أستاذي الكبير الشهيد الدكتور كاظم حيدر الجوادي

حسين علوان حسين
2024 / 3 / 10

شاهدت الشهيد الأستاذ الدكتور كاظم حيدر الجوادي عام 1993 خلال جلسة مناقشة لأطروحة دكتوراه عن ترجمة الآيات القصار في القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية. وقتها، كنت حاضراً كمستمع في جلسة المناقشة تلك التي كان هو عضواً فيها، وكان أستاذي المتمرس الكبير أبا خلدون - الأستاذ الدكتور عبد الباقي الصافي، أطال الله في عمره – رئيس قسم الترجمة في كلية الآداب، الجامعة المستنصرية، رئيس لجنة المناقشة. ولقد هالني مدى سعة اطلاع الاستاذ الجوادي المناقش على نصوص القرآن الكريم، كما سحرتني لغته الإنجليزية الرقراقة، ولحيته الجميلة، وشدة دماثة خلقه. بعد انتهاء جلسة المناقشة، طلبت من أستاذي الكبير أبي خلدون - الذي كان قد درَّسني في الاعدادية المركزية بالحلة، وكنت متواصلاً معه - تعريفي بالدكتور كاظم حيدر الجوادي، ولكنه كان قد غادر القسم، فلم أفز بلقائه.
وقتها، كنت أمضّي السنة الثالثة والعشرين من بعد نيلي لشهادة البكالوريوس في جهادي السنوي للفوز بمقعد القبول في الدراسات العليا بجامعة بغداد، قسم اللغة الانجليزية، دون طائل. في كل سنة منذ عام 1973، أقدم أوراقي لما كنَا نسميه في حينها بمرارة: "وزارة التعليم العاني والبحث الحديثي"، وأدخل اختبار المنافسة في قسم اللغة الانجليزية، فأحصل على المركز الأول دائماً، ولكن التقارير الأمنية تحجب قبولي، حتى تجاوزت سن الخامسة والأربعين - التي كان النظام المقبور قد حددها تحكماً سقفاً أعلى للقبول في الدراسات العليا داخل العراق. في السنة التالية، صدر قانون التعليم العالي للموظفين المتميزين، والذي يعفي الموظف الممتاز في دائرته من شرط العمر في القبول بالدراسات العليا. وجاءت الآلية الجديدة للقبول فرجاً من السماء لحالتي المستعصية، حيث كانت تقتضي قيام مدير عام دائرتي – مصرف الرشيد – بتنظيم وتوقيع استمارة طاب القبول في الدراسات العليا، وارفاقها بالمستمسكات والمؤلفات كافة التي تثبت كوني موظفاً حكومياً ممتازاً في تلك الدائرة، ويتم رفع استمارة طلب القبول الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مباشرة من طرف وزارة المالية التابع لها مصرفي. هذه الآلية الجديدة (قناة المتميزين) للتقديم للدراسات العليا لم تعد تتطلب التزكية الأمنية من سلطة البعث كشرط مسبق للقبول، وإنما تتطلب فقط تأييد الدائرة بكون طالب الدراسة العليا هو من موظفيها المتميزين عبر ارفاقها كتب الشكر والتقدير والتقييم مع استمارة طالب القبول.
وهكذا، فقد كتبت لي يد القدر الافلات من الحضر الأمني على قبولي في الدراسات العليا باعتباري شيوعياً محكوماً سابقاً بالإعدام ومدرساً منقولة خدماته من وزارة التربية الى وزارة المالية لرفضه الانتماء لحزب البعث الحاكم.
ولقد التقيت ثانية بالأستاذ الدكتور كاظم حيدر الجوادي في الاختبارين التحريري والشفوي الذين أقيما للمتقدمين للدراسة الماجستير في قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب، جامعة بغداد عام 1995/1996. وكانت لجنة الاختبار للمتنافسين برئاسة رئيس القسم أستاذي الجليل المتمرس الدكتور عبد اللطيف علوان الجميلي وعضوية الأستاذة الفاضلة المتمرسة الدكتورة أيمي سكويرة والأستاذ (المساعد في حينه) الدكتور كاظم حيدر الجوادي، والتي منحتني أعلى تقدير بين عشرات المتقدمين. ومن هنا بدأت رحلتي الجميلة مع الأساتذة الأفاضل للدراسات العليا في قسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة بغداد، ومنهم الأستاذ الدكتور الشهيد كاظم حيدر الجوادي، والتي تواصلت حتى سماعي بفجيعة استشهاده على مقربة من داره في حي الوزيرية ببغداد بيد الغدر لعصابات السلاح المنفلت بتاريخ 14/8/2006.
ولد الشهيد كاظم حيدر الجوادي في الموصل، عام 1937، في عائلة علم وأدب ودين وسيرة مثالية مشهودة تضارع سير القديسين. كان والده المرحوم حيدر الجوادي تاجراً، ومقرئاً مجوَداً للقرآن الكريم، له مدرسته الخاصة الشهيرة بمدرسة "حيدر الجوادي" التي ذاع صيتها بعد انتقاله لبغداد أولاً، ومنها الى العالم الاسلامي قاطبة في تلاوة آي الذكر الحكيم. وتتوفر تسجيلات ترتيله الجميل للقرآن الكريم كاملاً على الرابط:
https://midad.com/collection/462670/
وقد أشتهر هذا الشيخ الفاضل الكبير بصرامة تثبته من سلامة ملكة طلابه للسان العربي القويم وضبطهم للقواعد المتوارثة في ترتيل القرآن الكريم، بحيث أنه امتنع عن اجازة أبنه الشهيد الدكتور كاظم في التلاوة بسبب لثغة بسيطة جداً في لسانه لا تكاد تميزها إلا الأذن الرهيفة السمع جداً، ولقد تقبَلها الشهيد برحابة صدر، وكانت عزوته في اجازة والده لحفيديه منه : حذيفة وحيدر تلاوة القرآن. تخرج الشهيد في الدراسة الاعدادية/ الفرع العلمي ببغداد عام 1951، وكان من الأوائل على العراق، في حين أن سنه لم تكن قد تجاوز السادسة عشرة بسبب قبوله في المدرسة الابتدائية وهو في سن السادسة لشدة ذكائه وحدب والده الشيخ الجليل على تعليمه منذ نعومة اظفاره. وكان قانون كلية الطب بجامعة بغداد في حينه لا يقبل إلا الطالب الذي أكمل السابعة عشرة في تلك الكلية. وفي حينها، طلب منه عميد كلية الطب المرحوم الاستاذ الدكتور صائب شوكت تقديم مضبطة تفيد بوجود خطأ في سجلات النفوس بصدد تثبيت تاريخ ميلاده الصحيح، كي يتسنى قبوله في كلية الطب وفق ما يؤهله له معدله العالي. كانت تلك مجرد ورقة تضم استشهاداً يوقعه مختار واختيارية المحلة تضمن له القبول والدوام في كلية الطب التي يستحق، ولكنه لم يسمح لنفسه بفعلة مثل هذه، موضحا لأبيه الشيخ الجليل:
- لا يجوز للإنسان ان يبدأ تخصصه العلمي بكذبة، وإن كانت بيضاء!
هكذا هي نقاوة أشباه القديسين من البشر، وأي بشر !
ولهذا، فقد انتقل للدوام في قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب والعلوم بجامعة بغداد – قبل انفصالها بعدئذ الى كليتين مستقلتين: كلية الآداب وكلية العلوم – والتي كانت تعج بأبرع الأساتذة الأجانب. بعد تخرجه من نلك الكلية بتفوق، رفض كاظم حيدر الجوادي التعيين بوظيفة مدرس ثانوية مثل غيره من خريجين القسم، بل التحق موظفاً مدنياً في قسم الترجمة بوزارة الدفاع العراقية التي كان يتراسها سابقاً شيخ المترجمين العراقيين- الأستاذ عبد المسيح وزير الذي عرّق ثلاثين الفاً من المصطلحات العسكرية للجيش العراقي والتي انتشرت فيما بعد في صفوف كل الجيوش العربية، مثل رتبة «عقيد» و«زعيم» بدلاً من «صاغ» و «بكباشي» التركية. في وزارة الدفاع، عمل كاظم الجوادي موظفاً مدنياً لعقدين محرراً رئيسياً لمجلة "الجندي" التي كانت توزع في كل الوحدات العسكرية العراقية وذلك بفضل ضبطه التام لقواعد اللغتين العربية والانجليزية. كما حصل على شهادة تأهيلية من معهد غوتا في اللغة الألمانية، وشهادة تأهيلية أخرى في اللغة الفرنسية، وضبط اللغة الإسبانية أيضاً بالتعلم الذاتي. كان الجوادي يحدب ليل نهار على تدقيق وتحقيق كل شاردة وواردة في مقالات تلك المجلة- تساعده تبرعاً في التدقيق زوجته المخلصة والاستاذة الفاضلة والفنانة الكبيرة الست أم حذيفة المحترمة، أطال الله في عمرها المديد.
(حادثة بصدد ضبط الدكتور الجوادي للغة الاسبانية: في عام 2002، كان الدكتور كاظم حيدر الجوادي رئيساً للجنة الإمتحانية في قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب، جامعة بغداد. وعندما تم فتح مغلف أسئلة الاختبار النهائي للغة الاسبانية، قرأ الدكتور الجوادي محتواها، فشخّص وجود خطأ نحوي إسباني في صيغة أحد الأسئلة، فأبلغ رئيس القسم الأستاذ المتمرس الدكتور لطيف الجميلي به، وتم ابلاغ الاستاذ المختص بفحوى اعتراض الدكتور الجوادي، فاعترف استاذ الإسبانية بوجود الخطأ، وتم تصحيحه قبل التوزيع على الطلبة الممتحنين! أستاذ الانجليزية يصحح الإسبانية لأستاذ الإسبانية!)
وعندما جاء المدرب اليوغسلافي – الذي كان يتحدث الألمانية - لتدريب المنتخب العراقي لكرة القدم في ستينات القرن الماضي، كان كاظم حيدر الجوادي المنتسب المدني الوحيد في وزارة الدفاع العراقية الذي يجيد الألمانية، مما أهل انتدابه من وزارة الدفاع لترجمة تعليمات المدرب اليوغسلافي لمنتخب كرة القدم العراقي في حله وترحاله بكل كفاءة واخلاص حتى انتهائه من مهامه التدريبية.
بعدها، تقدّم كاظم الجوادي بطلب القبول في دراسة الماجستير في جامعة ليفربول البريطانية. وكانت اجراءات القبول تتضمن أداء اختبار تحريري تأهيلي من خمسين درجة، درجة النجاح الصغرى فيه 30. وكان الحصول على الدرجة من 50-45 امتيازاً (outstanding) يؤهل حاصله للدراسة في مرحلة ما بعد الماجستير (M. Phil) أولاً، ومن ثم الانتقال إلى الدكتوراه مباشرة ، والتي فاز بها كاظم الجوادي بكل جدارة واستحقاق. لذا، فقد تم عبوره لدراسة الدكتوراه مباشرة، متجاوزاً بذلك مرحلة الماجستير. وكانت اطروحته عن دور استعارة صيغ المفردات في الترجمة من لغة لأخرى (Borrowing in Translation).
عاد الدكتور كاظم حيدر الجوادي لوزارة الدفاع العراقية، وباعتباره أحد الكفاءات العلمية، فقد كان يحق له قانوناً الانتقال من ملاك وزارة الدفاع إلى ملاك وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. ولكن وزارة الدفاع العراقية بقيت طوال سنوات تصر على عدم التفريط به لحاجتها الماسة لخدماته المتفردة، رغم أنه قد أبدى استعداده التام لأداء اي مهمة تخصصية تكلفه بها وزارة الدفاع حتى بعد انتقاله إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وإزاء تعنت وزارة الدفاع وتمسكها به – رغم أنه لم ينتم لحزب البعث الحاكم قط، وتلك كانت معجزة وحيدة فريدة في وسط الموظفين المدنيين بوزارة الدفاع العراقية فرضها الجوادي فرضا على رؤسائه- فقد اضطر الجوادي لتقديم طلب تحريري لرئيس الجمهورية، الذي وافق على نقله وفقا لنص القانون النافذ، فنُسِّب للتدريس بقسم الترجمة في كلية الآداب، الجامعة المستنصرية.
في الجامعة المستنصرية، ذاع صيت الدكتور كاظم حيدر الجوادي بسعة علمه، ورقي خلقة، وحرصه والتزامه الثابت بالتعليمات وبإعطاء كل ذي حق حقه بالقسطاس بلا خوف من لومة لائم. كانت درجاته لطلابه مسطرة دقيقة لا تقبل الصعود ولا النزول ولا الميلان البتة، وهذا ما أثار حفيظة عدد من الطلبة الهاملين ممن لا يكلفون أنفسهم واجب الجد والتحصيل، وينحون على أساتذتهم باللائمة جراء رسوبهم في المقررات الدراسية. وكانت الجامعة المستنصرية تضم في حينها بعضاً من الطلبة الموظفين والعسكريين ممن يدخلونها بغية تحصيل الشهادة الجامعية لأغراض الترقية الوظيفية فحسب، وليس لاكتساب العلم. ولم يكن الدكتور الجوادي يقبل لنفسه التفريط قيد شعرة بأمانته العلمية واعطاء من لا يستحق درجة أعلى مما يستحق، حتى وإن كان الطالب مهددا بترقين القيد. وتجنباً لهذا الوضع غير القويم، فقد انتقل الدكتور حيدر الجوادي الى كلية الآداب في جامعة بغداد.
لم أر في حياتي أستاذاً مخلصاً يضبط درسه قبل دخول قاعة المحاضرات مثله (إلا قبله الاستاذ المتمرس الدكتور خليل حماش، الأب الفعلي لدراسات علم اللغة في العراق الذي كان يدخل قاعة المحاضرات في السابعة صباحاً وهو في الثمانين من العمر، ويملأ لوحتين كاملتين بخطه الناعم جداً بتفاصيل موضوعه، ثم يجلس للراحة قبل دخول طلبة الدراسات العليا قاعة الدرس في الساعة الثامنة والنصف!) ففي موضوع "علم اللغة النفسي"، مثلاً، كانت المقررات العلمية لقسم الدكتوراه تضم آلاف الصفحات من أحدث وآخر الكتب المتخصصة بهذا الحقل، ولقد كنت أعجب كيف أن الدكتور الجوادي لم يكن يترك شاردة ولا واردة مثبتة فيها إلا سأل عنها. ورغم أنني لم أكن أستطيع "درخ" أي موضوع طوال حياتي قبلئذ، فقد اضطرتني مهابته للتعلم منه والتماهي مع أسلوبه فائق الدقة في التلقي العلمي كي أنال رضاه. كما كان أستاذاً في منتهى التواضع وانبساط النفس ورفعة الأخلاق والحميمية، يحفظ أسماء كل طلابه، ويواكب تطورهم العلمي، ويوجههم لتجاوز نقاط ضعفهم، ويخلص ايّما اخلاص لتوصيل مادته. كما كان واسع الذاكرة ونبيل الفؤاد.
وفي رئاسته للجنة الامتحانية في قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب، كان يدقق درجات الدفتر الامتحاني لكل واحد من آلاف الطلبة في كل مادة، وعديدة هي الحالات التي رأيتها فيها وهو يجلب الدفتر الامتحاني المصحح من طرف الأستاذ المتخصص ليلفت نظره الى سهو أو خطأ في التصحيح حاصل هنا أو في جمع الدرجات هناك، وكانت كلها لصالح الطلبة الممتحنين. ولا أتصور أن أي رئيس لجنة امتحانية كان يحرص لبذل مثل كل هذا المجهود الجبار وبهذه الدرجة من الدقة والاخلاص في أي كلية، فجزاه الله خير الجزاء في آخرته على كل هذا الاخلاص والتفاني في العمل.
درّسني الاستاذ الدكتور كاظم حيدر الجوادي موضوع "علم اللغة النظري" في مرحلة الماجستير، وموضوع "علم الصوت" و "علم اللغة النفسي" في الدكتوراه، فأنعم وأكرم به من أستاذ فاضل. وفي المرحلتين، تشرفت بمنحه لي درجة الامتياز، وهذا تقدير أعتز به أيّما اعتزاز من شيخي الجوادي ماحييت.
بعد حصولي على شهادة الماجستير، عام 1998، طلب مني أبي الروحي وأستاذي الفاضل الدكتور عبد اللطيف علوان الجميلي رئيس قسم اللغة الانجليزية في كلية الآداب التدريس كمحاضر خارجي في نفس القسم، حيث درّست مادة الترجمة والشعر الانجليزي للمرحلتين الثانية والرابعة. وفي عام 1999، عقد الاستاذ الفاضل رئيس القسم اجتماعاَ ضم عدداً من الأساتيذ، اقترح فيه الدكتور حيدر الجوادي مخاطبة الجهة المختصة في وزارة التعليم العالي لاستحداث دراسة للماجستير تكون مقرراتها منصبّة عملياً على تخريج الأساتذة المؤهلين لممارسة الترجمة بكل أنواعها (مترجم محترف يستطيع أن يكسب رزقه من الترجمة ، على حد قول المرحوم الدكتور الجوادي في حينها) ، وتولى هو وضع القائمة بمفردات مقرراتها. وقد حصلت موافقة وزارة التعليم العالي على المقترح المذكور، وبالفعل، فقد خرَّجنا الدورة الأولى والأخيرة في اختصاص الترجمة من كلية الآداب بجامعة بغداد، وذلك بعد أن استحصل لي أستاذي المتمرس الدكتور عبد اللطيف الجميلي قرارا من مجلس الكلية بتدريس مادة الترجمة لهذه الدورة رغم أنني كنت حاصلا على شهادة الماجستير وطالب دكتوراه. ولقد أثبت مشروع الاستاذ الدكتور كاظم حيدر الجوادي نجاحاً منقطع النظير، فحصل كل واحد من خريجيه الأربعة على شهادات الماجستير ومن بعدها الدكتوراه ودرجة الاستاذية، فجزاه الله خير الجزاء على فضله هذا.
في التقديم للدكتوراه، كان النظام المقبور يصر على تقديم طالب الدكتوراه لشهادة الرعوية العراقية التي تثبت كونه من أب وأم عراقيين بالولادة كشرط بات للقبول. ورغم وجود كل المستمسكات المطلوبة لإصدار هذه الشهادة (شهادة الجنسية العراقية لأبي وأمي ولي)، فقد أبى عقيد الجنسية اللعين ذاك توقيع تلك الشهادة إلا لقاء رشوة كبيرة لم أكن أملكها ولا أرضى لنفسي دفعها. أخذت سيارة التاكسي من الكرادة داخل الى قسم اللغة الانجليزية في جامعة بغداد، وقلت لأستاذي عبد اللطيف الجميلي بأنني لن أقدم للدكتوراه لأن ضابط الجنسية يطلب مني كذا مبلغ رشوة لتوقيع شهادة الرعوية، وأنا أرفض دفع الرشوة التي لم أمارسها قبلئذ قط. وبعد أن شرحت القضية لأستاذي الدكتور الجوادي، قال لي: إن الضرورات تبيح المحذورات، والرشوة ملعونة في الحكم، في حين أن شهادة الرعوية هي تحصيل حاصل لوجود شهادة الجنسية لأمك وابيك ولك مقدماً! عندئذ، استدنت المبلغ الكبير المطلوب من أستاذي الكبير عبد اللطيف الجميلي، وعدت بسيارة التاكسي لمديرية الجنسية في الكرادة داخل، ودفعت الرشوة للضابط إياه (لأول وآخر مرة في حياتي)، واستلمت الشهادة المطلوبة.
بعد اجتياز الامتحان الشامل للدكتوراه، طلب الأستاذ الدكتور كاظم حيدر الجوادي من رئيس القسم الاستاذ الجميل المتمرس عبد اللطيف الجميلي أن يتولى هو الاشراف على اطروحتي الموسومة "الوظيفية في اللغة: سيبويه وهاليداي"، قائلا له: "أنت أخذت حسين في الماجستير، وأريده معي في الدكتوراه. خُذ كل بقية طلبة الدكتوراه الاربعة لك في الاشراف، واعطني حسيناً فقط!" وهكذا كان، وإن كان شيخي الجميل: الجميلي من العدل بحيث اعطاه الاشراف على طالبين بدل الواحد: مؤيد وحسين!
كان موضوع أطروحتي للدكتوراه معقداً جداً لكون كتاب النحو لسيبويه )أسمه "الكتاب")، وهو أحد أعظم كتب النحو في تاريخ اللغات قاطبة، ومنهجه صعب، كما ان الدراسة المقارنة بين عالم نحو من القرن التاسع الميلادي ازاء عالم نحو معاصر من القرن العشرين ليست بالأمر البسيط ولا العادل للفارق الزمي الكبير بين الاثنين، خصوصاً وأن تلك الدراسة كان وكدها هو المنهج المتبع في التحليل اللغوي للعالمين سيبويه وهاليدي. كما كان هدفي فيها هو اثبات أن كتاب سيبويه يستغرق نحو اللغة العربية بأعمق مما يفعله كتاب هاليداي للإنجليزية، علاوة على اثبات رقي الدرس اللغوي العربي المتجاوز لزمنه في حينه. هنا برزت الحاجة الماسة للتفتيش في متون كتاب المستشرق الانجليزي "هاول" (Howell) بمجلداته الخمسة الضخمة عن النحو العربي بالإنجليزية، وكانت النسخة الوحيدة المتوفرة في العراق لهذا الكتاب الصادر في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في كلكتا بالهند قد نخرتها حشرة الأرضةَ! عندها، تكفل مشكوراً أستاذي الجليل الدكتور كاظم حيدر الجوادي بإعادة احياء هذا السفر الضخم جداً بواسطة دار القلم، وهو مكتب استنساخ فني عالي الدقة كان يديره في شارع الإمام الاعظم ابنه الأستاذ حذيفة وبسعر الكلفة فقط (75 الف دينار)، لوجه الله! ولقد كانت نسخة الاستاذ حذيفة أرقى اخراجاً من الأصل لهذا الكتاب الذي وزّعنا خمس نسخ جديدة له فاخرة التجليد الفني لمكتبات جامعة بغداد.
كنت أتواصل مع شيخي المرحوم الأستاذ الدكتور كاظم حيد الجوادي هاتفياً، كما زرته مرتين في داره بالوزيرية عام 2002، لاطلاعه على تطورات بحثي والاستفادة من مشورته العلمية الفذة. ولقد ذهلت من مدى تبحره بأسرار اللغة العربية. كما كان فوق كل هذا مضيافاً عربياً قحاً، تناولت في بيته أطيب سمبوسة لحم مصلاوية ذقتها في حياتي إلى اليوم. وكانت غرفة الإستقبال مزدانة بلوحات التطريز الفني الراقي والدقيق جداً للآيات القرءانية من أبداع الاستاذة الفاضلة زوجته الفنانة أم حذيفة المحترمة. وعند انتهاء لقائنا، كان يصر على نقلي بسيارته القديمة – مرسيدس خضراء موديل 1975 الخاص بالكفاءات – الى كراج العلاوي. أستاذ عالم نحرير يوصل بسيارته طالبه! أهٍ كم أنا مدين لك يا شيخي الجليل واستاذي النبيل!
أختلف استاذي المرحوم الدكتور كاظم حيدر الجوادي معي في مفهوم "المسند والمسند إليه". كان استاذي الجليل قد درسه كمفهوم بلاغي في كتب النحو المصرية التي كانت تدرّس في العراق خلال اربعينات القرن الماضي، فيما درسته أنا كمفهوم نحوي على مدرسة الأستاذ المخزومي العراقية في كتاب "لغتي" للمرحلة الابتدائية والمتوسطة. وبعد أخذٍ ورَد، اتصل بي أستاذي الفاضل هاتفياً مساء يوم سعيد وقال لي : "نعم، إن ما قلته أنت صحيح، فقد وجد تعريفه في كتاب "العين" للفراهيدي".
وقتها كان الدكتور قد قدم آخر بحث له من ثلاثة بحوث لنيل درجة الاستاذية. وقد أطلعني عليه، وكان بحثا أصيلاً مكتوبا بلغة هوميرية تخلب الألباب عن مذكرات مستشرق انجليزي لزيارته للجزيرة العربية. وقد تأخر صدور كتاب منحه درجة الأستاذية بسبب أن الخبيرين العراقيين أعطياه درجة "مفيد"، فيما الخبير الأجنبي قيّمه بدرجة "أصيل للغاية"! وبسبب هذا التفاوت غير المعقول والمنطوي على الاجحاف في التقييم العلمي، فقد تمت إحالة البحث لخبيرين جديدين، واللذين قيَّماه هذه المرّة بدرجة "بحث أصيل" حسبما يستحق بكل جدارة، فتم إصدار كتاب منحه درجة الأستاذية التي يستحق، بعد لأي. هكذا هم عظماء العراق في كل العصور: انصاف آلهة مغدورة؛ ودررٌ بأيدي الفحّامين من فاقدي الذمة والمروءة والضمير.
في يوم المناقشة اطروحة الدكتوراه، اكتفى مشرفي الفاضل الأستاذ الدكتور الجوادي بألقاء كلمة موجزة حول أهمية البحث، وأشاد في خجل بي بكلمات قليلة تطرق فيها إلى مكتبتي، ولقد حصلت الأطروحة على درجة الامتياز العال، الأول على جامعة بغداد طراً، بفضله.
بعدها، عُدت أنا لوظيفتي خبيراً في المصرف، حتى أفجأني نبأ استشهاده المفجع ظهيرة يوم 14/8/2006 الأسود، بصلية رشاش أطلقها عليه مجرم أزعر جبان في مكان غير بعيد عن داره. ولكن، بشِّر القاتل بالقتل، ولو بعد الحين، فقد تأكد لي من أكثر من مصدر قريب منه بأن قاتله قد لاقى مصيره المحتوم بالقتل، فإلى جهنم وبئس المهاد.
تالله لأن المرء ليعجز كيف يمكن للإجرام أن يبلغ مبلغ تلبّس نفس وضمير أي انسان تسوّل له نفسه إطلاق النار على عالم جليل أعزل غافل، وانسان وديع، ونفس كريمة، وبراءة قديسة مثل نفس الشهيد المغدور الأستاذ الدكتور كاظم حيدر الجوادي، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه، وألهم ذويه الصبر والسلوان.
بالأمس، زارني شيخي الجليل الشهيد كاظم الجوادي في الطيف، وعاتبني لأنني لم أوفه حقه المستحق، فهل لمثلي ان يوفي حق من تعجز كل لغات العالم عن وصفه؟

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي