|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
جيلاني الهمامي
2024 / 3 / 26
الانخرام يدب إلى جسم
المنظومة الشعبوية
من علامات انخرام منظومة الحكم الشّعبوية التّململ الجاري الآن داخل مجلس "نوّاب الشّعب" الّذي لا يمثل إلّا 11 % من النّاخبين أي أقلّ من عشر الشّعب التّونسي. هذه العلامة كانت سبقتْها علامات أُخرى كثيرة منْها إقالة بعض المقرّبين من الرّئيس قيْس سعيّد وشُركائه في "مشروع التّأسيس" مثل مديرة ديوانه السابقة والمكلفة بالإعلام في القصر الرئاسي، ومنْها إقالة العديد من الوزراء بدءا برئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن والناطق الرّسمي باسمها (أيْ الحكومة) وزير التشغيل السابق ووزراء آخرون كثيرون آخرهم وزير النقل ووزيرة الثّقافة. وإلى جانب هذه الإقالات حالات أخرى كثيرة شملتْ ولاّة ومديرين عامين (خاصة من وزارة الداخلية) ورؤساء مديرين عامين في منشآت عمومية وشبه عمومية آخرهم الرئيس المدير العام لمعْهد الإحصاء. ومن مظاهر الانخرام أيضا بقاء العديد من هذه المواقع (وزارات وولايات ومؤسسات) إلى الآن شاغرة تشتكي من فراغ في مستوى هياكل ومراكز التأطير والقيادة. ولعلّ من أهم ما ينبغي ذكره هنا هو حلّ المجالس البلدية قبل أجل انتهاء مدتها النيابية والدوس على قانونها الأساسي (مجلة الجامعات المحلية) وعدم تجديد هذه المجالس رغم انقضاء حوالي سنة. وجراء ذلك يعاني هذا المرفق العام الذي يمثل أهم مؤسسة من مؤسسات ديمقراطية القرب ويعنى بأكثر اهتمامات المواطن واحتياجاته حساسية، خدمات النظافة والتنوير وتنظيم حركة المرور في المدن والتربية والصحة والسكن وما إلى ذلك من المشاغل الحياتية من التعطّل والتّلف والفوضى في ظل غياب مجالسه التي كانت تضطلع بدور القيادة والتأطير والتّسيير فيه.
بعد كل هذا وغيره، يأتي الدّور على عمود من أهمّ أعمدة النّظام ألا وهو مجلس النوّاب. فمعلوم أنّ البرلمان الحالي كانت غالبية القوى السّياسية في البلاد قد قاطعت عملية انتخابه وضرب فجرت انتخاباته في حالة فراغ من حول صناديق الاقتراع أذ لم يشارك فيها إلا 11 % من الناخبين. لذلك لا يعدو أن يكون غير ناد لمناصري قيس سعيد ( club ) من الأحزاب القومية والأحزاب المستحدثة بعد أكتوبر 2019 تاريخ دخول قيس سعيد قصر قرطاج. هذا النادي الذي كان من المفروض أن يبدي درجة أعلى من الانسجام والوحدة عرف العديد من الصراعات ويعرف اليوم "تململا" على خلفية المساعي الجارية لسحب الثقة من رئيسه "بودربالة" لاعتبارات كثيرة تتفق في النهاية في بعض المآخذ أهمها اختلاق مشاكل مع السلطة التنفيذية والتّسبّب في برود العلاقة مع الرئيس وخرق أحكام النظام الداخلي للمجلس. وتروج أخبار حول مبادرة عدد من النواب بعريضة لسحب الثقة من بودربالة الذي تتردد انتقادات كثيرة لأدائه كرئيس للمجلس ذلك ان عددا كبيرا من مشاريع القوانين لا تزال على الرفوف رغم أنها ختمت من اللجان المعنية (26 مشروع قانون).
وبصرف النظر عما ستؤول اليه هذه المبادرة فإن ما يجدر الإشارة إليه هو أن عملية تفكيك أجهزة الحكم السابقة من قبل قيس سعيد لم يقع استبدالها بمنظومة جديدة شاملة ومتكاملة ومتسقة في عملها من حيث الهيكلية والتنظيم والتوظيف والفعالية بصرف النظر عن الموقف السياسي منها أي سواء كانت رجعية ومحافظة أو أي صفة سياسية أخرى. وهو أمر معلوم إذ من غير المضمون أن يستطيع شخص بمفرده مهما أوتي من عبقرية أن يؤسس منظومة حكم جديدة وأن يسيرها بالفعالية المطلوبة. ونحن نعرف أن قيس سعيد الذي وضع بنفسه الدستور وأعاد تشكيل أجهزة الحكم لم يتمكن بعد من تشغيل هذا الجهاز الضخم، جهاز الدولة، بالشكل الفعال رغم تدجين المؤسسات الصلبة (الجيش والداخلية والإدارة) لإرادته الخاصة.
لا اعتقد أن بمقدور قيس سعيد أن ينجح فيما فشل فيه بونابارت الأول (نابليون بونابرت) الذي كتب بنفسه دستور الجمهورية الفرنسية المسماة دستور العام الثامن constitution de l’an VIII ووضع المجلة الجزائية (code civile) والتنظيم الإداري الفرنسي الجديد وصك العملة الفرنسية الموحدة (الفرنك الفرنسي) وبعث البنك المركزي الفرنسي وبنى قوة عسكرية مكنته من إخضاع كامل أوروبا تقريبا والقيام بحملته على مصر وعلى الشام. بونابارت الذي يحفظ له التاريخ كل هذه المنجزات العظيمة لم بفلح في الأخير في أن يكون "الامبراطور مدى الحياة" بل انتهى في الأخير إلى الاستقالة والعيش منفيا خارج فرنسا ليموت في عزلته وكأنه لم يبلغ قط ما بلغه من جاه وجبروت وطغيان. فرغم كل عبقريته العسكرية والسياسية فإنه لم يفلح في ضمان الديمومة والبقاء.
وإذا كانت نهاية بونابارت على هذا النحو رغم كل القوة التي كانت بحوزته والعبقرية الذي كان يتمتع بها في ظل مناخ ثوري جارف للأمة الفرنسية الناهضة للتو والتي أطلقت ثورة عصفت بكامل أوروبا بل وبالعالم قاطبة، إذا كان مصير بونابارت على هذا النحو فما بالك بقيس سعيد. فبالعودة لموضوعنا فإن علامات الاضطراب والانخرام التي تتواتر في سير عمل منظومة الحكم توحي بأن نهاية هذه المنظومة الشعبوية لن تتأخر كثيرا.
تونس في 25 مارس 2024
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |