|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عثمان بوتات
2024 / 5 / 16
"إنني لأفضل الدوّي و الرعد ولعنات العواصف الساخطة على الطمأنينة الرصينة الحذرة للقطط!
ومن بين الناس أيضاً ليس هناك من هو أبغض لديّ من كل أولئك المُتسللين بخطى القطط، الفاترين المراوحين بين نعم و لا، والمرتابين!!"
ف.نيتشه (هكذا تكلم زرادشت) ص. 316
هل نحن أعلى مرتبة من الطبيعة؟ أم نعتقد ذلك؟ أم نسعى نحو ذلك؟
قد يكون العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس! أو قد تكون الإرادة! وسمات أخرى عدى الحكمة فهي ليست عامة للناس.
لا أحد من الناس يولد فيلسوف، ولن يموت بالضرورة فيلسوف، حتى ذلك الذي عاش فيلسوف!
إننا نادراً ما نبحث عن الحقيقة ونادراً ما نصنع المفاهيم، لكن قد تُصنع لأجلنا الحقيقة، وكذا المفاهيم؛ لذا فالحقيقة أعدل وهم بين الناس. هذا إذا شاركها الناس! وأما الحكمة فهي ليست بعادلة ولا بظالمة، لكنها للفرد.
أيها القارئ احذر جيداً وأنت تتهجى كلماتي! فأنا لا أعتقد أنني مقياس، كإنسان، إنني فقط أوضح لك بعد إذنك؛ لماذا يجب أن تحب الحكمة؟ و لماذا لن تحصل عليها بالعقل؟ بل العقل يا أخوتي لمن المضلين!
إن عقلك رفيقك في الوهم، ومنبع إرادتك نحو السعي، نحو الحرية.. إنه مصدر تلهفك، وسخطك، وكبريائك...!
أيها الإخوة، دعوني أنبئكم أننا خدعنا! هل تعون وتشعرون بمفهومي النظام(Cosmos) والفوضى (Chaos) الذي يجري في عروقنا؟ إنه لا وجود لهما في الحقيقة! ولقد ظل ولا يزال تاريخنا يتخبط مزاجيا تارة تحت سلطة الفوضى وتارة النظام. وكم هو مبهر خيالنا البئيس!
دعونا نرى بنظارات إستيطيقية ونحاول الحكم قيميا على تاريخنا الكوميدي: في أي مرحلة كنا مبدعين بخيالنا؟ في مرحلة الفوضى الميثوسية! في مرحلة إكتشاف المنطق! مع السوفسطائيين! مع أفلاطون! مع زينون الرواقي!.... ما رأيكم أيها الفنانين؟ لأنه لو عاد الأمر لي ربما سأقدم الميدالية الذهبية لكوميديا أفلاطون. أ أنتم متفاجئون! ألم ترون الأرض الخصبة التي قدمها لنا! ليبدع ويغرق في عمق محيطها الإنسان الساذج والماكر قرون. ألم يأتيكم حديث القرون الوسطى! ألم يسبق وزار أحدكم المقابر وسأل الأرواح! ليحدثونكم كيف احتقروا آنذاك الطبيعة والجسد، كيف عاشوا داخله، وها، الفوضى، كم سفكوا به، وفيها، من الدماء كما لم تسفك من قبل. إن باب مقابرهم به شعار لو إنتبهتم: " نحو قمع الجسد وفي سبيل عالم المثل بجحيمه ونعيمه".
آه كم تهنا ونحن نسبح بميتافيزيقا أفلاطون! قبل أن تصفعنا الحداثة والتنوير بكل ما أوتيت من قوة! لتستبدل المتافيزيقا بالعلم. استيقظوا من خيالكم قالت، فقد صار كل محسوس و وكذا ما هو غير محسوس فوضوي وغامض! وإنه لا نظام إلّا نظام العقل! وإنه لمن الصواب أن نسيطر على كل ما في الطبيعة ونسخره لصالحنا... هكذا تكلم أب الفكاهة الجديدة ديكارت، وهكذا عبر عن خوفه وشكه في تعاليم الكنيسة. لكنه جبان وعبقري بما يكفي ليتبث مفاهيمهم ويشك بها ويترجى بعد ذلك رضاهم، لعله بذلك يضمن رأسه سالماً. لكنه في الحقيقة لم يكن يتبث وإنما كان يقتل! ولعل أصدق تعبير عن جريمته جاء على لسان نيتشه: "أنا سأخبركم! لقد قتلناه – أنتم وأنا! نحن جميعًا قتلة. مات! وسيظل ميتًا! ونحن من قتلناه!" هكذا تكلم زرادشت.
لقد أصيب الناس حينها برعب وغرور وجنون لم يسبق له مثيل! ربما فاق غرور وجنون الكنيسة. والإثنين في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. أو هم أبناء لأم وحيدة: الفلسفة.
ماذا تحاول أن تصنع الفلسفة؟ تحاول صنع المفاهيم وتحاول البحث عن الحقيقة. لكن كما جاء سابقا العامة لا تتفلسف! لا تصنع المفاهيم غرض وصول الحقيقة. بل تبحث عن مفاهيم جاهزة غرض الإطمئنان والراحة.
"إن الوعي لا يعذب إلّا ذوي الضمائر الحية" ف.نيتشه
الحكيم والفيلسوف الحقيقي لا يرغب بأتباع ومصدقين، بل متفردين.
"فكر بنفسك وقف على قدميك. إني لا أعلمك فلسفة الفلاسفة ولكن أعلمك كيف تتفلسف" إ.كانط
ولأجل هذا فالفيلسوف لا يتفلسف إلّا لنفسه. وكل تطوير لفلسفة هي إساءة فهم. بل كلما زاد تطورها زادت خطورتها. فهي تنبش الحقيقة الوحيدة عند متفلسفها وهي لا تصلح إلّا لباحث عن الحقيقة حقاً، وليس عن الإطمئنان. الإطمأنان يوجد في المختبر وفي الكنيسة.
ثم إنه في الأغلب لن يصل الباحث إلى الحقيقة. لكنه يبحث! ويخلق المعجزات! ولعل أشهر معجزة بحث: تنائية النظام والفوضى. إنه من المبهر خلق مفهومين متناقضين من العدم. لكنهما مفهومين عاجزين رغم إعجازهم. عاجزين الخروج من المجرد إلى العملي. إنهما مفهومين لا نهاية لهما.
لقد فشلت الإنسانية على أرض المعركة، أي عمليا، وذلك أن ما سعت إليه، بإشراف الفلسفة، يخيب الآمال. وكان ولازال الناس يعيدون تاريخهم لا أقل ولا أكثر. لكن في كل مرة فوق خشبة مسرحية مختلفة. كان عنوانها البؤس والجنون بكل مرة. والحكيم فينا من انسحب من المسرحية. الحكيم من توقف عن لعب الدور ونزع قناع الشخصية (الذات). الحكيم من هدأ وكفّ عن المقاومة. إن الحكيم عرف أخيرا أنه جزء من الطبيعة، بل هو الطبيعة، ليس بمنظم ولا بفوضوي، لكنه متغير. إنه أشبه ببذرة صارت شجرة وصارت طاولة وصارت رماد... إنه أشبه بهواء تمتزج به كل الروائح المختلفة وتزول. لا الهواء ولا الشجرة يقاومان. كلٌ في الطبيعة مسلم أمره، هادئ، متناغم، متقبل... إلّا نحن! إننا دوما نريد ونريد ونريد... وجوهر إرادتنا: المعنى. ثم ما المعنى من إيجاد معنى؟ وما المعنى من إيجاد معنى للمعنى؟... إلى ما لانهاية من الشك والسؤال. إنه نفس النهج الشكي الديكارتي. ففي النهاية الحقيقة اليقينية من شك ديكارت هي الشك. فكذلك المعنى. نحن نعيش المعنى. وذلك قبل أن تعيقنا الذات والإرادة.
أنا روح هيمان في وادي التوهان، أنادي روح بوذا، يا من ارتوى واستقر ...
- هل تريد أن تصير سعيد؟
- نعم أنا أريد السعادة
- إذن تخلص من ال"أنا" في سؤالك، وكذا "الإرادة"، ولن يتبقى لك إلّا السعادة. السعادة والمعنى يعاشان داخلك لابحث خارجك.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |