|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حكمت الحاج
2024 / 4 / 6
من قصيدة النثر إلى قصيدة الحرية..
معروف، أننا لا يمكن أن نفكر من دون لغة، كما لا يمكن أن نحلم بغير رموز وصور. إننا لا نستطيع التفكير فيما ما هو خارج اللغة وخارج الرمز أو الصورة. حتى العشق، لا يتم من دون وسيط لغوي. ولما كان الشعر هو فعل في اللغة، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، فالشعر بلا جوهر، ولا شيء خارج اللغة. وليغبْ إلى الأبد أولئك الذين ما زالوا يتنادون بما يسمى "الجوهر الشعري". الشعر نَهْلُ مصادر مكتوبة، إنْ لمْ نَقُلْ: نَهْبُهَا. وكما قال ناقد معاصر [هارولد بلوم؟] فإن كل الشعر في العالم هو إما إلى "هوميروس" عائد، وإما إلى "الكتاب المقدس". وبالنسبة لنا في العربية، فالشعر كله إما إلى "الشعر الجاهلي" عائد، وإما إلى النص المقدس [القرآن، الكتاب المقدس بترجماته العربية، نهج البلاغة، كتب التصوف..] عائد. وحتى الذي يدعي انه يكتب شعره من "الحياة" إنما هو "يكتب" تلك "الحياة"، بمعنى أنه يقيم في اللغة ويقوم شعره بها. إننا لا يمكن أن نكون في وضعية ما قبل الرمز، أو ما قبل اللغة، حيثما يتعلق الأمر بالنص الشعري. ومن جهة أخرى، فالنص أزلي في أكوان اللغة، فهو لا يولد من العدم ولا يفضي إليه. الشعر لا يولد ولا يفنى، بل هو في دورة لانهائية، أو في ديالكتيك أبدي من "التحول"، أقرب مثال إليه هو تلك العلاقة الرياضية الفيزيائية ما بين المادة والطاقة. فالمادة لا تفنى ولا تخلق من العدم، وعندما يحترق الخشب فإنه يتحول إلى طاقة مبثوثة في الكون الفسيح، والعكس بالعكس صحيح. معادلة تحول الطاقة إلى مادة وبالعكس، هي معادلة بسيطة أمكن تعقلها، لكنها تحتفظ بغموضها، فما بالك بنفس المعادلة الرياضية ما بين الشعر واللغة، التي كانت وما زالت عصية على الفهم، رغم بساطتها وإمكان تعقلها من قبل أي شخص يقول الشعر، وكذا من أي شخص يتلقى هذا الشعر. لذا فلا "انخلاق" للنص الشعري خارج الكتابة، بمعنى أيضا خارج الأدب، بما هو مؤسسة اجتماعية. لا انخلاق للنصوص انطلاقا مما ليس بنصوص، وكل ما هنالك إنما هو عمليات "تحول" و"تحويل" على وفق معادلة المادة والطاقة المشار إليها، سميت عبر العصور المديدة بأسماء شتى، منها "أن تحفظ 20 ألف بيت من الشعر وتنساها ثم تقول الشعر"، ومنها، وليس آخرها، موضوعات "التناص" و"الاقتباس" و"التضمين" و"الإحالة" و"السرقة"... الخ.. هكذا إذن، رحلة الشعر من خطاب إلى آخر، من نص إلى آخر، بما فيها "الحياة" المعاشة بوصفها نصا وكتابة تحتاج إلى تحوّل وتحويل كي تصير أدبا، أو بالعكس، كأن يتحول بيان سياسي إلى ثورة، أو نهج فلسفي إلى حركة اجتماعية، أو قصيدة إلى عقيدة. إن الفرق بين "الإنخلاق" أو الكتابة من عدم، ذلك المفهوم الذي نرفضه، وبين "التحول" وهو ما ندعو إليه، هو الفرق بين الكذب بوصفه وهما، وبين الحقيقة بوصفها واقعا متعينا. كل من يدعي في الشعر الخلق من عدم، أو من بياض الورقة، كاذب دعي أو جاهل للعمل الشعري. ومن البديهي بالأحرى أن نقرر إن أساليب العمل في الشعر أو طرق إظهاره من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، لا تتنوع، وإنما التنوع في الشعر نفسه. إن دراسة "التحولية" هي جزء أساسي من فهم الشعر بما أنها [أي الدراسة] تعنى بالخطاب ومقولاته، لا بالنصوص الفردية المتحققة. ومن هنا ربما ندرة أبحاث نقدية تتناول قصائد نثر بعينها. ولنا عبر هذا السياق أن ننتظر دراسات تتناول كل تفصيلة من تفصيلات سجلات الكلام الشعري عند شعراء قصيدة النثر. وأقول "سجلات الكلام الشعري" ولا أقول "مدونة اللغة الشعرية"، ما دمنا سنتحدث عن قصيدة النثر. هنا يظهر من جديد مفهوم قصيدة النثر كجنس أدبي، ولكن قبل ذلك دعوني أسوغ تعبيراتي، فقد طالنا عهد التفكيك، وعلى كل شيء أن يتغير، لأطال بنفسي هذه المرة ذلك الصنم المسمى "النقد" عندنا. لقد اعتاد النقد التقليدي، بما في ذلك الشكلاني والبنيوي، أن يموضع فكرة ما عند مواجهته العمل الأدبي، والشعر خاصة. ولهذا السبب يعتقد إن نقد القصيدة هو اكتشاف معناها. والمعنى فكرة أو مفهوم يمكن أن يلحق بفكرة أخرى أو بمفهوم آخر، وهكذا دواليك حتى تتجمع هذه الأفكار في سياق الوجود المتعالي أو الحقيقة المتعالية. لكننا، كما يقول التفكيكيون، لا ندرك حقا إن ما نسميه "المعنى" ما هو في حقيقة الأمر إلا فكرة تتخذ من الميتافيزيقيا ملاذاً لها. ولم تنج البنيوية، التي ادعت لنفسها ثورية ما في وقت ما، من أسر الميتافيزيقيا، وإن القول بأن البنيوية قالت بـــ "النسق"، يعني إن هناك مركزاً في مكان ما، وذاك المركز هو مفهوم الوجود المتعالي أو السلطة المتعالية. ويوحي مفهوم النسق إن كل شيء مفهوم على أفضل وجه، أو أنه قابل للفهم في الأقل، فحيثما وجد النسق وجد النظام. وسيؤكد فكر التفكيك أن هذه أوهام وخزعبلات تشير إلى فشلنا في البحث عن المعنى، وهذا يعني إن أولئك النقاد المفتشين أعلنوا أنهم قد وصلوا إلى آخر نقطة ممكنة من بحثهم وأنه لا ينبغي القيام بأي بحث آخر لأجل حماية ما أسموه "النقطة الأخيرة" من إهانة المستقبل لها، لذلك كان ثمة خداع كبير قام به نقد نقادنا وفهم لغويينا. هنا، كما قلت أعلاه، يظهر من جديد مفهوم "قصيدة النثر" كجنس أدبي. ويحتاج هذا الجنس أو النوع الأدبي، بالتأكيد، شأنه في ذلك شأن أي مُعْطَىً تاريخي، إلى فحص نقدي يكون شغله الشاغل هو التفريق بين مصطلحين دالين هما: "القالب"، و"النوع الأدبي". يتحدد القالب كالتحام لجملة من مميزات الخطاب الشعري، ولا يقدم لنا أي "واقع" خارج التفكير النظري. أما الجنس أو "النوع"، ففي كل عصر يصبح عدد معين من القوالب الشعرية معروفا ومقبولا بشكلٍ ماْ من الجمهور بحيث يعتمدها كمفاتيح للولوج إلى عوالم الأعمال الشعرية، وتفسيرها. هنا، قصيدة النثر كنوع أدبي، بعبارة الناقد الألماني "هانز روبرت ياوس" هي "أفق انتظار". وان الشاعر نفسه يستبطن هذا الانتظار فيصبح النوع الأدبي "كليشيه"، أو "قالب"، أو "أنموذج كتابة". وكما يقول "تزفيتان تودوروف": الجنس الأدبي هو نمط [قالب] كان له وجود تاريخي ملموس وساهم في النظام الأدبي لعصر من العصور. إذن: علينا دراسة "تحولية" كل قصيدة على حدة، ودراسة الأنواع الأدبية تعاقبيا [دراسة التنوع الشامل لقالب واحد] ودراستها تزامنيا في علاقتها بالأنواع الأدبية الأخرى، ثم التعرف على قوانين "التحولية" التي تتعلق بالانتقال من عصر إلى آخر، ومن "قالب" إلى آخر. قد عرف الأدب "فن المحاورة" منذ سقراط، ثم عبر تدوينات أفلاطون ولوقيانوس السميساطي، إلا إن "ميخائيل باختين" بعد مئات السنين، هو الذي قال لنا إن "دوستويفسكي" قد "حَوَّلَ" هذا "القالب" الأدبي إلى خطاب رواية، لينتج لنا "الأخوة كارامازوف" كأنموذج فذّ للعمل البوليفوني متعدد الأصوات. يوما ما سيكتب الجميع الشعر بحرية مطلقة، بلا خوف، لا من المجتمع، ولا من سلطة مؤسسة الأدب. وفي انتظار الحلم السوريالي هذا، علينا أن نكتب الشعر، ولو بحرية.