبون الى المساجد لأداء صلاة الجمعة , وهذه الحالة موجودة قبل التسويق للعولمة .
ولكن هناك سبب اكثر أهمية في عدم مقدرة العولمة سرقة ثقافة الشعوب , وهو ان العولمة تزيد من الخيارات المتوفرة للإنسان , وهذا يشمل اختيار الفرد ان يعيش بالطريقة التي تلائمه . في الولايات المتحدة الامريكية , مازال الامش (Amish) يعيشون عيشة القرون الوسطى , يمنعون على انفسهم استخدام الطاقة الكهربائية , سياقة السيارات ( يستخدمون عربات تجرها الخيول) , لا يستعملون الى راديو ولا يستخدمون تلفاز او كمبيوتر , بل ان بعض من مجاميعهم يحرم حتى الذهاب الى المستشفى للعلاج .
وأخيرا , ان العولمة لم تؤدي الى تجويع الطبقة العاملة . كان الافتراض ان الشركات المحلية سوف تهاجر اوطانها وتستقر في البلدان ذات الأجور الواطئة . ولكن هذا الاعتقاد خاطئ لأربعة اسباب. السبب الأول ان ارباب الاعمال يبحثون عن عمال منتجين لا عمال غير أصحاب خبرة . ثانيا , ان الشركات الكبيرة لم تترك موطنها لاعتقادها وثقتها بمواطني بلدها . مايكروسوفت من السهل عليها الانتقال الى أي دولة ترغب فيها , الا انها اختارت البقاء في بلدها وذلك لوفرة الخبرات فيه. ثالثا, ان الشركات العملاقة توفر جميع الامتيازات الى عمالها , من اجور وتدريب وترقيات . ورابعا, ان العولمة لا تؤدي الى افقار مجموعة بشرية وزيادة ثروة مجموعة اخرى . العولمة انتفع منها الجميع . ان تحسين الإنتاجية تزيد من الانتاج والربح , ولكن بنفس الوقت استفاد المستهلكين لرخص أسعارها .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي