متلازمة الصمت اللذيذ في البناء السردي بين فكتور هوجو و دويستوفسكي

عزيز باكوش
2024 / 4 / 10

في روايته - آخر يوم لمحكوم عليه بالإعدام- يكشف الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو عن خطاب داخلي محموم ومشوش لسجين محكوم عليه بالإعدام أسابيع قليلة قبل موعد تنفيذ الحكم. حيث يسعى هوجو بكل ما يملك من ملكات إبداعية وقدرة هائلة على الخيال الأدبي في الوصف وعصف الكلمة إشعار روح العدالة المتمثلة في الأنظمة القانونية وأجهزة القضاء الفرنسي، أن عقوبة الإعدام ليست بالضرورة عدلا، ولا هي الحل الأمثل لتصحيح وضعية الإجرام في فرنسا إبان تلك الحقبة. والحكمة هنا أن القانون بإعدامه للمحكوم يكون قد حرمه، ولم يمنحه بعد فرصة حقيقية لتصحيح خطئه. ولم يتح أمامه الوقت الكافي لمراجعة نفسه. بيد أننا على امتداد لذة القراءة الماتعة لهذه التحفة القصصية المذهلة، يسكننا ترقب مريب، ويجرفنا شوق كبير لمعرفة اسم المجرم ونوع الجريمة التي اقترفها ليستحق على إثرها حكم الإعدام. إلا أن الكاتب لم يمنحنا هذه الفرصة ليظل شغفنا معلقا على التواطئ اللذيذ بين الكاتب النص والقارئ المتعة. ونحن والحقيقة تقال على وعي تام، أن ذلك الغمز ليس مرده نقص في الخبرة الأدبية، أو تبخيس معنوي لذكاء القارئ، وإنما ميازة وتفرد في جذب القارئ والالتفاف على مشاعره. لكنه بالمقابل يكشف لنا نفسية المحكوم عليه المهزوزة وحالة الاضراب التي تنهش خياله، لا سيما حين لا تتذكره ابنته الصغيرة..
واللذيذ هنا، أن البطل المدان، جعلنا في حرية لا ضفاف لها، بينما هو سجين داخل زنزانة مظلمة وجسده على وشك الفناء. حتى وهو يحكي بمرارة تفاصيل ضافية عن عبث المؤسسات ورداءة الوضع الاجتماعي وبيروقراطية الإدارات والمرافق العامة للدولة.. كذلك الأمر عند دوتويفسكي في رائعته –الوديعة- لا نعرف اسم الزوجة، وإن كنا نعرف الكثير عن دوافع وأسباب المأساة التي أقدمت على ارتكابها من خلال بعض التسريبات عن الوضع المتردي للمعيش اليومي للمواطن في تلك الحقبة من الزمن الروسي.
في قصة– الوديعة- وبنفس الروح الفيكتورية إذا جاز التعبير، يحكى العبقري دوتويفسكي بأسلوب مبهر ومأساوي في التحليل النفسي علاقة رجل في الأربعينيات يملك محل رهونات بشابة في السادسة عشرة ساقها القدر كزبونة لديه، لكنها مع مرور وقت ليس بالقصير ستصبح زوجته. ليس فقط بهدف تحريرها من الفقر، بل أيضا لانتشالها من يد تاجر خمسيني بدين يقطن بالجوار سبق له أن شيع زوجتين إلى القبر. ويرغب الآن في جلبها كزوجة ثالثة لإطعام أطفاله اليتامى. " فالإنسان شديد البراعة في تقدير الفرص الدنيئة " ومع مرور الوقت، سيتقدم الضابط المتقاعد لطلب يد الشابة بصفاته الممكنة والواهمة. لكنه سيتبين بعد مرور الوقت أنها لا تزال خائفة منه إلى حد الرعب. فتاة فقيرة، لكنها شديدة الكبرياء، بدليل أنها لبثت عند البوابة تفكر مليا مدة طويلة قبل أن تقول نعم لقبول زواجها منه. وفي كل الأحوال لم يتسن لنا كقراء معرفة اسم –الفتاة الوديعة-
هنا والصدق يقال، شكل استحضار اسم هذه البطلة المحورية في قصة -الوديعة – هاجسا مقلقا كزبونة أولا، ثم كزوجة فيما بعد. فتحت الكتاب القصة، أفتش عن الإسم كما تخيلته في ذهني فلـــــم أجده، فتشت وفتشت ثم قلت في نفسي لعل الذاكرة غير يقظة، ويجب أن أعيد قراءة القصة كلها، وهوجو لا يفارقني. وهكذا بدأت بقراءة ثانية للوديعة. فكانت دهشتي عظيمة لا وجود لإسم الزوجة البتة. فأصبت بفشل ذريع. ولم أفلح في مسعاي في الإمساك بتلابيب هويتها الضائعة عمدا. ورغم قراءة القصة ثالث مرة بفارق زمني قصير. فلم أعثر لها على هوية تشفي الغليل. ونحن هنا لا نقصد تلك الحزمة الهائلة من التوصيفات التي يمنحها الكاتب للشخصية على امتداد المتن القصصي وتصاعد معمارية بنائه وهندسة مجاله الإبداعي لبطلته من حيث الهيئة والشكل ،حيث يصفها – مربية ترغب في الحصول على عمل – نحيفة شقراء جدا وفي عذوبة شديدة –- في السادسة عشرة من عمرها - طولها فوق المتوسط- دائما مرتبكة في التعامل وتشعر بالحرج- وهكذا كانت مع جميع الغرباء – سيدة شابة بدون روابط أسرية تطلب عملا وتفضل أن يكون لدى أرملة متقدمة في السن ومستعدة للقيام بمهام منزلية - ولما أطبق عليها اليأس بعد فشل الإعلانات المدفوعة الأجر في جريدة الصوت ، نشرت أنها مستعدة لقبول أي عمل .وأنها لا تطلب سوى الإقامة والطعام فقط دون مرتب. وما دامت التعاسة قدرها، فإنها حائرة حتى وتمثال العذراء في يدها، وستختار على مضض الزواج بالتاجر البدين كي يضربها حتى الموت كلما ثمل، وكلما كان هذا أسرع كان أفضل في نظرها -
وتزداد حدة التوصيفات حين بتعرف على أسرار- الوديعة- عن طريق الخادمة لوكيريا. فأبوها وأمها ماتا قبل ثلاث سنوات، وتركاها لعمتين مسكينتين لا حول لهما ولا حيلة - إحداهما أرملة وأخرى عانس عجوز سيئة. قبلتا عرض زواجها على الفور من أول من تقدم لها وصرخا علانية في وجهها "أنصبر شهرا آخر نطعمك فيه ونحن شخصيا لا نجد ما نقتات به؟ أما صاحبنا، فكان يرى في كل ذلك مصلحة أو ورقة لعب رابحة. فهو قادم للزواج من وضع مجتمعي أفضل نقيب متقاعد ونبيل ومالك محل رهونات وموارده مستقلة. بيد أننا كقراء، سنسبح في عالم من الترقب والحدس الرحيم ما بين لحظة التعرف على اسمها واكتشاف شخصيتها البالغة التعقيد والانطوائية. وبين انكسارات لحظة الارتباط بها كزوجة. " عندما ألقت بنفسها بين ذراعي كانت كئيبة وهستيرية، لذا كانت استجابتي لها باردة. وكنت على حق لأن هذه التفجرات كانت تعقبها حتما مشاحنات في اليوم التالي مباشرة" وعلى الرغم من ذلك "لقد كان في إمكاننا الوصول إلى تفاهم. ولم تدب الوحشة والغربة بيننا إلا من خلال فصل الشتاء، ولكننا طبعا كان من الممكن أن نستعيد مألوفنا من جديد؟ ما الذي يمنع أن نغدو صديقين ونستأنف الحياة مرة أخرى؟ وإني لسمح، وكذاك هي، وهاكم حلقة اتصال إذن فيما بيننا. "

أما هو فقد كان يتكلم عن مشاريعه بلغة الصمت، وهو أستاذ بارع في التكلم بلغة الصمت. لقد قضى عمرا بأكمله يتحدث بلغة الصمت وعاش ومر" بدراما كاملة منفردا بنفسه في صمت "لقد كنت أريدها أن تعرف وتدرك أي رجل أنا من تلقاء نفسها وتفهمني على هذا الأساس." إلى هنا لا تكف انجرافاتنا ونحن نتابع متن القصة وحبكتها الدرامية البالغة القسوة، صوب شساعات نفسية كئيبة بلا شفقة، ترجنا شحنات وجدانية ملتهبة لا تهادن، تتمفصل بين تقاطعات من شظف الحياة تحبس الأنفاس وتطفو على سطحها أحداث مأساوية غير قابلة للتجسير.
ولأن ديستويفسكي رائد القصة النفسية بامتياز. فقد وصل في تحليل النفس البشرية لشخوصه في مخياله الأدبي درجة رفيعة جدا. وارتقى بها إلى مدى بعيد. فالأحداث الخارجية عند ديستويفسكي اللقاءات والعلاقات الثنائية مجرد مدخل للغوص والاستبئار في أعماق اللاشعور لأبطاله. حيت يطلعنا على ذواتهم المرتبكة تارة، والساكنة تارة أخرى، وهم يواجهون الصراع الفظيع بين الصالح والطالح، بين الدين واللادين، بين الخير والشر، بين الواقع والخيال، أو بين الله والشيطان. فنرى أبطالا من النوع الحالم الذي يعيش في عالم من خلق خياله. ولكنه عالم كثيرا ما يصطدم بظروف المجتمع الواقعية والانفعالات المتضاربة في مواجهة الحياة. أبطال يغلب عليهم الاندفاع وراء العواطف ويضعفون أمام الهزات والنكبات، ويصابون بالإحباط تماما، في حين لا قدرة لهم على المقاومة فلا يجدون سبيلا سوى حبل المشنقة. " إن أسوأ ما في الأمر كله أنه حدث بمحض الصدفة، صدفة عادية قاسية وخالية من المعنى وهذا أسوأ ما في المسألة! خمس دقائق فقط، ولو أنني جئتها مبكرًا، لكانت كفيلة أن تحول تلك اللحظة الجنونية إلى هباء، وما كانت لتدخل رأسها مرة أخرى والوحدة الموحشة تحدق بي والساعة ذات البندول تتأرجح وتدق بدون رحمة أو اكتراث بشي.


من المؤكد أن - الوديعة - من أنجح الأعمال القصصية لدوستويفسكي التي يتناول فيها قصة فتاة فقيرة في السادسة عشرة من عمرها تزوجت من عسكري متقاعد يمتلك محلا تجاريا للرهون أراد من خلاله تعويض نوع من الضمان والأمان لمستقبله بعيدا عن الوظيفة العسكرية والتعليمات، يغزوه طموح بقضاء أيامه سعيدا هادئا في مساعدة جيرانه من الفلاحين. ولكن شريكة حياته الجديدة لم تنعم معه بحياة مستقرة، لتمضي الحياة بينهما لفترة من الوقت متذبذبة يحف بها اليأس والنكد، ويطبعها السأم والكآبة. ورغم العديد من محاولات الترميم والإصلاح لأجواء العلاقة، إلا أن جميع المحاولات كانت تأتي جافة وبعد فوات الأوان. واحدة منها كانت السبب في الدفع بالزوجة الشابة إلى الانتحار.
"ووصلت أنا متأخرا! لكم تبدو صغيرة الحجم شديدة التحول في تابوتها، ولكم يبدو أنفها حادا وأهدابها مثل سهام صغيرة فوق خديها. ثم ما أغرب الطريقة التي سقطت بها من شاهق! لا شيء فيها تكسر أو تحطم. كل ما هناك تلك "الحفنة من الدم" ملء ملعقة متوسطة الحجم مما تؤكل به الحلوى. نزيف داخلي."

في -الوديعة – نحن أمام شخصية غارقة في الألم من شعرة الرأس حتى أخمص قدميها، شخصية تستحضر أطوار ومراحل علاقته بفتاة أقدمت على قتل نفسها منذ بضع ساعات بالقفز من النافذة جسدها المسجى على المائدة أمامه. وهو مبلبل الفكر ولم يتسن له أن يرتب أفكاره في محاولة لفهم ما جرى. وبالموازاة مع تسلسل أفكاره وتناسقها. يبدو لنا أنه متناقض المشاعر مضطرب الأحاسيس . فهو يتأرجح بين الصرامة والتكبر، حيث لا يسعى إلى مساعدة من أحد، لذلك يعرف كيف يتألم في صمت. نجده أمام جثمانها المسجى في حجرة خالية " فكرة غريبة تساورني، ماذا لو أنها لم تدفن؟ فلست مجنونا ولا مخرفًا، بالعكس! إن عقلي لم يكن قط بهذا الصفاء. لكن كيف يمكن أن يأخذوها، سيعود البيت عندئذ وليس فيه أحد. ومرة أخرى تغدو الحجرتان خاويتين، وأصبح وحدي في محل رهنياتي إني أهذي. أهذي هذيان لا ريب فيه! لقد عذبتها أكثر مما تطيق. وهذا هو السبب."
يضع نفسه محل اتهام، ثم ما يفتأ أن يبرر نفسه من أي ذنب في مونولوج عميق مع الذات يتماهى فوق ممشى حاد ورهيف بين الخيال والوهم." آه لقد كانت الوديعة العزيزة الصغيرة هذه الفتاة السماوية طاغية جبارة. دوخت روحي وعذبتها، ولأكون مسيئا إلى نفسي ظالما لها إن أنا لم أقل هذا صراحة" ص46
هذه المشاعر والأحاسيس المبعثرة سرعان ما تنتظم في مرتدة نفسية تبعث في أعماقه من جديد تداخلا بين علاقة محمومة يتجاذبها عنصران. رغبته في الامتلاك والسيطرة على الوديعة المتعجرفة وحبه العنيف لها. لكن هذه الكتلة من المشاعر والتجاذبات النفسية شكلت في النهاية عذابا وجحيما من التناقض بعد أن أفضت إلى انتحار الوديعة 5 دقائق قبل وصوله البيت. أما أسباب ذلك بصراحة بدأت بتمرد الوديعة عندما نبتت في رأسها فجأة أن قادرة على تولي أمر المحل. بل ونصبت نفسها وصية على تدبير أمر الرهونات، وتحديد القروض على طريقتها الخاصة. وهو ما لم يستسغه إلى حد وصل بها الأمر إلى مجادلته ودق الأرض في وجهه بقدميها. الأمر الذي أشعل لهيب الشر الصامت داخله. حينها تحولت في نظره إلى وحش كاسر. وصرح لها بنفس الصوت الهادئ غير ما مرة، أنه لن يسمح لها بالمشاركة أو الإسهام في عمله بعد الآن. فضحكت منه في مواجهته وغادرت المسكن ص49

كقارئ، جدت نفسي في تماه غريب عجيب مع " نمط فريد في التحليل النفسي والتصوير الساخر للتناقض الذي وقع فيه رجل من الشعب أراد أن يمارس ما خاله منتهى الحرية والاستقلال القرار، فأدى ذلك به في مسلك حياتي متشعب بين تفاهة الحياة وروح التمسك بها. وهذا من ميزة الأدبي الروسي الذي يجد توظيف الفلسفة في الأدب عبر أسلوب سردي متقن البناء، بمتن ابتكاري يولد المتعة ويضفي اللذة على النص. ليس سهلا الإبحار في خبايا النفس البشرية لمعرفة المشاعر في أدق تفاصيلها واستكناه الدوافع في مهد تشكلها والكشف عن خبايا الروح وما تضمره من تناقضات مجهرية لا ترى بالعين المجردة، لا سبيل إليها سوى بالسؤال الفلسفي. الكفيل بالكشف عنها بلمسة إنسانية مرهفة. إنها بكل القراءات الممكنة أنسنة الكتابة. أو الكتابة بمعناها الإنساني في كونيته.

وإذا ما نحن تماهينا مع المتن القصصي للحكاية سنعتبر دونما أدنى تردد قصة - الوديعة - نموذجا فذا في الحوار الداخلي والتحليل النفسي العميق للشخصيات كما هو الشأن في جميع قصص وروايات دوتويفسكي. حيث يصرح الكاتب نفسه أن القصة تنحو طريقة أو أسلوبا سبق للكاتب الفرنسي فكتور هوجو أن اعتمدها أول الأمر في منجزه الأدبي الفاخر “خواطر محكوم عليه بالإعدام” ثم دوتويفسكي فيما بعد. نقطة ونعود إلى السطر.
ومن القصة نقتبس هذه الحكم الخالدة «وماذا يهمني الآن من قوانينكم؟ وما جدوى عاداتكم وأخلاقياتكم وعالمكم ودولتكم وعقيدتكم لي؟ دعوا قاضيكم يحاكمني، وخذوني إلى المحكمة، إلى محكمتكم العامة العلنية، وهناك سأقول إني أتحدى كل شيء. وسيصيح القاضي: آمرك بالسكون أيها الضابط! وسأرد على صياحه بصياح مثله.
ومع أني لست بطلًا أسطوريا، فإني أرسل نفس الصيحة وما من مجيب. يقولون إن الشمس تمنح الكون الحياة. وها هي الشمس مشرقة، وها هي - انظروا - ألا ترونها ميتة؟ كل شيء مات، والموتى راقدون في كل مكان. بشر متوحدون، يلفهم الصمت في كل مكان. هذا هو العالم الذي نعيش فيه."
وهنا تنطق الحكمة - أيها الناس! أحبوا بعضكم بعضا! من قال هذا؟ وصية من هذه؟ الساعة تدق بفظاعة، وبلا شعور الساعة الآن الثانية صباحا. وحذاؤها بجوار فراشها. كأنه ينتظرها. والآن، أحقًا سيأخذونها إلى بعيد غدا؟ وماذا تراني أصنع أنا؟"
دوستويفسكي الوديعة وحادث مؤسف للغاية ترجمة الدكتور نظمي لوقا

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي