|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
جيلاني الهمامي
2024 / 3 / 22
صوّر أحمد ابن أبي الضياف في كتابه "أتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" حال البلاد تحت قائمة طويلة ممن مرّوا على حكمها على امتداد قرون من الزمن. ودوّن سلسلة هائلة من الروايات والشهادات عن المآثر والمآسي التي سجلها تاريخ تونس. إنه كنز يعجز اللسان عن تعيير قيمته ولا يقدر من يطالعه على الامتناع من العودة إليه أكثر من مرة للإلمام بما ورد فيه من إخبار ومعطيات وحكم ودروس.
تزخر فصول التاريخ التي تفنّن أحمد ابن ابي الضياف في وصفها وسرد تفاصيل مجرياتها بقدر ضخم من الجرائم والمذابح وأعمال الاقتتال من أجل افتكاك الحكم أو استدامته. وجاء على مختلف السلالات التي تناوبت وتعاقبت على الحكم. فخصص لكل ملك أو باي أو أمير حيزا من كتابه لتوضيح كيفية مجيئه للحكم وما حف بذلك من معطيات وماذا كانت خصائص فترة ملكه وميزاتها ومساوئها وكيف تنحى عن العرش عامة إما بالوفاة أو غيلة ممن خلفه. واحد من ملوك تونس الذي خصص له أحمد ابن أبي الضياف فصلا (8 صفحات) من المجلد الأول (1-2) هو مراد بن علي باي بن حمودة باشا الملقب بمراد بو بالة. (1)
مراد بو بالة: كيف جاء وماذا فعل وكيف ذهب؟؟
قال فيه أحمد ابن أبي الضياف ما مختصره في بعض الفقرات التالية:
"بويع بالحاضرة يوم الاثنين 14 رمضان (أي في مثل هذا الشهر) 16 مارس 1699"
وكان وصوله للحكم مثل الكثير ممن سبقوه والذين لحقوه على حد السواء في مسار مليء بالتقلبات والتطورات الغريبة. لقد خلف عمه رمضان باي الذي حكم البلاد لأكثر من ثلاث سنوات بعد أن أفلت من الموت بأعجوبة.
يقول احمد ابن ابي الضياف:
"إن مراد باي ابن علي باي من زوجه بنت سلطان بن منصر الحناشي المتقدم الذكر، لما قُتل أبوه صار تحت كنف عمه محمد باي، ولما تُوفي صار الى كنف عمّه رمضان باي فحذّره مزهود (2) غائلته وأشار عليه بالاحتراس منه فاعتقله في محل من باردو سنة 1109 هـ (1697 / 98 ميلادي). ورام الفرار من محبسه ليلا فوقع القبض عليه قبل الفرار، فجمع رمضان باي خاصته واستشارهم في أمره، فوقع الاتفاق على تسميل عينيه وبذلك ينقطع طمعه في الملك ولا ينقطع النسل المرادي..."
"فأرسل اليه جماعة من ثقاته، وألقوه كتافا – وهو لا يدري ما يراد به – وألزموا طبيبا نصرانيا أن يسمل عينيه بمرود من حديد محمّى بالنار، وأن يكرّر ذلك ثلاث مرّات، ثم عاوده الطبيب – وكان رقيق القلب – لمداواة عينيه فأسرّ له أن لا باس عليه وأن الضرر إنما وقع في الأجفان فقط، وجعل من عضديه حمصة لإخراج ما يغشي البصر وأوصاه بكتمان السر وإظهار التعامي."
"وبقي في محبسه على حالته، إلى أن خرج عمه رمضان باي بمحلة الشتاء فحمله معه. ولما انتهى إلى سوسه سجنه بقلعتها، ووكل بحراسته مقرّبا من مواليه، اسمه سليمان البياص وارتحل إلى صفاقس. فتكلم مراد مع من كان يخدمه، في الحيلة على الهروب، وأعلمهم بسلامة بصره، فاتفقوا على قتل سليمان الباص. ولما جنّ الليل ضربه أحدهم على رأسه فأوهنه، وأجهز عليه مراد باي بالسيف. وسهّل الله عليهم ثقب سور القصبة..."
هكذا فرّ مراد باي. ويضيف ابن أبي الضياف "وجدّ في السير إلى أن انتهى إلى جبل وسلات فصعده وأسرع أهله إلى طاعته وقاموا بأعباء نصرته. وبلغ الخبر لرمضان باي، فكتب لجبل وسلات يأمرهم بالقبض عليه، ظنا منه أنه مسموع الأمر، فلم يزدهم ذلك الا تعصبا وثباتا...".
"ولما تمهّد الأمر لمراد باي، نزل من جبل وسلات، وأتى القيروان فبويع بها يوم الأربعاء 11 مارس 1699 (9 رمضان 1110 هـ) وأرسل إلى سوسة بقتل عمه رمضان باي فأخرج من الحرم وأدخل القصبة، وخٌنق بها، وأتوا إليه برأسه..."
وكما سبق قوله بويع في الحاضرة (تونس العاصمة) يوم 16 مارس أي بعد خمسة أيام.
استوى على عرش تونس لمدة ثلاث سنوات عمل فيها بشرعه كما يقال. يقول ابن أبي الضياف في هذا "ولم يلبث أن سلّ سيف بغيه الذي قتل به. وفعل ما لم يؤثر عن غيره قديما وحديثا. وسلب الله الرحمة من قلبه، فانهمك في العبث بصنع الله انهماك السباع العادية".
عدّد ابن أبي الضياف "المآثر" الاجرامية والقمعية لهذا الملك الدّموي. منها قوله "ثم خرج إلى سوسة فأخرج شلو عمه رمضان من قبره وأحرقه بالنار وجمع رماده فألقاه في البحر، وأخذ من ذلك الرماد وتشفّى بشربه في مجامع أنسه. ولم يقع لقتيل مثل ما وقع لرمضان باي، فقد مُزّق كُلّ ممزق وصار مُثلة ومحي ذكره بأن لم يكن له قبر..."
عاث هذا الملك المتجبّر فسادا في البلاد. وقد وصف ابن أبي الضياف "شنيع أفعاله" كلّما خرج في محلة الصيف إلى باجة "وفعل بأهلها ما هوّن عليهم فراق الوطن فخرجوا منها للشّعاب والأودية وتركوها خاوية على عروشها..." أو كلّما خرج في محلة الشتاء إلى القيروان الذي حاصر مدينتهم وحاربهم حتى أذعنوا له "فأغرمهم أموالا كثيرة" أو كلّما ارتحل إلى الجريد.
صور وأمثلة كثيرة عن أشنع ما فعل تكاد لا تحصى نسوق عنها حادثة قتل الفقيه المفتي الشريف أبي عبد الله محمد العواني القيرواني الذي "باشر قتله بنفسه، وجعل يشوي لحمه ويأكل منه ويطعم خاصته".
ويقول ابن أبي الضياف "وله سيف يسمى بالة، لا يكاد يريحه يوما من إراقة دم الانسان، وإذا لم يقتل أحدا يقول "إن البالة جاعت"، ويخرج بها فيقتل من يعرض له، ولذلك يعرف بمراد أبي بالة". (3)
في 10 جوان 1702 قتل مراد باي على يد إبراهيم الشريف بإيعاز من سلطان الباب العالي وبذلك انتهت الدولة المرادية.
بوابات الوصول إلى الحكم في تاريخ تونس
هذه صفحة من الصفحات المظلمة من تاريخ تونس وتاريخ شعبها دوّنها ورواها ابن أبي الضياف في كتابه الشهير "أتحاف أهل الزمان". والمتمعن في هذا الأثر التاريخي الهام يقف على حقيقة أن تاريخ هذه البلاد كان تاريخ استبداد لا يكاد يخلو فصل من فصوله من أشنع الجرائم وأعمال القتل والفتك. فعلى امتداد قرون من الزمن، منذ عهد فتح افريقية حتى يوم دخول الجيوش الفرنسية الغازية في عهد الصادق باي، وهي الفترة التي مسحها ابن أبي الضياف بالتأريخ لها والنظر فيما حصل فيها لملوك تونس، على امتداد كل هذه الفترة لا نكاد نعثر، إلا نادرا، على مثال لمرور المُلك والحكم من سلطان أو باي أو أمير إلى آخر إلا عن طريق إراقة الدماء. فتاريخ الحكم عندنا موسوم بالعنف والقتل والتشفي حتى صار بمثابة قاعدة لا يخالفها التاريخ بما في ذلك تاريخنا المعاصر حتى وإن اتخذ العنف فيها طلاء عصرانيا اقتضته ظروف العصر وشرائع الحكم في العالم الراهن.
فبورقيبة الذي لا ينحدر من عائلة مالكة أو سلالة شريفة وإنما حكم البلاد ثلاثين سنة حتى اعتبرها في وقت من الأوقات قطعة من ملكه الخاص، عزل في ليلة ظلماء من أيام نوفمبر 1987 بواسطة انقلاب طبي ومات في عزلته في قصر من القصور الكثيرة التي شيدها لنفسه في صقانس، ضاحية من ضواحي المنستير مسقط رأسه، وسرعان ما مُحي تاريخ ومآثره في سنوات "العهد الجديد" بعد "التحول المبارك" على يد زين العابدين بن علي.
هذا الأخير الذي جاء للحكم على أساس انه سيصلح ما أفسده سلفه ولأن "الشعب التونسي بلغ من النضج" ما يجعله جديرا بنظام ديمقراطي استوى هو الآخر على الحكم لأكثر من عشرين سنة حوّل فيها البلاد إلى مرتع عائلي له ولخاصّته وأصهاره ولم يتنحّ عن السلطة، في الوقت الذي كان يرتّب "تمديدا دستوريا" لحكمه، إلا مطرودا شرّ طردة من جماهير الشعب المفقر والجائع والمقموع. ومات في المنفى وراح نسيا منسيا.
الارتداد إلى ما قبل 1881
لقد كان الطريق الى الحكم عبر التاريخ في تونس إما بالوراثة أو عن طريق الانقلابات، عسكرية كانت أم مدنية، والاستثناءات تعد على أقل من عدد أصابع اليد الواحدة وتنحصر في حالة بورقيبة الذي أتت به الحركة الوطنية ضد المستعمر الفرنسي بصفته أحد أبرز قادتها. ومنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي ومحمد الناصر وقيس سعيد الذين جاؤوا لقصر الرئاسة بفضل الثورة والنظام الديمقراطي الذي رغم كل ثغراته ونقائصه ومساوئه أرسى قواعد التداول على الحكم ووفر الفرصة للجميع عبر صناديق الاقتراع. ويمثل قيس سعيد نموذج الرئيس الذي لو لا الثورة لما كان له أن يحلم يوما في حياته بالوصول للحكم.
إنه "رئيس بالصدفة" خدمته ظروف وأسباب قلما اجتمعت لغيره، سمحت لشخص مغمور مثله على الصعيد السياسي والنضالي، شخص لا جاه له ولا نسب ولا أية مزية من المزايا التي يمكن أن تخدمه وتفتح له طريق الوصول إلى قصر قرطاج.
مع قيس سعيد ينسدل الستار على عشرية ما بعد الثورة التي فسحت المجال لكل مواطن تونسي مهما كان موقعه بأن يدخل معمعان المعارك الانتخابية للفوز بمركز مرموق في الحكم (الرئاسة والبرلمان الخ...). ومعه أغلق قوس الثورة وطويت صفحة الديمقراطية حتى انتفت إمكانيات التنافس على الحكم وأجبرت تونس على النكوص إلى ما قبل 1881 أي إلى عهد الوصول إلى الحكم إما بالوراثة أو عن طريق الانقلاب. ففي غياب الديمقراطية وإمكانية التنافس الديمقراطي لم يبق سوى هذين المعبرين للحكم. حتى طريق الصدفة ما عادت ممكنة.
إن حملة "اصطياد" المترشحين المحتملين عبر افتعال "قضايا التآمر على أمن الدولة" وملفات "الفساد" و"تبييض الأموال" هو مسعى لتصحير الساحة وتجفيف قاعدة التنافس في الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها قبل نهاية هذه السنة. ويبدو أن هذا المسعى سيدخل منعطفا جديدا بأبعاد ومعان جديدة قديمة تحيلنا مباشرة إلى عهود ما قبل مراد بو بالة وما بعده. ذلك أن الكمائن المنصوبة لمن تحدثهم أنفسهم الترشح للرئاسية القادمة لم تعد تؤدي إلى السجن بعنوان "التآمر على أمن الدولة" فحسب وإنما أصبحت تحمل مباشرة إلى الرواق المؤدي إلى الإعدام بمقتضى الفصل 60 من المجلة الجزائية بتهمة الخيانة العظمى والتخابر مع الصهاينة والاعداء الخارجيين (4).
ما معناه أن الاحتفاظ بكرسي الحكم بات اليوم يستوجب نصب المشانق للتخلص من الخصوم، تماما كما كان ذلك في القرون الماضية هو الطريق للوصول إلى عرش الحكم أو باب الخروج منه.
لا غرابة في أن التاريخ يمكن أن يرتد على شكل انهيار وأن الثورات يمكن أن تعود القهقرى إلى ما قبل خط انطلاقها ولكن المفارقة التي أقدمت عليها تونس في عهد الشعبوية هي كما يقول ماركس هذه السرعة في العودة إلى "تقاليد جميع الأجيال الغابرة لتجثم كالكابوس على أدمغتنا نحن الاحياء".
يقول ماركس أيضا في عبارة غاية في الصدق والدقة والوضوح " أن شعبًا بأكمله كان يتصور أنه، عن طريق الثورة، قد سرّع تطوره، يجد نفسه فجأة يرجع القهقرى إلى عصر أنقرض" (5).
جيلاني الهمامي
تونس في 21 مارس 2024
الهوامش :
(1) – أتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان – أحمد بن أبي الضياف – الدار العربية للكتاب، المجلد الأول (1 – 2) ص ص 72 – 79
(2) – مزهود هو مغني مقرب من الملك رمضان باي يقول فيه احمد ابن أبي الضياف "وله مغن اسمه مزهود استولى على لبّه واختص به وبلغ عنده الرتبة التي لم يبلغها غيره...". الاتحاف، المجلد الأول، ص 68
(3) – نفس المصدر، ص 74
(4) – ينص الفصل 60 من المجلة الجزائية (بصرف النظر عن الفصل 60 مكرر وثالثا ورابعا) على ما يلي "
يعد خائنا ويعاقب بالإعدام:
أوّلا: كل تونسي حمل السلاح ضد البلاد التونسية في صفوف العدو،
ثانيا: كل تونسي اتصل بدولة أجنبية ليدفعها إلى القيام بأعمال عدوانية ضد البلاد التونسية أو ليوفر لها
الوسائل لذلك بأي وجه كان،
ثالثا: كل تونسي يسلم إلى دولة أجنبية أو إلى أعوانها جنودا تونسيين أو أراض أو مدنا أو حصونا أو
منشآت أو مراكز أو مخازن أو ترسانات أو عتادا أو ذخائر أو بواخر أو طائرات على ملك البلاد التونسية،
رابعا: كل تونسي في زمن الحرب يحرض عسكريين أو بحارة على الالتحاق بخدمة دولة أجنبية أو
يسهل لهم الوسائل إلى ذلك أو يجند جنودا لحساب دولة في حرب ضد البلاد التونسية،
خامسا: كل تونسي في زمن الحرب يتصل بدولة أجنبية أو بأعوانها ليساعدها في اعتداءاتها على البلاد التونسية."
(5) – 18 برومير لويس نابليون بونابرت – كارل ماركس، الرابط التالي:
(1) - بوابة الاشتراكي (revsoc.me)
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |