|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
راندا شوقى الحمامصى
2024 / 4 / 15
إِنَّ حَظْرَ الأسلحة النَّوويّة، وتحريم استعمال الغَازات السّامّة، ومنع حرب الجراثيم، إنَّ كلّ ذلك لن يُزيل الأسباب الجَذريَّة لاندلاع الحروب. ورغم وضوح أهميَّة هذه الإجراءات العمليّة كعناصر لمسيرة السّلام، فهي في حدّ ذاتها سَطحيَّة بحيث أَنَّها لن تكون ذات أثرٍ دائم. فالبشر يتمتَّعون بالبراعة لدرجةِ أَنَّه باستطاعتهم إِن أرادوا خَلْق وسائل أخرى لشنّ الحروب. فبإِمكانهم استخدام الأغذية، أو الموادّ الخام، أو المال، أو القوّة الصناعيّة، أو المذاهب العقائديّة، أو الإرهاب، أسلحةً يَطْغَى بها الواحد منهم على الآخر في صراع لا نهاية له طَمَعاً في السّيطرة والسّلطان. كما أنَّه من غير الممكن إصلاح الخَلَل الهائل في الشّؤون الإنسانيّة الرّاهنة عن طريق تسوية الصّراعات الخاصّة والخلافات المُعيَّنة القائمة بين الدّول. لقد أصبح من الواجب إِيجاد إطارٍ عالميّ حقيقي واعتمادُه لإصلاح الخلل.
ومن المؤكَّد أنّ قادة العالم يُدرِكون أَنَّ المشكلة في طبيعتها عالميّةُ النّطاق، وهي واضحة المعالم في جملة القضايا المُتراكِمة التي يُواجِهونها يوماً بعد يوم. وهناك أَيضاً الأبحاث والحلول المطروحة التي تتكدَّس أمامهم من قِبَل العديد من المجموعات الواعية المُهتمَّة بهذه القضايا ومن وكالات الأمم المتّحدة، ممّا لا يَدَع لأحدٍ منهم مجالاً لعدم الإِلمام بالمَطالب التي تتحدَّاهم والتي لا بُدَّ من مجابهتها. إلاّ أَنَّ هناك حالةً من شلل الإرادة. وهذه الحالة هي بيت القصيد والمسألة التي يجب بحثها بعناية ومعالجتها بكلّ عزم وإصرار. فحالة الشّلل هذه تَجِد جذورها – كما سبق أن ذكرنا – في ذلك الاعتقاد الرّاسخ بأن البشر جُبِلوا على التَّصارُع فيما بينهم وأَنَّ هذه نَزْعَةٌ لا يمكن تلافِيها. ولقد ترتَّب على هذا الاعتقاد تردُّدٌ في إعارة أيّ التفاتٍ إلى إمكانيَّة إخضاع المصالح الوطنيّة الخاصة لمُتطلَّبات النّظام العالميّ، وترتَّب عليه أَيضاً نَوْعٌ من انعدام الرّغبة في اتِّخاذ مَوْقِفٍ شُجاع يقضي بقبول النّتائج البعيدة المدى النّاجمة عن تأسيس سلطةٍ عالميّة مُوحَّدة. وفي الإمكان أيضاً تلمُّس حالة الشّلل هذه في أَنَّ جماهير غفيرة من البشر لا تزال إلى حدّ بعيد، رازحةً تحت وَطْأَة الجهل والاستعباد، وعاجزةً عن الإفصاح عن رغباتها في المطالبة بنظامٍ جديد يَضْمَن لها العيش مع البشر كافّة في سلامٍ ووئامٍ ورخاء.
إِنَّ الخطوات التّجريبيّة التي اتُّخِذت في سبيل تحقيق النّظام العالميّ، وخاصةً تلك التي تمّ اعتمادها منذ الحرب العالميّة الثّانية تُوحِي بدلائل تبشِّر بالأمل. فتزايُدُ الاتِّجاه لدى مجموعات الأمم نحو إقامة علاقات تُمكِّنها من التّعاوُن فيمَا بينها في القضايا ذات المصالح المشتركة يُشير إلى أَنَّ الأمم كلّها باستطاعتها التّغلُّب على حالة الشّلل هذه في نهاية المطاف. فرابطة دول جنوب شرق آسيا، وجامعة دول البحر الكاريبي وسوقها المشتركة، والسّوق المشتركة لدول أمريكا الوُسْطَى، والمجلس الاقتصاديّ للتّعاون المشترك، ومجموعة الدّول الأوروبيّة، وجامعة الدّول العربيّة، ومُنظَّمة الوحدة الإفريقيّة، ومنظّمة دول القارَّة الأمريكيّة، ومُنْتَدَى دول الباسيفيك الجنوبيّ - إِنَّ كلّ هذه التّنظيمات وكلّ جهودها المشتركة تُمهِّد السّبيل أمام قيام نظام عالميّ.
ومن العلامات الأخرى التي تُبشِّر بالأمل، ازديادٌ ملحوظٌ في تركيز الاهتمام على عددٍ من أَشدّ المشكلات تأصّلاً في هذا الكوكب الأرضيّ. ورغم تقصير هيئة الأمم المتحدة في بعض المجالات، فإٍنَّها قد تَبَنَّت ما يزيد على أَربعين بياناً وميثاقاً، وحتى في الحالات التي لم تكن فيها الحكومات مُتحمِّسة في التزاماتها تِجاه هذه البيانات والمواثيق، تولَّد لدى العاديّين من البشر شعورٌ جديد بالحياة. إِنَّ الإِعلان العام لحُقوق الإنسان، وميثاق منع جرائم الإبادة العنصريّة وقانون الجزاء المتعلّق بهذا الميثاق، إضافةً إلى الإجراءات المماثِلة المتعلقة بالقضاء على كلّ أنواع التّفرقة العِرقيّة أو الجنسيّة أو الدّينيّة، والدّفاع عن حقوق الطّفولة، وحماية كلّ فرد من التّعرُّض للتّعذيب، ومحاولة القضاء على المجاعة وعلى سوء التّغذية، والعمل على استخدام التّقدم العلميّ والتّقنيّ لصالح السّلام ولفائدة الإنسان – إِنَّ كلّ هذه الإجراءات، في حالةِ تنفيذها وتوسيع نطاقها بشجاعة لا بدّ أَن تُعجِّل مجيء ذلك اليوم الذي يفقد فيه شَبَحُ الحرب نفوذَه في السّيطرة على العلاقات الدّوليّة. ولا حاجة هنا للتّأكيد على أهميّة القضايا التي تُعالجها هذه البياناتُ والمواثيق، ولكنْ نظراً إلى أنَّ لبعض هذه القضايا علاقةً وثيقةً بموضوع السّلام في العالم، فإنّها تستحقُّ تعليقاً إضافيّاً.
فالتَّفْرِقَة العُنْصُريّة هي أحد أشدّ الشّرور ضرراً وأذىً وأكثرها استشراءً، وهي عائقٌ رئيسيّ في طريق السّلام. والعمل بمبادئ هذه التّفرقة هو انتهاكٌ فاضح لكرامة الإنسان، ولا يمكن القبول به بأي عُذْرٍ من الأعذار. إِنَّ التّفرقة العنصريّة تُعيق نُمُوّ الإِمكانات اللامحدودة عند أولئك الذين يرزحون تحت نِيرها، كما أنَّها تُفسِد أولئك الذين يُمَارسونها، وتُعطِّل تقدّم الإنسان ورُقِيَّه، وإذا ما أُريد القضاء على هذه المشكلة، فمن الواجب الاعترافُ بمبدأ وحدة الجنس البشريّ وتنفيذُ هذا المبدأ باتِّخاذ الإجراءات القانونيّة المناسبة وبتطبيقه على نطاقٍ عالميّ.
أمَّا الفوارق الشّاسعة بين الأغنياء والفقراء، وهي مصدرٌ من مصادر المُعاناة الحادَّة، فَتَضع العالم على شَفَا هاويَةِ الحرب والصّراع وتَدَعُه رهناً للاضطراب وعَدَم الاستقرار. وقليلةٌ هي المجتمعاتُ التي تمكَّنت من معالجة هذه الحالة معالجةً فَعًّالةً. ولذلك فإنَّ الحلَّ يتطلَّب تنفيذ جُمْلَةٍ من الاتِّجاهات العمليّة والرّوحيّة والخُلُقِيَّة. والمطلوب هو أن ننظر إلى هذه المشكلة نَظْرَةً جديدةً تَستدعي إجراء التّشاوُر بين مجموعةٍ مُوسَّعة من أهل الاختصاص في العديد من المجالات العلميّة المُتنوِّعة، على أن تتمّ المُشاورات مُجرَّدةً عن المُجادلات العقائديّة والاقتصاديّة، ويشترك فيها أولئك الذين سوف يتحمَّلون مُباشرةً أثر القرارات التي يجب اتِّخاذها بصورة ملحّة. إنَّ القضيّة لا ترتبط فقط بضرورة إزالة الهُوّة السّحيقة بين الفَقْر المُدْقِع والغِنَى الفاحش، ولكنّها ترتبط أيضاً بتلك القِيَم الرّوحيّة الحقَّة التي يُمْكِنها، إذا تمّ إدراكها واستيعابها، خَلْقُ اتِّجاهٍ عالميّ جديد يكون في حدّ ذاته جُزءاً رئيسيّاً من الحلّ المطلوب.
إِنَّ الوطنيّة المتطرِّفة، وهي شعور يَخْتَلِف عن ذلك الشّعور المشروع المتَّزن المُتمثِّل في محبّة الإنسان لوطنه، لا بدّ أن يُستعاضَ عنها بولاءٍ أوْسَع، بمحبّة العالم الإنسانيّ ككلّ. يقول بهاءالله "إنَّ الأرض وطنٌ واحدٌ والبشرُ سكَّانه". إنَّ فكرة المُواطِنِيَّة العالميّة جاءت كنتيجة مباشرة لتقلُّص العالم وتحوُّله إلى بيئة واحدة يَتَجاوَر فيها الجميع، بفضل تقدُّم العلم واعتماد الأمم بعضها على بعض اعتماداً لا مجال لإنكاره. فالمحبّة الشّاملة لأهل العالم لا تَستثني محبّة الإنسان لوطنه. فخير وسيلة لخدمة مصلحة الجزء في مجتمع عالميّ هي خدمة مصلحة المجموع. وهناك حاجةٌ قُصْوَى لزيادة النّشاطات الدّوليّة الرّاهنة في الميادين المختلفة، وهي نشاطاتٌ تُنمِّي تَبادُل المحبّة والوئام وتخلق مشاعر التّضامُن بين الشّعوب.
كانت النّزاعات الدّينيّة عبر التّاريخ سبباً للعديد من الحروب والصّراعات، وآفةً من أعظم الآفات التي أعاقت التّقدّم والتّطوّر. ولقد أصبحت هذه النّزاعات بغيضةً على نحوٍ متزايد بالنّسبة لأتباع كلّ الأديان وكذلك بالنّسبة لمن لا يَدينون بدِين. وإِنَّ على أتباع الأديان كلّها أن يُواجهوا الأسئلة الأساسيّة التي تُثيرها هذه المُنازعات، وأَن يَجدوا لها أجوبةً واضحةً. فمثلاً، كيف يمكن لهم إِزالة الخلافات القائمة بينهم من الوجهتَيْن النّظريّة والعمليّة على السّواء؟ إِنَّ التّحدِّي الذي يُواجِه قادة الأَديان في العالم يَحْمِلهم على أن يتمعَّنوا في مِحْنَة الإنسانيّة بقلوبٍ تمتلئ حَناناً، وبرغبةٍ في توخِّي الحقيقة، وأن يسألوا أَنفسهم، مُتذلِّلين أمام الخالق العَليّ القَدير، ما إذا كان بإمكانهم دَفْنُ خلافاتهم الفِقهيّة بروح عالية من التَّسامُح ليستطيعوا العمل معاً في سبيل إحلال السّلام وتعزيز التّفاهم الإنسانيّ.
إِنَّ قضيّة تحرير المرأة، أي تحقيق المُساواة الكاملة بين الجنسَيْن، هي مطلبٌ مُهِمٌّ من مُتطلبات السّلام، رغم أَنَّ الاعتراف بحقيقة ذلك لا يزال على نطاقٍ ضيِّق. إٍنَّ إنكار مثل هذه المساواة يُنزل الظّلم بنصف سكّان العالم، ويُنمِّي في الرّجل اتِّجاهات وعادات مؤذية تنتقل من محيط العائلة إلى محيط العمل، إلى محيط الحياة السّياسيّة، وفي نهاية الأَمر إلى ميدان العلاقات الدّوليّة. فليس هناك أي أَساسٍ خُلُقِيّ أو عمليّ أو بيولوجيّ يمكن أن يبرّر مثل هذا الإنكار، ولن يستقرّ المناخ الخلقيّ والنّفسيّ الذي سوف يتسنَّى للسّلام العالميّ النُّموُّ فيه، إلاّ عندما تَدْخُل المرأة بكلّ تَرحاب إلى سائر ميادين النّشاط الإنسانيّ كشريكةٍ كاملةٍ للرّجل.
وقضيّة التّعليم الشّامل للجميع تستحقّ هي الأخرى أَقصى ما يمكن من دعمٍ ومعونةٍ من قِبَل حكومات العالم أجمع. فقد اعتنق هذه القضيّة وانخرط في سِلك خدمتها رَعيلٌ من الأشخاص المخلصين يَنْتَمُون إلى كلّ دين وإلى كلّ وطن. ومِمَّا لا جدل فيه أنَّ الجهل هو السّبب الرّئيسيّ في انهيار الشّعوب وسقوطها وفي تغذية التّعصّبات وبَقائها. فلا نجاح لأيّة أُمَّةٍ دون أن يكون العلم من حقّ كلّ مُواطِن فيها، ولكنّ انعدام الموارد والمصادر يحدّ من قدرة العديد من الأُمَم على سدّ هذه الحاجة، فيَفْرِض عليها عندئذ ترتيباً خاصّاً تَعتمِده في وضع جَدْولٍ للأَولَوِيَّات. والهيئات صاحبةُ القرار في هذا الشّأن تُحْسِن عملاً إِنْ هي أَخَذَت بعين الاعتبار إعطاءَ الأولويّة في التّعليم للنّساء والبنات، لأنَّ المعرفة تنتشر عن طريق الأُمّ المتعلِّمة بمُنْتَهى السّرعة والفَعَّاليّة، فتعمّ الفائدة المجتمع بأسره. وتمشيّاً مع مُقتضَيات العصر يجب أَن نهتمّ بتعليم فكرة المُواطنِيَّة العالميّة كجزء من البرنامج التّربويّ الأساسيّ لكلّ طِفل.
إِنَّ انعدام سُبُل الاتِّصال بين الشّعوب في الأساس يُضْعِف الجهود المبذولة في سبيل إحلال السّلام العالميّ ويُهدِّدها. فاعتماد لُغَةٍ إضافيَّة كلغة عالميّة سيُسْهِم إِسهاماً واسِعاً في حلّ هذه المشاكل ويَستأهل اهتماماً عاجلاً.
وفي سَرْدنا لهذه القضايا كلّها نُقْطَتَان تَستدعِيان التَّكرار والتّأكيد. النّقطة الأولى هي أَنَّ إِنهاء الحروب والقضاء عليها ليس مُجرَّد إِبرام مُعاهدات، أو توقيع اتِّفاقيَّات. إِنَّ المَهمَّة معقَّدة تتطلَّب مُستوىً جديداً من الالتزام بحلّ قضايا لا يُرْبَط عادةً بينها وبين موضوع البحث عن السّلام. ففكرة الأَمن الجماعي أو الأمن المشترك تُصبح أَضْغاثَ أحلام إِذا كان أساسُها الوحيد
الاتِّفاقات السّياسيّة. أَمَّا النّقطة الثّانيّة فهي أَنَّ التّحدِّي الأَساسي الذي يُواجِه العامِلين في قضايا السّلام هو وجوب السُّمُوِّ بإطار التَّعامُل إِلى مستوى التّقيُّد والمُثُل بشَكْلٍ يَتَميَّز عن أُسْلوب الإِذعان للأَمر الواقع. ذلك أَنَّ السّلام في جوهره يَنْبُع من حالةٍ تتبلور داخل الإنسان يَدْعَمها موقفٌ خُلُقِيّ وروحيّ. وخَلْقُ مثل هذا الموقف الخُلُقِيّ والرّوحيّ هو بصورة أساسيّة ما سوف يُمكِّننا من العثور على الحلول النّهائيّة.
وهناك مبادئ روحيّة يَصِفُها البعض بأنها قِيَمٌ إنسانيّة يمكن عن طريقها إيجاد الحلول لكلّ مشكلة اجتماعيّة. وعلى وجه العموم، فإِنَّ أيّة مجموعة بشريّة صادقةِ النّوايا تستطيع وضع الحلول العمليّة لمشكلاتها. ولكنَّ توفُّر النّوايا الصّادقة والخبرة العمليّة ليست كافيةً في غالب الأحيان. فالمِيزة الرّئيسيّة لأي مبدأ روحي تتمثَّل في أنّه يُساعدنا ليس فقط على خلق نظرة إلى الأمور تَنسجِم مع ما في قَرارة الطّبيعة الإنسانيّة، بل إِنّه يُولِّد أيضاً مَوْقِفاً، وطاقَة مُحَرِّكةً، وإرادةً، وطُموحاً – وكلّ ذلك يُسهِّل اكتشاف الحلول العمليّة وطُرُق تنفيذها. ولا ريب في أَنَّ قادة الحكومات وجميع من بِيَدهم مقاليد السّلطة سيدعمون جهودهم في سبيل حلّ المشكلات إِذا سَعَوا في بادئ الأمر إلى تحديد المبادئ وتعيينها، ومن ثمّ الاهتداء بهَدْيِها.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |