كيف درس لينين هيغل

حميد علي زاده
2024 / 5 / 15


في خريف عام 1914 بدأ لينين دراسة مفصلة لكتابات هيغل. تحتوي ملاحظاته على رؤية عميقة للمنهج الديالكتيكي الذي كان بارعا فيه. في هذه المقالة للرفيق حميد علي زاده العضو القيادي في التيار الماركسي الأممي، التيي نشرت في العدد 44 من مجلتنا الأممية “الدفاع عن الماركسية”، وباللغة العربية في العدد 14 من مجلتنا “الحرية والشيوعية”، يسلط الرفيق حميد الضوء على الجوانب الأساسية لهذا المنهج، مؤكدا على الأهمية الأساسية التي تكتسيها النظرية بالنسبة للحركة الشيوعية.

في صيف عام 1914، اندلعت الحرب في أوروبا وتغير مسار تاريخ العالم بين عشية وضحاها. وبمباركة الزعماء الاشتراكيين الديمقراطيين الخونة، جرّت البرجوازية الأوروبية الإنسانية إلى دوامة مذبحة جهنمية، تم فيها إرسال عشرات الملايين من العمال والفلاحين إلى المجزرة.


تسببت الخيانة التي اقترفتها قيادة الأممية الثانية في تحطيم المنظمة الرئيسية للحركة العمالية العالمية، تاركة البروليتاريا العالمية بلا دفاع في الوقت الذي كانت الرجعية ترفع رأسها القبيح في كل مكان. وفي الوقت نفسه، تقلصت قوى الماركسية الثورية إلى أقلية صغيرة، مشتتة في جميع أنحاء أوروبا وبدون برنامج أو قيادة واضحين.

عندما اندلعت الحرب وجد لينين نفسه في بولندا، واضطر إلى الانتقال على عجل إلى سويسرا. لم يتوقع خيانة قادة الأممية، وصُدم في البداية عند سماعه أخبار تصويت الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في الرايخستاغ لصالح اعتمادات الحرب. آنذاك أصبحت الأممية في حالة خراب، وكان الصراع الطبقي في روسيا ينحسر في مواجهة الحرب، وصار لينين معزولا عن الجميع باستثناء حفنة من رفاقه.

ومع ذلك، ففي تلك اللحظة بالتحديد، عندما كانت المهام التنظيمية والسياسية المباشرة تلوح في الأفق بملحاحية أكبر من أي وقت مضى، انكب لينين على دراسة متعمقة للفلسفة الهيغلية. لكن، قد يتساءل البعض، لماذا قد يميل المرء إلى الانغماس في دراسة مسائل نظرية مجردة في خضم مثل هذه الأزمة؟ قد يبدو هذا بالنسبة للعقل الميكانيكي غريبا، بل وحتى سخيفا. وقد يقال ماذا عن “احتياجات” الحزب؟ وأن الأهم في مثل هذا الوضع هو التركيز على الأمور العملية المباشرة المطروحة!

من المؤكد أن مثل هذا القول من شأنه أن ينسجم مع الصورة الفجة التي يقدمها البرجوازيون عن لينين على أنه إنسان تافه، أو ما يسمى بالرجل العملي؛ وبكونه “متآمرا بارعا” صارما لا يلقي بالا للأمور “التافهة” مثل التأملات الفلسفية، وهي الصورة، بالمناسبة، التي لا تختلف عن تلك الصورة الكاريكاتورية التي كثيرا ما تقدمها الستالينية عن لينين.

إن هذه النظرة، في الواقع، تتناقض بشكل حاد مع المنهج الحقيقي للينين والماركسية بشكل عام. إن ما يميز لينين عن بقية قادة الأممية الثانية الآخرين هو، أولا وقبل كل شيء، وضوحه وموقفه الطبقي الثابت، وهي الصفات التي كانت تقوم على أساس تصوره النظري.

في عام 1914، عصفت الحرب بالوضع العالمي مثل إعصار عملاق، فمزقت كل شيء ثابت وصلب في طريقها. جميع البلدان سقطت في حالة من الاضطراب العنيف. وتم وضع جميع التيارات السياسية على المحك، وانفضحت بقسوة كل نقاط ضعفها. وفي مثل هذه الظروف، لا يمكن للارتجال الانطباعي أن يحقق أي شيء على الإطلاق.

لقد توقع الماركسيون الحرب. ومع ذلك فقد كان الوضع جديدا، الأمر الذي يتطلب إعادة توجيه الحزب بطريقة ماهرة. كان هذا هو السياق الذي شرع فيه لينين في رحلة جديدة إلى الفلسفة باعتبارها وسيلة لتعميق فهمه لقوانين الطبيعة والمجتمع.

وتعتبر دفاتر ملاحظاته الفلسفية التي تعود لتلك الفترة، وخاصة ملاحظاته حول كتاب هيغل “علم المنطق”، ليس فقط كنزا عظيما من الأفكار، بل إنها تزودنا أيضا بمعلومات مفيدة للغاية عن منهج لينين وموقفه تجاه النظرية.

منهج لينين
لم يكن لينين بأي حال من الأحوال غريبا عن هيغل أو الفلسفة بشكل عام. لقد درس باهتمام كبير أعمال ماركس وإنجلز الفلسفية، وكذلك كتابات بليخانوف الفلسفية، التي لعبت دورا رئيسيا في تطوير النواة الأولى للثوريين الماركسيين في روسيا.


لينين سنة 2014
كما أنه انخرط في فترة من الدراسة الفلسفية الجادة في أعقاب ثورة 1905، وكتب كتابا بعنوان “المادية والنقد التجريبي” ضد الأفكار التحريفية لبوغدانوف، الزعيم البلشفي الذي انجرف إلى فلك الفلسفة البرجوازية الرجعية.

وهكذا، كما تكشف دفاتر ملاحظاته الفلسفية، فإن لينين قد كان بالفعل أستاذا في الديالكتيك قبل عام 1914. ومع ذلك فإن المرء لا يشعر فيه أبدا بأدنى تلميح إلى الرضا الذاتي المريح عن مستواه السياسي والنظري. فطوال حياته، ومثلما هو الحال مع كل المعلمين الكبار، تعامل لينين مع النظرية بتواضع واجتهاد الطالب.

لقد استعرض بشكل منهجي علم المنطق لهيغل، حيث قام بتدوين ملاحظات مفصلة والتفكير في كل مفهوم موجود فيه. لم تكن هذه مهمة سهلة بأي حال من الأحوال. وبكلماته الخاصة، يبدو أن بعض الأجزاء من ذلك المؤلف هي “أفضل وسيلة للإصابة بالصداع!”[1]. لكن كل الأشياء القيمة تحتاج إلى بذل الجهد، واكتساب الأفكار الأكثر تقدما يتطلب بالضرورة عملا شاقا.

في ملاحظاته تلك يمكننا أن نرى كيف قام لينين، مثله مثل عالم التشريح، بتشريح وتقييم كل جزء من كتاب هيغل بعناية، قبل تجميعها معا وعرض الأفكار ككل. ومن خلال قيامه بذلك، لم يتمكن فقط من إتقان منهج هيغل، بل انتقده أيضا، وفصل النواة الحية عن قشرتها الميتة. لقد كانت طريقة لينين في الدراسة بحد ذاتها بمثابة دروس متقدمة في الديالكتيك. وقد لخص تروتسكي هذا المنهج في مقالته كيف درس لينين ماركس قائلا:

«الدراسة، التي ليست مجرد تكرار ميكانيكي، تتضمن أيضا جهدا إبداعيا، لكنه من النوع العكسي: إن تلخيص عمل شخص آخر يعني الكشف عن الإطار الهيكلي لمنطقه، وتجريد البراهين والرسوم التوضيحية والاستطرادات. كان فلاديمير يتقدم بسرور وحماس على هذا الطريق الصعب، يلخص كل فصل، وأحيانا صفحة واحدة، وهو يقرأ ويفكر ويتحقق من البنية المنطقية، والتحولات الديالكتيكية، والمصطلحات. وبتملكه للنتائج استوعب المنهج. لقد تسلق الدرجات المتعاقبة لنظام شخص آخر كما لو كان هو نفسه يبنيه من جديد. لقد استقر كل ذلك بقوة في هذا الدماغ المنظم جيدا تحت قبة الجمجمة القوية»[2].

تشهد دفاتر لينين الفلسفية على عقله الحازم، الذي كان يبحث باستمرار عن أفكار وزوايا جديدة يمكن أن توسع فهمه للعالم من حوله. وبينما كان يتعامل مع المسائل التنظيمية بأقصى قدر من المرونة، فإن إصراره على الوضوح النظري هو ما ميزه بكونه زعيما بارزا، وميز الحزب البلشفي باعتباره التيار الثوري الوحيد الحازم في عصره.

هل نحتاج للفلسفة؟
«لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الأشد ضيقا»[3].

يستطيع العديد من الشيوعيين أن يقتبسوا كلمات لينين الشهيرة -أو على الأقل الجملة الأولى منها- من ذاكرتهم، وهم لا يضيعون أي فرصة للقيام بذلك. لكن هل هذا يعني أنهم يفهمون المعنى الكامل لها؟ يمكن للتعود أن يكون مخادعا. يمكن له أن يغش الناس ويدفعهم إلى شعور زائف باليقين، وبالتالي يعيقهم عن فهم عمق الأشياء.

وهنا نرى الفرق بين الماركسية وبين التجريبية التي تميز الفلسفة البرجوازية اليوم. بالنسبة للماركسيين يعتبر الأمر المباشر الذي بين أيديهم هو مجرد لقطة سريعة؛ مجرد شريحة أو جانب واحد من ظاهرة معينة، والتي يجب دراستها وكشفها وفهمها في مجملها بشكل ملموس. أما بالنسبة للتجريبي فإن المباشر هو كل ما هو موجود، وكل شيء آخر هو كتاب مختوم بسبعة أختام.

يتبنى الإصلاحيون الفلسفة البرجوازية دون انتقاد، ويعملون، مثلهم مثل أسيادهم، على خفض رؤوسهم والركوع أمام ما يسمى “الحقيقة الثابتة”. وهنا يكمن الجوهر الفلسفي للانتهازية.

يشكل النهج الذي اتبعه الإصلاحيون في التعامل مع الحرب العالمية الأولى مثالا واضحا على ذلك. لقد تعاملت كل الطبقات السائدة في أوروبا مع الحرب من وجهة نظر مصالحها الوطنية الضيقة، والتي بررتها باللجوء إلى مبادئ مجردة، مثل “الدفاع عن الوطن الأم” أو “حق الأمم في تقرير المصير”.

وهكذا دخل حكام كل تلك الأمم الواحدة منها تلو الأخرى الحرب بعد اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، وألقى كل منهم باللوم على الآخر في إثارة الأعمال العدائية. هذا هو المدى الذي يفهم فيه البرجوازيون الحرب العالمية الأولى: باعتبارها سلسلة من القرارات التي اتخذها العديد الحكام. إذا نظرنا إلى ما حدث بالاقتصار على سطح الأشياء، فمن المؤكد أن مسار الأحداث قد كان على ذلك المنوال، لكن هناك ما هو أكثر من مجرد المظهر السطحي.


مقطع من لوحة اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند لجافريلو برينسيب نشرت في لو بيتي جورنال، 12 يوليو 1914
وقد جادل الاشتراكيون الديمقراطيون في ذلك الوقت بنفس الطريقة، وإن بخطاب يميل إلى اليسار. ردد الاشتراكيون الديمقراطيون النمساويون صدى المشاعر المعادية لروسيا والمعادية للصرب لحزب الحرب في فيينا. في حين تحدث بليخانوف والانتهازيون في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي عن تهديد الإمبريالية الألمانية الرجعية والحاجة إلى مساعدة صربيا المضطهدة. بينما صوت الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان لصالح ميزانية الحرب بمبرر الحاجة إلى وقف الإمبريالية الروسية الرجعية، وما إلى ذلك.

جميعهم نظروا إلى الحرب من منظور طبقتهم الرأسمالية الوطنية فقط، وعلى هذا الأساس سارعوا إلى “الدفاع عن الوطن”، وصوتوا بفارغ الصبر لإرسال ملايين العمال إلى حتفهم.

أما لينين، من جهة أخرى، فقد أوضح أن الحرب كانت نتاج الفترة السابقة بأكملها من التطور الرأسمالي. كان صعود الاحتكارات الصناعية العملاقة وهيمنة رأس المال المالي بمثابة مرحلة جديدة في تاريخ الرأسمالية، حيث دفعت الحاجة المستمرة لتصدير رأس المال البلدان المتقدمة والإمبريالية إلى صراع شرس من أجل تقسيم العالم وإعادة تقسيمه بحثا عن مجالات الاستثمار والأسواق ومناطق النفوذ.

وأوضح أن “الدفاع عن الوطن الأم” في مثل هذه الظروف كان مجرد غطاء للدفاع عن المصالح الضيقة للطبقات السائدة في كل أمة على حدة، أي لصالح مستغلي ومضطهدي البروليتاريا والجماهير الفقيرة الكادحة.

وهنا نرى في الممارسة العملية الفرق بين القبول الأعمى لفلسفة الطبقة السائدة، وبين تبني وجهة نظر فلسفية ثورية واعية.

خلال المرحلة الصاعدة للرأسمالية، استخدمت البرجوازية الفلسفة سلاحا قويا ضد الإقطاع والمدافعين الأيديولوجيين عنه في الكنيسة الكاثوليكية. وتحت راية العلم والعقل، كشفت نفاق المجتمع الإقطاعي وعدم عقلانيته.

لكن ومع وصول الطبقة الرأسمالية إلى مرحلة إفلاسها، تغيرت طبيعة فلسفتها أيضا وأصبحت محافظة تماما. ومثلها مثل عقائد الكنيسة التي حاربتها ذات يوم، صارت المذاهب البرجوازية في يومنا هذا تدافع عن الوضع الراهن.

وفي حين أن مذاهب الكنيسة القديمة وصفت الإيمان والكتاب المقدس بأنهما الطريق إلى الحقيقة، فإن كبار الكهنة الأكاديميين اليوم وغيرهم من النقاد المأجورين يبشرون بعدم عقلانية الطبيعة والمجتمع ويدعون إلى أن التجربة الذاتية المباشرة -تجربتهم الذاتية بالتأكيد!- هي كل ما هو موجود.

في الماضي، كان رجال الدين يعظون لصالح “النظام الإلهي للأشياء”، حيث كان الملك في القمة، يليه الإقطاعيون، وفي الأسفل توجد الطبقات الدنيا. أما اليوم، فإن كبار كهنة رأس المال يبشرون بقدسية الرأسمالية -السوق، والملكية الخاصة، والدولة القومية وكل الروث الأخلاقي الرجعي الذي يجلبه كل ذلك معه- باعتبارها الجوهر الثابت للبشرية.

لقد تحولت الفلسفة البرجوازية بالضرورة إلى نقيضها. وبدلا من أن تسعى إلى كشف الحقيقة، فإن الغرض الحقيقي من الأفكار التي يتم نشرها الآن، من خلال الدين الرسمي ووسائل الإعلام والمدارس وما إلى ذلك، هو إخفاء الحقيقة.

وبالتالي فإن الحقيقة هي السلاح الأكثر أهمية في يد الطبقة العاملة. ومثلها مثل كل الطبقات الثورية التي سبقتها، يجب على البروليتاريا أن تتبنى فلسفة ثورية واعية إذا كانت تريد فهم طريقة عمل النظام الرأسمالي وكيف يمكن القضاء عليه.

فكر مجرد
“الحقيقة ملموسة”[4]، كان لينين يستشهد كثيرا بهذه العبارة من عند هيغل. والماركسية تتعامل أولا وقبل كل شيء مع الحقيقة. لكن هذا لا يعني أن التفكير المجرد، في حد ذاته، غير صحيح. بل على العكس تماما.

وكما كتب لينين في ملاحظاته عن “منطق” هيغل، فإن:

«الفكر المنطلق من الملموس إلى المجرد -بشرط أن يكون صحيحا (ملاحظة هامة) (…)- لا يبتعد عن الحقيقة بل يقترب منها. إن تجريد المادة، تجريد قانون الطبيعة، تجريد القيمة، وما إلى ذلك، وباختصار كل التجريدات العلمية (الصحيحة، الجادة، غير السخيفة) تعكس الطبيعة بشكل أعمق وحقيقي وكامل»[5].

المعرفة الحقيقية ليست مجرد تكديس للحقائق واحدة فوق الأخرى. النقطة المهمة هي فهم العلاقة بين تلك الحقائق. وهذا هو دور الفلسفة: تزويدنا برؤية شاملة للعالم، ومنهج للتعامل مع الطبيعة والمجتمع من حولنا. الفكر المجرد صحيح بقدر ما يعكس الواقع. والسؤال الرئيسي بالطبع هو كيف يمكننا الوصول إلى هذه الحقيقة؟

الديالكتيك
استندت ثورة هيغل في الفلسفة إلى موضوعيته -أي اعتقاده بأن العالم موجود بشكل مستقل عن البشرية، وأنه يعمل على أساس قوانينه المتأصلة. وعلى هذا الأساس، فإن مهمة العلم والفلسفة ليست استحضار نظام يجر العالم بالقوة، بل استكشاف العالم كما هو، في ذاته، وبالتالي استخلاص القوانين التي تحكمه.

وفي كتابه المنطق، أجرى هيغل ببراعة هذا التحليل على التفكير العلمي نفسه. فقد شرع، خطوة بخطوة، في تتبع الفكر البشري وهو يتكشف بنفسه. وشرع انطلاقا من أبسط وأعم مفهوم ممكن، في الكشف عن القوانين التي تحكم الفكر العقلاني في حد ذاته.

يدعونا في افتتاحية كتابه إلى التأمل في المفهوم البسيط لـ“الوجود الخالص”. يعني هيغل هنا بـ“الخالص” أنه غير محدد نهائيا وغير متمايز، وبلا حدود ولا خصائص خاصة، ولا شيء محدد يحدده: محض وجود خالص. وكما يشير هيغل، فبغض النظر عن مدى صعوبة محاولتنا التفكير في الأمر، فإنه لا يمكننا أن نقول أي شيء عن مثل هذا الوجود، لأن أي شيء نقوله من شأنه أن يحده ويحدده، وبالتالي فلن يبقى “خالصا” بعد ذلك.

وبالتالي، فإنه في هذا الشكل الخالص، لا يمكننا في الواقع التحدث عن أي وجود معين على الإطلاق. لذلك نصل إلى استنتاج مفاده أن الوجود الخالص لا يختلف عن العدم. وبعبارة أخرى فإن فكرة الوجود الخالص تقودنا مباشرة إلى فكرة العدم.

ولكن بعد التأمل، نكتشف أن هذه ليست نقطة النهاية. لأنه يتضح أن فكرة “العدم الخالص”، في فراغها وعدم تحديدها، لا تختلف عن الوجود الخالص.

ولذلك فإن المفهومين ينتقلان إلى بعضهما البعض بمجرد أن نحاول تثبيتهما في أفكارنا، أو كما يكتب هيغل: «يختفي كل منهما على الفور في نقيضه»[6]. وهنا، في وحدة الوجود والعدم هذه، نلتقي بمفهوم أو بمقولة جديدة، وهي الصيرورة؛ الذي هو مفهوم أعلى، يحمل في داخله الوجود والعدم.

في هذا المثال البسيط، أو التجربة الفكرية، أوجز هيغل بذرة كل الديالكتيك بدءا من المبدأ الأساسي المتمثل في أن كل شيء في حالة من التغيير المستمر، من النشوء إلى الوجود والفناء.

يعلق لينين قائلا: “بارع وذكي!”، ويضيف:

«يقوم هيغل بتحليل المفاهيم التي تبدو عادة وكأنها ميتة ويبين أن هناك حركة فيها. محدود؟ هذا يعني الانتقال إلى نهاية ما! شيء ما؟ يعني ليس ذلك الذي هو آخر. “الوجود بشكل عام؟ يعني عدم التحديد إلى درجة أن الوجود = عدم الوجود”»[7].

طريق التغيير
«الحركة و“الحركة الذاتية” (ملحوظة هامة! حركة اعتباطية (مستقلة)، عفوية، ضرورية داخليا)، “التغيير”، “الحركة والحيوية”، “مبدأ كل حركة ذاتية”، “الاندفاع” (قيادة) إلى “حركة” و“نشاط” -عكس “الوجود الميت”- من يصدق أن هذا هو جوهر “الهيغلية”، الهيغلية المجردة والغامضة (المملة والسخيفة؟)؟؟ لا بد من إعادة اكتشاف هذا الجوهر، وفهمه، [وإنقاذه]، وتوضيحه، وصقله، وهو بالضبط ما فعله ماركس وإنجلز»[8].

بالنسبة للتجريبية البرجوازية الصغيرة، تظل الأمور على حالها أو في أفضل الأحوال تتحرك بطريقة دائرية. وبما أن اليوم يشبه الأمس، فإن الغد سيكون هو نفسه مرة أخرى. يبدو الوضع القائم أمامه كلي الجبروت، وبالتالي فإنه لا يرى خيارا سوى التذمر منه باستمرار، مع رفض أي محاولة للقطيعة معه.

سيجد دائما طرقا لإثبات أن الرأسمالية موجودة لتبقى، وأن الطبقة العاملة لن تتحرك أبدا، أو أن الحزب الثوري لا يمكن أو لا ينبغي بناؤه، وما إلى ذلك. وبقدر ما يقبل التغيير فإنه يعزوه إلى قوى خارجية. وفي نهاية المطاف، يستسلم للوضع الراهن، لأنه لا يستطيع أن يتخيل أنه يتغير. ولكن في الواقع، التطور أمر حتمي.

يقول هيغل: «لا يوجد شيء في أي مكان، لا في السماء ولا على الأرض، لا يحتوي في داخله على الوجود والعدم»[9]. وبينما لا يقدم لنا هيغل أي أمثلة من السماء فإن الأرض مليئة بالأمثلة على ذلك.

التغيير هو الوضع الأساسي لوجود كل مادة. وكل الأشياء التي تأتي إلى الوجود تحمل في داخلها بذور دمارها. إن هذا الصراع بين القديم والجديد، بين الوجود والعدم، يكمن في جوهر التطور، والرأسمالية ليست استثناء.

إن القوى التي تؤدي إلى سقوط النظام تأتي بالكامل من رحمه، أي البروليتاريا الحديثة. إن أهم ما يميز البروليتاريا هو أنها طبقة لا تمتلك أي ملكية، وهي مضطرة لبيع قوة عملها للرأسماليين من أجل البقاء. وتتناقض مصالحها بشكل مباشر مع الركائز الأساسية للرأسمالية، أي: الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية. وكل خطوة إلى الأمام في تطور الرأسمالية هي خطوة نحو تحول العمال إلى طبقة هائلة في مواجهة البرجوازية، مما يمهد لسقوط تلك الطبقة السائدة.

لكن هذه ليست سيرورة خطية وتدريجية. الثورات بالنسبة للرأسماليين هي نتاج لعمل القادة الماكرين والكاريزماتيين الذين يظهرون فجأة على الساحة، تماما مثلما يعتبرون الإضراب نتاجا لعمل “المحرض”. إن كل ثورة هي، في الواقع، نتيجة لفترات طويلة من التناقضات الاجتماعية المتصاعدة، حيث تتصادم مصالح الطبقة السائدة مع مصالح البروليتاريا.

طيلة سنوات عديدة يظهر النظام وكأنه راسخ لا يتأثر. بينما يحني العمال رؤوسهم ويقبلون إملاءات أرباب العمل. لكن سواء عاجلا أم آجلا، يتم الوصول إلى نقطة تحول حيث يطلق حدث عرضي العنان لكل الغضب المكبوت: فتنفجر السدود وتغمر الجماهير الساحة السياسية.

الاستقرار الظاهري يفسح المجال أمام الاضطرابات الأكثر حدة. وفي الوقت نفسه، فإن القوى الثورية، التي كانت حتى الأمس القريب معزولة على هامش الحركة العمالية، تجد نفسها فجأة في مركز الصدارة. كل هذا يحدث بطريقة مفاجئة وعنيفة، وبدون سابق إنذار على ما يبدو.

إن الإصلاحيين الذين أهملوا بالأمس الطبقة العاملة بسبب ما يسمى بـ “مستوى الوعي المنخفض” عندها وتنظيمها الضعيف، يصابون بالذهول من أحداث لم يتوقعوها ولا يمكنهم السيطرة عليها. وهذا يكشف فقط عن منظورهم السطحي.

كتب هيغل في فقرة أكد عليها لينين بشدة:

«يقال إنه لا توجد قفزات في الطبيعة، والتصور العادي، عندما يتعين عليه تصور نشوء أو فناء ما، يفكر في تصورهما (…) على أنهما نشوء أو اختفاء تدريجي»[10].

في الواقع إن العكس هو الصحيح. التطور ليس مجرد سيرورة خطية أو تدريجية. إنه يتألف، من جهة، من فترات تغيرات كمية وتدريجية صغيرة، تفسح بدورها المجال أمام قفزات نوعية حادة مفاجئة؛ ومن جهة أخرى، التحولات النوعية التي تفسح المجال أمام الانفجارات الكمية.

ويتابع هيغل:

«إن الماء عند تبريده لا يصبح صلبا بشكل تدريجي، شيئا فشيئا، بحيث يصل تدريجيا إلى جليد بعد مروره من حالة اللزوجة، بل يصبح صلبا فجأة؛ وعندما يصل بالفعل إلى نقطة التجمد تماما، قد يبقى (إذا ظل ثابتا) سائلا بالكامل، في حين يؤدي تعريضه لهزة خفيفة إلى وصوله إلى حالة الصلابة»[11].

إن انتقال الكم إلى الكيف والعكس -أو بعبارة أخرى: الطفرات- هو سمة أساسية لكل تطور. ومع ذلك فإنه من أجل فهم القوى الدافعة وراء هذه التحولات والاتجاه الذي سيتخذه التطور، نحتاج إلى تجاوز وجهة نظر “الحس العام”. إن ما نحتاجه هو إلقاء نظرة فاحصة على القوى والتيارات الخفية التي لا يمكن رؤيتها على الفور بالعين المجردة.

تحت السطح
عندما نكون بصدد ممارسة حياتنا اليومية، وبالنظرة السطحية للأشياء، نعتقد أن الأشياء بسيطة وثابتة. نكون متيقنين أن الرجل رجل، والكلب كلب، وهذا هو هذا، وذاك هو ذاك، الخ. لكن وبمجرد أن نركز أنظارنا، يختفي هذا اليقين. ففي بحثنا عن الكلب النموذجي، يجب علينا أن نعترف بعدم وجود شيء من هذا القبيل؛ إذ أن كل الكلاب مختلفة.

حتى لو أخذنا صديقنا الفريد من نوعه، الكلب فيدو، فسنلاحظ أن فيدو اليوم ليس تماما كما كان في الماضي. إنه مختلف تماما عن الجرو الذي صادقناه منذ سنوات، وفي لحظة، سيختلف عن فيدو الآن. وبمجرد أن نحاول الاحتفاظ بالمفاهيم الثابتة والجامدة في أذهاننا، تفلت جميعها من بين أصابعنا وتذوب في عالم متنوع بلا حدود.

يتوقف أنصار فلسفة ما بعد الحداثة عند هذه النقطة ويعلنون أن “الاختلاف” هو جوهر العالم. ويعلنون أن كل شيء مختلف عن كل شيء آخر، وبالتالي فإن مفاهيمنا وتصنيفاتنا العامة هي مجرد “بنيات” خيالية.

لكنهم يتسرعون في إطلاق الأحكام. لأنه بمجرد أن نحول أنظارنا إلى ذلك العالم من الاختلاف الذي لا حدود له، فإن ما سيظهر لنا على الفور هو أنه على الرغم من حالة التغير المستمر لكل شيء، وبوضوح مذهل على جميع المستويات، فإن هناك تكرار الأنماط والقوانين المتشابهة، التي تحكم بيد من حديد.

للوهلة الأولى لا يوجد كلبان متشابهان. ومع ذلك تظهر بعض السمات الأساسية في جميع الكلاب، مما يجعلها كلابا. وعلى الرغم من أن كل خلية وجزيء وذرة في جسم فيدو هي في حالة حركة وتحول مستمرين، فإنه ما يزال هناك شيء متأصل يتجاوز كل حالة عابرة أو عرضية لصديقنا الكلب. إن هوية الأشياء لا توجد بمعزل عن اختلافها، بل من خلالها.

في الفلسفة الأفلاطونية القديمة، كان جوهر الأشياء عبارة عن نماذج أولية مثالية، تقف فوق، أو في مواجهة، العالم النابض بالحياة والمتنوع الذي نعرفه. أما بالنسبة لأنصار ما بعد الحداثة، فإن جوهر الأشياء هو مجرد بنيات عقلية اعتباطية نسقطها نحن البشر على الواقع الخارجي.

وحول هذه المسألة كتب لينين قائلا:

«وبينما يناقش الفلاسفة الصغار (كانط، هيوم، وكل الماخيين) ما إذا كان ينبغي اعتبار الجوهر هو الأساس أو المعطى المباشر هو الأساس. فإن هيغل يضع “و”، ويشرح المحتوى الملموس لـ “و”»[12].

وكما أثبت العلم الحديث مرارا وتكرارا، فإن جوهر الأشياء -أي ما يجعلها على ما هي عليه- هو مجرد العلاقات المتأصلة بين الأشياء نفسها. إنها الديناميات الداخلية للمادة، التي تنشأ وتعبر عن نفسها في الأشكال والتكوينات اللانهائية التي تتخذها الطبيعة من حولنا.

أوضح تشارلز داروين في نظريته عن التطور البيولوجي كيف تتطور جميع الكائنات الحية من خلال الانتقاء الطبيعي للطفرات التي تزيد من قدرتها على البقاء والتكاثر. وكتب قائلا: «من بداية بسيطة جدا، تطورت، وما تزال تتطور، أشكال لا نهاية لها أجمل وأروع»[13].

إن قانون التطور لا يوجد بمنأى عن الكائنات الحية، بل هو أسلوب تطورها. وما يميز البشر عن غيرهم من الحيوانات هو على وجه التحديد قدرتنا على تجريد هذه الجوانب من الأشياء، الجوانب التي لا يمكن رؤيتها مباشرة بالعين المجردة، للتأمل فيها وبالتالي التوصل إلى فهم أعمق للظاهرة ككل. وبعبارة أخرى، فإن أفكارنا ومفاهيمنا العامة هي مقاربات (Approximations) للقوانين والعلاقات الحقيقية التي تحكم العالم.

كلما تمكنا من التعمق في الأشياء، كلما تمكنا من كشف علاقاتها أكثر، وكلما زادت قدرة أفكارنا على أن تعكس جوهر الأشياء نفسها.

وكما كتب لينين فإن:

«الطبيعة هي في نفس الوقت ملموسة ومجردة، وهي في نفس الوقت ظاهرة وجوهر، وهي في نفس الوقت لحظة وعلاقة. المفاهيم الإنسانية ذاتية في تجريدها، وانفصالها، ولكنها موضوعية ككل، في السيرورة، في المجموع، في الاتجاه، في المصدر»[14].

التناقض
التفكير العادي يتملك جانبا واحدا مباشرا من الظاهرة ويضعه في مواجهة بقية الظاهرة. وتعتبر هذه الطريقة صحيحة بالنسبة للمهام اليومية. لكننا إذا نظرنا عن كثب، سنرى أن الطبيعة ليست أحادية الجانب وبسيطة، بل هي متعددة الجوانب ومتناقضة.

إن التجريدات الأحادية الجانب قد ماتت، كما يشرح هيغل، في فقرة أكد عليها لينين، إذ يقول: «لكن التناقض هو أصل كل حركة وحيوية، ولا يمكن لأي شيء أن يتحرك ويكون له دافع ونشاط إلا بقدر ما يحتوي على تناقض»[15].

ويضيف: «الشيء يتحرك، ليس لأنه هنا في لحظة من الزمن وهناك في لحظة أخرى، بل لأنه هو هنا وليس هنا في نفس الوقت، وفي هنا هو في نفس الوقت موجود وغير موجود»[16]. هذا هو مسار كل حركة وتطور.

الديالكتيك لا يستبعد النظرة الأحادية الجانب للعالم التي يقوم عليها التفكير اليومي؛ إنه يستوعبها باعتبارها أحد جوانب الحقيقة العليا. فهو يشمل جميع جوانب الظاهرة -علاقاتها الداخلية والخارجية- ويحملها في تناقضها ككل معقد.

وبمجرد أن نفهم ذلك، ينفتح أمامنا عالم جديد تماما. عالم مترابط حيث توجد الأجزاء في علاقة متبادلة مع الكل؛ حيث يتدفق الوجود إلى الفناء، والعكس صحيح؛ حيث يتدفق الكم إلى كيف والعكس صحيح؛ حيث تتداخل الهوية والاختلاف مع بعضهما البعض؛ حيث يخوض الشكل والمضمون صراعا مستمرا؛ حيث تكون المبادئ البسيطة أساس العمليات الأكثر تعقيدا، وهكذا دواليك.


وكما كتب لينين «إن شرط معرفة جميع سيرورات العالم في “حركتها الذاتية”، وفي تطورها التلقائي، وفي حياتها الواقعية، هو معرفتها كوحدة للمتناقضات»، وأضاف: «إن التطور هو “صراع” المتناقضات»[17].

القوانين
كلما تمكنا من التعمق في فهم ظاهرة ما، وكلما تمكنا من تتبع علاقاتها المتناقضة الداخلية بشكل أفضل، كلما ظهرت أمام أعيننا أقل عشوائية أو اعتباطية. وبدلا من ذلك، فإن ما سيتبلور تدريجيا هو مسار تطورها الضروري، أو بعبارة أخرى: مسار تطورها المحكوم بالقوانين.

لدينا هنا طريقة لرؤية العالم مختلفة تماما عن التصنيفات الميتة للفلسفة البرجوازية. إن النظرة الديالكتيكية لا تعكس فقط الخصائص الخارجية للظاهرة أو مراحلها العابرة، بل تعكس مجمل تطورها في مراحلها المتعاقبة، من النشوء حتى زوالها الحتمي. وهذا الأسلوب هو جوهر الماركسية.

كتب لينين:

«في كتابه “رأس المال”، يحلل ماركس أولا العلاقة اليومية الأبسط والأكثر اعتيادية وجوهرية والأكثر شيوعا في المجتمع (السلعي) البرجوازي، وهي علاقة تمت مواجهتها مليارات المرات، أي تبادل السلع. في هذه الظاهرة البسيطة جدا (في “خلية” المجتمع البرجوازي هذه) يكشف التحليل كل تناقضات (أو بذور كل تناقضات) المجتمع الحديث. ويبين لنا العرض اللاحق تطور (كلا من نمو وحركة) هذه التناقضات وهذا المجتمع في [مجموع] أجزائه الفردية. من بدايته إلى نهايته. (…) يجب أن يكون هذا أيضا منهج عرض (أي دراسة) الديالكتيك بشكل عام (لأن ديالكتيك المجتمع البرجوازي عند ماركس ليس سوى حالة خاصة من الديالكتيك)»[18].

تطبيق المنهج الديالكتيكي مكّن ماركس من الكشف عن قوانين الرأسمالية. وعلى هذا الأساس، تمكن من التنبؤ بدقة، وبشكل عام، بمجمل التطور الذي عرفه المجتمع الرأسمالي بعد وفاته؛ وهو التطور الذي يؤدي بالضرورة إلى وصول البروليتاريا إلى السلطة وإلغاء الملكية الخاصة والدولة القومية.

وعلى أساس المنظور الذي وضعه ماركس وإنجلز في البداية -وهو منظور يرتكز على دراسة التاريخ البشري، والذي تثبت صحته يوما بعد يوم- يقوم برنامجنا نحن الشيوعيون.

ومن ثم، كتب لينين: فإنه «من المستحيل فهم كتاب ماركس “رأس المال” وخاصة الفصل الأول منه بشكل كامل، دون دراسة وفهم كامل منطق هيغل برمته. وبالتالي، وبعد نصف قرن لم يفهم أحد من الماركسيين ماركس!!»[19].

قراءة هيغل بالطريقة الصحيحة
لقد طور هيغل ببراعة العرض الأكثر شمولا للديالكتيك باعتباره علم الحركة والتغيير. وما تزال أفكاره، حتى يومنا هذا، تقف فوق كل المذاهب الفلسفية الرسمية للطبقة الرأسمالية.

لكن الديالكتيك اتخذ على يد هيغل شكلا صوفيا ومثاليا. إذ أن الديالكتيك عند هيغل لم يكن القوانين المتأصلة لتطور الطبيعة، بل قوانين تطور ما أسماه الروح المطلقة أو الفكرة المطلقة. كتب قائلا إن الفكرة “تصبح خالقة الطبيعة”، وهي الفكرة التي يكتفي لينين بالرد عليها بقوله: “هاها! ”[20].

بالنسبة لهيغل، فإن التصنيفات المنطقية، مثل الوجود، والعدم، والصيرورة، والكم، والكيف، والجوهر، والمظهر، وما إلى ذلك، لها وجود مستقل باعتبارها الأجزاء المكونة لتلك الفكرة الشاملة، والتي بدورها عبرت عن نفسها من خلال الطبيعة. وبمجرد أن تتجلى في الطبيعة، يجد المطلق أسمى أشكاله في الفكر العقلاني، ويبلغ ذروته مع الفلسفة الهيغلية نفسها.

لقد أصر هيغل على الأولوية المطلقة للفكر المجرد على النشاط البشري. وبقدر ما أدرج النشاط كعنصر أساسي في منطقه، فقد كان ذلك في المقام الأول صنفا منطقيا. وهو يصر طوال كتابه “المنطق” على أنه يجب على القارئ أن يترك العالم الخارجي وراءه ويبقى في عالم “الفكر الخالص”.

ومع ذلك، فقد اضطر مرارا وتكرارا إلى الاتجاه نحو المادية، بمنطقه الخاص، ومن أجل إثبات وجهة نظره. وكما لاحظ لينين فإنه: «في أعمال هيغل الأكثر مثالية، هناك أقل ما يمكن من المثالية وأكثر ما يمكن من المادية. هذا متناقض، لكنه حقيقي!»[21].

كان هيغل ينتمي إلى معسكر المثالية الفلسفية التي ترى أن العقل هو المكون الأساسي للواقع، وأن العالم الخارجي هو، بشكل أو بآخر، اشتقاق أو انعكاس للعقل. تقع جميع الأديان في معسكر المثالية الفلسفية، ولم يخف هيغل أنه كان يصوغ نظاما دينيا.

نحن الماركسيون ماديون فلسفيون. نحن، وعلى عكس المثاليين، نعتقد أن هناك عالما واحدا فقط، وهو العالم المادي الذي يمكننا الشعور به والتفاعل معه. العقل البشري هو نتاج لهذا العالم المادي وأفكارنا هي مجرد انعكاسات له.

كتب لينين:

«أنا بشكل عام أحاول قراءة هيغل قراء مادية. هيغل هو المادية التي تم قلبها رأسا على عقب… -أي أنني في معظم الأحيان ألقيت جانبا الله، والمطلق، والفكرة الخالصة، وما إلى ذلك»[22].

كان في مقدور لينين أن يفعل ذلك لأن مفهوم الفكرة المطلقة لا يلعب أي دور أساسي في الجوانب الجوهرية لأفكار هيغل. بل إنه في الواقع، وكما لاحظ فريدريك إنجلز، “لم يقل أي شيء مطلقا”[23] عن الفكرة المطلقة.

لا يعتقد الماركسيون أن للديالكتيك أي وجود منفصل عن الطبيعة. إن قوانين الديالكتيك ليست قوانين الأفكار، بل هي تعكس القوانين المتأصلة في الطبيعة نفسها على المستوى الأكثر عمومية. ومن خلال تفاعلنا مع العالم، نصير نحن البشر قادرين على اكتشاف تلك القوانين على مستويات أعمق وأعمق. هذا هو أساس الفلسفة الماركسية: المادية الديالكتيكية.

كتب لينين:

«المنطق ليس علم الأشكال الخارجية للفكر، بل هو علم قوانين تطور جميع الأشياء المادية والطبيعية والروحية، أي تطور كامل المحتوى الملموس للعالم ومعرفته، أي المجموع الكلي، خلاصة تاريخ معرفة العالم»[24].

لقد كان من أعظم إنجازات ماركس وإنجلز إنقاذ الديالكتيك من أغلال مثالية هيغل الميتة و“قلبه رأسا على عقب”. وبينما يتأكد ديالكتيك الطبيعة يوميا بفضل تقدم العلم والثقافة، فإن مثالية هيغل -أي روحه المطلقة- تظل مجرد هيكل خارجي هامد، والذي كان لا بد من سقوطه حتى يتمكن الكائن الحي الحقيقي الموجود تحته من الاستمرار في التطور.

النظرية والتطبيق
من أين تأتي الأفكار؟ هذه الأوهام الساحرة تتجول في عوالمنا الداخلية؛ لقد تم نسيان أصولها المحددة منذ فترة طويلة، وبالتالي فمنذ آلاف السنين أضفى عليها الناس صفات صوفية. في المثالية، تقف الأفكار في وجه البشر كقوى جبارة تقف فوق الطبيعة والمجتمع.

لكن الأفكار ليس لها وجود مستقل. كما أنها ليست، كما يتخيل المثاليون الذاتيون، حواجز لا يمكن اختراقها بين البشر وبين العالم الخارجي. العقل هو وظيفة تنظيمية لجنسنا البشري، والذي من خلال العمل يسد الفجوة بيننا وبين الطبيعة المحيطة بنا.

وكما يشرح ماركس فإن: «إنتاج الأفكار، والتصورات، والوعي، يتشابك في البداية بشكل مباشر مع النشاط المادي والتواصل المادي بين الناس، لغة الحياة الواقعية»[25]. ومن تفاعلنا المستمر مع العالم من حولنا، أو ما يسميه ماركس بـ“الأيض (Metabolism) بين الإنسان والطبيعة”، تنشأ مفاهيم تسمح لنا بفهم محيطنا وتكييفه مع احتياجاتنا. ومن خلال قيامنا بذلك فإننا نغير أنفسنا أيضا. إن أفكارنا، مثلها مثل مقولات المنطق، ليست ظواهر فوق الطبيعة؛ إنها تعكس فقط الطبيعة نفسها، وتكمن أصولها في النشاط الاجتماعي البشري.

يقول لينين:

«إن الفعل والممارسة، بالنسبة لهيغل، هما “قياس منطقي”، شكل من أشكال المنطق. وهذا صحيح! ليس بالطبع، بمعنى أن شكل المنطق له وجوده الآخر في ممارسة الإنسان (= المثالية المطلقة)، بل العكس صحيح: ممارسة الإنسان، التي تكرر نفسها ألف مليون مرة، تصبح راسخة في وعي الإنسان من خلال صور المنطق. وعلى وجه التحديد (وفقط) بسبب هذا التكرار الذي يصل إلى ألف مليون مرة، تتمتع هذه الصور بثبات المسلمة، والطابع البديهي»[26].

وبعبارة أخرى، فإن الطابع الديالكتيكي للفكر الذي رسمه هيغل في منطقه هو مجرد انعكاس للطبيعة التي يتفاعل معها الناس. يقول لينين مستشهدا بهيغل: «الطبيعة، هذا الكل المباشر، تتكشف في الفكرة المنطقية». ويمضي فيقول:

«المنطق هو علم الإدراك. إنه نظرية المعرفة. والمعرفة هي انعكاس الطبيعة عند الإنسان. لكن هذا ليس بسيطا، وليس تفكيرا فوريا، وليس تفكيرا كاملا، بل سيرورة سلسلة من التجريدات، وتكوين وتطوير المفاهيم والقوانين وما إلى ذلك، وهذه المفاهيم والقوانين وما إلى ذلك، (الفكر، العلم = “الفكرة المنطقية”) تحتضن بشكل مشروط، تقريبا، الطبيعة العامة التي يحكمها القانون للطبيعة المتحركة والمتطورة إلى الأبد»[27].

ومن خلال آلاف السنين من التجربة والخطأ، قمنا بتطوير أفكار ومفاهيم عامة تغوص بشكل أعمق في جوانب مختلفة من الطبيعة، وهي الأفكار التي أصبحت الجوهر المركّز للتجربة الإنسانية. والديالكتيك هو الإنجاز الأعظم لهذا التطور حتى الآن.


صفحة من ملاحظات لينين على علم المنطق لهيجل
لكن المعرفة ليست تيارا أحادي الاتجاه، يطبع نتائج أنشطتنا في أدمغتنا. هناك أيضا سيرورة عكسية متزامنة: فبعد استنتاج جوانب مختلفة من العالم الذي تحكمه القوانين، يسمح لنا الفكر المجرد بأن نتأمل في أفكارنا ونعمقها من أجل تحسين ممارساتنا بشكل أكبر في المستقبل.

ففي الممارسة، في آخر المطاف، حيث تواجه أفكارنا العالم الموضوعي الذي نسعى إلى تغييره. ومن خلال هذه السيرورة تكتسب طابعها الموضوعي: «وحدة الفكرة النظرية (المعرفة) والممارسة -هذه ملحوظة- وهذه الوحدة على وجه التحديد في نظرية المعرفة، لأن النتيجة هي [الفكرة الموضوعية]»[28].

لا تمثل النظرية، بالنسبة لضيقي الأفق، إلا نوعا من الفضول في أحسن الأحوال. لكن التفاعل الديالكتيكي بين النظرية والممارسة، الذي يؤدي أحدهما إلى الآخر، هو الذي يميز «السيرورة اللانهائية لتعميق معرفة الإنسان بالشيء، بالظواهر والسيرورات، وما إلى ذلك، من المظهر إلى الجوهر، ومن جوهر أقل عمقا إلى جوهر أكثر عمقا»[29].

وهذه سيرورة تعزز وتوسع في الوقت نفسه سيطرة الإنسان على الطبيعة. فكلما زادت معرفتنا بالقوانين التي تحكم عالمنا، كلما تمكنا من تحقيق أهدافنا وتطلعاتنا بكفاءة أكبر. وهنا نرى أهمية النظرية بالنسبة للشيوعيين.

وكما أوضح تروتسكي فإن:

«الأكثر حزما وصرامة وتوازنا هو الذي يرى النظرية بكونها دليلا للعمل. يمكن لمتشككي الصالونات أن يسخروا من الطب دون عقاب، لكن الجراح لا يمكنه أن يعيش في جو من عدم اليقين العلمي. وكلما تعاظمت حاجة الثوري إلى النظرية بكونها دليلا للعمل، كلما زاد عناده في الدفاع عنها. لم يكن فلاديمير أوليانوف يثق في الهواة وكان يكره الدجالين. إن ما كان يقدره قبل كل شيء في الماركسية هو الانضباط الصارم وقوة منهجها»[30].

انتصار التوقع على الدهشة
لقد عرّف تروتسكي النظرية الماركسية ذات مرة بأنها ميزة انتصار “التوقع على الدهشة”. وقد كانت هذه القدرة على التوقع والفهم العميق على وجه التحديد هو ما سمح للينين والبلاشفة بالانتصار في مواجهة المصاعب الشديدة من جميع الجهات.

كان البلاشفة في بداية الحرب العالمية الأولى -من حيث القوة والنفوذ والموارد- أحد أضعف التيارات السياسية في أوروبا. وتحت تأثير موجة النزعة الوطنية التي أثارتها السلطات القيصرية وما نتج عنها من مزاج الوحدة الوطنية، فقد الحزب أغلبية قاعدة دعمه بين الطبقة العاملة الروسية. الموجة الثورية التي كانت تختمر في روسيا قبل الحرب تعرضت للإجهاض على الفور وتعزز موقف النظام القيصري مؤقتا.

ومرة أخرى دفعت العناصر الثورية إلى الهامش. ومما زاد الطين بلة، أن العديد من أفضل العمال أرسلوا إلى الجبهة عقابا لهم على أنشطتهم في المصانع وأماكن أخرى. كان معظم القادة البلاشفة الرئيسيين في المنفى في أوروبا، حيث انقطعت خطوط الاتصال أو تعطلت بشدة بسبب الحرب.

كانت الردة الرجعية ترفع رأسها وتكتسح الساحة في كل مكان في أوروبا، وكانت الطبقة العاملة في تراجع. كان البرجوازيون في أوروبا، المسلحين بالبنادق والدبابات والقنابل، يدمرون كل ما يقف في طريقهم، وكانوا يرمون جانبا بكل من يقف في طريقهم أو يرسلونه إلى الجبهة ويقضون عليه إذا لزم الأمر. وفي الوقت نفسه، بدا أن القادة الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين، الذين تجندوا خلف طبقاتهم السائدة، يجلسون بشكل مريح في حضن أسيادهم البرجوازيين.

بالنسبة للبلاشفة، بمواردهم المالية الضعيفة، وأجهزتهم الضعيفة أو المعدومة، ومنظماتهم الحزبية التي كانت في حالة من الفوضى الكاملة بسبب الحرب، كانت فكرة الاستيلاء على السلطة تبدو بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، فبعد ما يزيد قليلا عن ثلاث سنوات من بدء الحرب، تحول كل ذلك إلى نقيضه، فإذا بالحزب البلشفي يقود العمال والفلاحين في روسيا إلى السلطة في ثورة أكتوبر عام 1917. لا يمكن تصور عرض للديالكتيك أعظم من ذلك!

نرى هنا قوة الأفكار في الممارسة العملية. يمكن اختزال نجاح البلاشفة في نجاح المنهج الماركسي، في منهج المادية الديالكتيكية.

أصر لينين والبلاشفة على الموقف الطبقي العمالي ورفضوا تقديم أدنى تنازل للنزعات الشوفينية الوطنية التي أنتجتها الحرب في جميع أنحاء أوروبا. وبينما أدت الحرب في البداية إلى تعزيز موقف الطبقة السائدة، فإنها أصبحت فيما بعد أكبر قوة دافعة للثورة من خلال إبراز التناقضات الطبقية بشكل حاد في المجتمع.

وهكذا فإن الرسالة الثورية للبلاشفة، التي لم تلق أي صدى شعبي على الإطلاق في الأيام الأولى للحرب، أصبحت صرخة تعبئة الجماهير الروسية، ونشرت الرعب بين الطبقات السائدة في العالم.

الانتهازية هي التخلي عن المنظور طويل المدى لصالح أهداف فورية قصيرة المدى. أما الديالكتيك فهو علم تجاوز الوضع المباشر وفهم السيرورات المعقدة والممتدة في مجملها. لقد كان التفاني في الدفاع عن النظرية والتمكن من الديالكتيك هو الذي أعطى لينين ميزة كبيرة على أعدائه.

في السياسة، يؤدي الافتتان بالمظهر المباشر للأشياء إلى إطلاق شعارات انتهازية و“الافتتان بأضيق أشكال النشاط العملي”. لكن لينين والبلاشفة تجاوزوا المظاهر وعالجوا جوهر الأشياء، بغض النظر عن تأثيرها المباشر على الحزب، لأنهم كانوا يعلمون أن الحقيقة وحدها هي التي ستقربهم في النهاية من انتصار الطبقة العاملة. وكان هذا هو مفتاح نجاحهم.

وقد لخص ليون تروتسكي جوهر الأمر قائلا:

«إنها لتجربة تاريخية أن أعظم ثورة في التاريخ لم تكن بقيادة الحزب الذي بدأ بالقنابل، بل بقيادة الحزب الذي بدأ بالمادية الديالكتيكية»[31].

حميد علي زاده

عنوان النص الأصلي:
HOW LENIN STUDIED HEGEL

هوامش:
[1]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 176

[2]: L Trotsky, “How Lenin Studied Marx”, Fourth International, Vol.11, No.4, July-August 1950, pg 126

[3]: V I Lenin, What is to be done?, Wellred Books, 2018, pg 26

[4]: V I Lenin, “One Step Forward, Two Steps Back”, Lenin Collected Works, Vol. 7, Progress Publishers, 1961, pg 412

[5]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 171

[6]: G W F Hegel, The Science of Logic, Cambridge University Press, 2010, pg 60

[7]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 110

[8]: ibid. pg 141

[9]: G W F Hegel, The Science of Logic, Cambridge University Press, 2010, pg 61

[10]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 123

[11]: ibid. pg 124

[12]: ibid. pg 134

[13]: C Darwin, The Origin of Species, P F Collier and Son, 1909, pg 529

[14]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 208

[15]: ibid. pg 139

[16]: G W F Hegel, The Science of Logic, Cambridge University Press, 2010, pg 382

[17]: V I Lenin, “On the Question of Dialectics”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 360

[18]: ibid. pg 360-361

[19]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 180

[20]: ibid. pg 174

[21]: ibid. pg 234

[22]: ibid. pg 104

[23]: F Engels, “Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy”, Karl Marx Frederick Engels Collected Works, Vol. 26, Progress Publishers, 1990, pg 360

[24]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 92-93

[25]: K Marx, The German Ideology, International Publishers, 1947, pg 13-14K Marx, The German Ideology, International Publishers, 1947, pg 13-14

[26]: V I Lenin, “Conspectus of Hegel’s Book ‘The Science of Logic’”, Lenin Collected Works, Vol. 38, Progress Publishers, 1961, pg 217

[27]: ibid. pg 182

[28]: ibid. pg 219

[29]: ibid. pg 222

[30]: L Trotsky, “How Lenin Studied Marx”, Fourth International, Vol.11, No.4, July-August 1950, pg 127

[31]: L Trotsky, In Defence of Marxism, Wellred Books, 2019, pg 106

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي