|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
اسحق قومي
2024 / 3 / 10
في بداية السبعينات من القرن العشرين جاء دمشق طالباً جامعياً لم يكن يعرفُها من قبل.مدينة ٌ موغلة ٌفي التاريخ لقد أحبَّها حتى قال عنها في لقاء ٍ تلفزيوني أجرته معه باسمة الزنبقة في برنامج قناة 99 للسيد الياس حبيب (أنها محطة لكلّ المسافرين عبر دروب الوطن ). من بين أحيائها القديمة حيّ باب توما هناك بالقرب من كنيسة حنانيا يعيش أخيه. الذي يُتابع دراسة الهندسة الميكانيكية، ولا بد له أن يمرّ من الشوارع الضيقة. ها هو المسبك الجواني، وأمام أحد الأبواب صبية ٌرائعة الجمال كأنها لوحة ٌ فاتنة ٌ تَعِبّ في رسمها ذلك الفنان السرمدي والخالد.
همستْ حين مرّها وقالتْ: شاعرٌ غريبٌ لوعَ قلبي. التفت َ..نظرَ فنظرتْ قرأ في عيونها أكثر من سؤال ٍ، وبعد يومين صدفة ً التقاها على موقف للباص قبالة كلية الآداب .هي الأخرى تريد العودة إلى غرفتها. هل ستعود أنتَ أيضاً ؟!!! أجل.
جلستْ بجانبه في سيارة النقل العام .تحدثا عن كل شيء. وحين وصلا أمام غرفتها دعتهُ للدخول وألحت . غرفة ٌصغيرة ٌيا شاعري قالتها: لكنها تتسع لمثلكمْ وتهوى زيارتكم .وكررت عليه خامسة أدخل كفى خجلاً أو حيرة بماذا تفكر؟! دخل معها كانت الغرفة رائعة ٌ والأزهارُ تملأُ حواف الشبابيك العتيقة العالية. ستائرٌ مخملية ٌ والحديث ُ همساً بين عاشقة ٍ وشاعر ٍ لا يعرفُ الموانئ القادمة ولا المحطات المسافرة. سأعمل قهوة . واحات للبراءة ممزوجة بلوعتها . أسئلتها المتعلقة بالحب، يُحاول أن يتهرب منها .تقتربُ منهُ .تهمسُ منذ أن ظهرتَ على التلفاز في تلك السهرة من العام الماضي وأنا معجبة بكَ..
لا بل.توقفت. أكملي...قالها.,سيأتي الوقت .وتنهدتْ ،هو الآخر لا يريدُ أن يتعلق بها.لكنه لن يفلت منها طيلة الامتحانات. واللقاءات تتكرر...
وربما نسي موعداً معها في فناء كلية الحقوق حيث الأشجار الرائعة وتلك الظلال الحانية لكونه التقى صدفة ب(ف) التي عادت للتو من روما.وغاب عنها أكثر من عشرة أيام يتنقل مع (ف) ويزور أقرباءها حاول أن يعود إلى بيته في الشمال دون وداعها.لا بدَّ أن يتخلص من (ف)...كان يشعر بألم شديدٍ فيما إذا غادر دمشق دون وداع تلك الطالبة.في الساعات الأخيرة قبل رحيله قرر أن يزورها في غرفتها . هي الأخرى كانت تحضر نفسها للسفر إلى بلدتها.
بينما هو سيتوجه إلى الجزيرة.أيدي تعتصرُ تشبه أيدي الغريق الذي يصارع من أجل البقاء ، ضمٌ لم يسبق له أن شعر بروعته من قبل، دموع ٌسخية ٌ تذرفها ...
ها هو عنواني أكتب لي قالتها. كانت بشوق لكلمة واحدة يقولها لها.ألحت عليه قالها بصوت ٍ فيه حشرجة... دعيها حتى أكتب لك. اقتربت وقبلته ُ بلهفة ٍ ويدها تمسك بيده ،ضمته على عجل وبقوة. سأنتظر رسائلك.
وداعاً وإلى لقاء قالها: ومضى حيث أخيه ينتظرهُ للعودة إلى شمال الوطن . ..
الطريق طويلة ٌ وأحاديث عديدة . يصلا .يبدأُ بالتفتيش عن واحدة أشعلتهُ.متى سيلتقيها؟!! ،
ويبدأُ العام الدراسي وما بين هموم الوكالة والقرى البعيدة التي يعلّم ُ بها وبحثه الدائم عن الثانية يؤرقه، لم يكتب لها إلاَّ رسالة واحدة تشبه رسائل الأصدقاء مضى العام الدراسي.
كان عليه أن يودع مدينته للذهاب إلى دمشق. عاد .تمنى ألاَّ يلتقيها.لكنه لابدّ أن يمر من أمام غرفتها مجبراً.ها هي بروعتها . تقرأُ
كانت قد كبرت عاماً كاملاً أما هو فقد عاد إلى ما قبل عام. نقرَ على شباكها. التفتت وبسرعة فتحت له الباب وقالت: هل يتفضل شاعرنا أهلاً بك َ...
تعال َ لنحتسي فنجاناً من القهوة معاً كمْ أحبُّ أن أجلس معكَ؟!!!
دخل وبلهفة راحت تحدثه عن عام بحاله وعاتبتهُ غير رسالة يتيمة واحدة تشفع لكَ .هل أنت جائع لدي من الطعام ما يكفينا . ما رأيك ..؟!!!
أجل أجل.سأكلُ معك.لِمَ لا!!!...انتهيا من الطعام كان َ المساءُ يُسرع الخطى.
دعيني أكتبُ قصيدتي. رغم تعبي ...
لكَ يا سيد القصيدة ما تريد وطاولتي الصغيرة تنتظرك .جلس يكتب بينما راحت إلى آلة التسجيل الكبيرة ووضعت له فيروز (ليالي الشمال الحزينة).
كانت تردد من أيِّ الدروب أتيتَ يا شاعري؟!!
بينما كان غارقاً في الكتابة للتي أشعلته ذات يومٍ على أطراف بانوس.لارا التي سافرت قبل الرياح.
وهاجرت قبل مواسم العشق...
الجو حارٌ والغرفة لا تتسع لأنفاسي، فهل شممت عطر وشذا الياسمين؟!!!
نحن على أحرٍّ من الجمر إلى لُقياك وأنتَ لازلت تقول لي سأكمل قصيدتي؟!!!
أحضرتْ فنجاناً من القهوة.أسدلت ستائر النوافذ وأشعلت الضوء . صبية تجاوزت الثانية والعشرين ، عيونها ، شعرها نظراتها، قميص نومها الشفاف غرفة بدت تعبق بالأريج والأنفاس وفيروز تلقح بقايا الخجل عرقه يتصببُ ينظرُ إلى وجهها . جسدها. صدرها الحاني المكتنز . شعرها الطويل المنسرح على كتفيها وظهرها . حركاتها. كلماتها. أنفاسها التي تحرق بيادر الجوع عنده.أرتعشَ حين اقتربت وهي تترك فنجان قهوتها على الطاولة المجاورة. وتهمسُ كم أنا أحبُكَ؟!!!!
ارتمت بين أحضانه قائلة له نحبُ من لا يحبنا ونبتعد عن من يُحبنا؟ لماذا أيها القادمُ من الشمال؟!!
عانقتهُ .الأنفاس تتلاحق، خفقان قلبيهما، راح يداعب شعرها وهي تتلمس صدره.وجهه شفتيه . شاربيه.وتضم عيونه حاجبيه وتقول يا الله ما أروعك.نامت بين ذراعيه كطفلة صغيرة ٍ .
يسألها عن دروسها، كانت أجرأُ منه حين قالت: لست فارساً.بالبرغم من أنني بين أحضانكَ ...
تتهرب من لحظة تحتويني في روحك وبين ذراعيكَ.
قبلته على عجل كأنها تخاف أن يهرب منها وإلى الأبد. سكر َ ..بكأس ٍ من الخمر ...
جرأة ٌ أخذته إلى عوالم ساحرة لا يدري تضاريسها إلا مع (.....1....2..).راحت إلى فيروز تنشدها أن تغني لهما (سألتك حبيبي)....
كانت الفرحة تغمرها. أجل جذلة ٌ هي تشبه ُ فراشة تحلق في رياض ملأَ بالورود. آه ٍ لكَ أيها المتشظي في عوالمي. بينما راح يُقارن بينها وبين تلك التي أشعلته ذات ليلة على أعتاب أمسية قرب بانوس، قامتها، شعرها، حتى حذاؤها الصيفي الذي كان يزين أصابعها أما هي كانت كلوحة الجوكندا ...
الهدوء يعم المكان والجيران لازالت أصواتهم تنذر بأن سهرتهم لم تنته ِ بعد...
أنفاس الياسمين الدمشقي يعبر ُ غرفتها، همستْ له وقالت: أنا أُحبُكَ...
شفاهٌ عطشى، قلبان يخفقان بسرعة هائلة، عيونٌ تسافرُ إلى حيث مواطن الروعة أيدي تمتد والصدور تقترب وهي تقول.أحبُكَ.فهل تُحبني؟!!!!
اتسعت دوائر الحركة. الحرُّ والعرق يتصببان من الأجساد، لثمٌ وضمٌ وعناق .
حتى غابا عن الوجود ، استيقظ من غفوته، كان الفجر يملأُ الكون والهدوء يكادُ يعزفُ أحلى أغانيه، تحسس جسدها، استيقظت وهي تحتضنه بعنفوان ٍ وتشده إلى صدرها، قبلتهُ. ارتدى قميصهُ.
حذاءه . أمسكت به ثانية وهمست بهدوء سنلتقي. أحبُكَ... حلمٌ هذا أم حقيقة؟!!
ابتسم وخرج وهي تلوّح بيدها . وبعد هذا لم يلتقيها أبدا.
مضى عام أخر لم يرسل لها أية رسالة رغم رسائلها العديدة التي كان يمزقها قبل قراءتها. في ذلك العام قرر أن ينتهي من عواصف تجتاحه فتزوج في نهاية العام الدراسي ولا بدّ أن يذهب إلى دمشق لامتحانات الجامعة . جاء المكان ومرَّ من أمام شباك غرفتها رأته سلم عليها سألته الدخول ورغم أعذاره أبت إلا أن تشرب معه كأساً من القهوة ِ تعالَ ..تعالَ...كمْ أنا بشوق إليكَ.؟!!!..
اقتربت وبسرعة قبلته كأنها تسرق تفاحة من حديقة جارتها. كانت تتراقص فرحاً لكن سرعان ما اكتشفت عندما قدمت له فنجان القهوة أن في يده خاتماً للزواج. ارتمى من يدها فنجانها وبلهفة ٍ حزينة وشفاهها تنقبضُ وعيونها التي امتلأت بالدموع .هل.وقفتْ...هلْ تزوجت؟!
هلْ تزوجتَ؟! لماذا لم تخبرني...لماذا...من؟! وبدأت تبكي.أشعل سيكارته ...أطفأها...
اقترب منها ورفع رأسها بين يديه ومسح عن خديها دموعها ارتمتْ بين ذراعيه وهي تنتحبُ.تنظر إليه وتعاتبهُ لماذا فعلتها أيها القاسي؟! لماذا وأنا أنتظر قدومك والنار تحرقني لماذا؟! منذ متى تزوجت أيها الذي سأحبُك رغماً عنكَ وعنها وعن قدري....؟! بينما كان صامتاً .. وهي تبكي وتبكي، اقتربت دعني دعني أنامُ بين ذراعيك للمرة الأخيرة قالتها.بينما كان يُناغيها عهداً لن أنساك. لكن قدري هكذا...نامت بين ذراعيه ..
صمتٌ وأنفاسٌ. حملها إلى سريرها...غطى جسدها ...تَرددَ في أن يُقبلها للمرة الأخيرة وقبل أن يهم بالخروج ...
استيقظت ..نظرت إليه بحسرة ٍوبكت وبكت وقالت قبلني قبل أن ترحل...
سأقرأُ لك أشعارك ، سأرحلُ معك عِشقاً وأمنية ًماتت قبل ولادتها...
ستتذكرني رغماً عنكَ ذات يوم ٍ ...ومضى كأنه الحلم حين يأخذنا إلى بلاد بعيد ونحن في نوم ٍ عميق...
***
بقلم:اسحق قومي
ألمانيا.19/4/2010م