الدبة الصغيرة

طلال حسن عبد الرحمن
2024 / 3 / 7

" 1 "
ـــــــــــــــــــ
مهما يطل الشتاءالقطبي ، وتشتد عواصفه الثلجية، في هذه المنطقة، من القطب المتجمد الشمالي، فإن الربيع سيأتي ، وتأتي معه شمس النهار ، وتضع نهاية لظلام الليل الطويل ، وها هو الربيع قد أتى أخيراً ، وأشرقت الشمس ، وأخذ الجليد والثلج في الذوبان .
ورغم مجيء الربيع، إلا أن العواصف لا تتوقف تماماً ، هذا ما تعرفه الدبة ـ الأم ، التي استيقظت مع صغيريها قبل أيام ، وراحت تنتظر توقف العاصفة ، لتخرج مع صغيريها من الكهف ، وتمارس حياتها الطبيعية ، التي توقفت مع مجيء الشتاء .
ومع أنين العاصفة ، تناهى إلى الدبة ـ الأم ، من خارج الكهف الجليدي ، أنين متوجع ، فرفعت رأسها ، وراحت تصغي ، أهي العاصفة ، أم ماذا ؟
وتململ صغيراها بشيء من الخوف ، لقد سمعا هما أيضاً ، على ما يبدو ، الأنين المتوجع ، واندس الأول في صدرها متمتماً : ماما .
وقالت الدبة ـ الأم ، وهي مازالت تصغي إلى الأنين المتوجع : لا تخف ، يا بنيّ .
ورفع الثاني نظره الخائف إليها ، وقال : ماما ، أحدهم يئن في الخارج .
وهمت الدبة ـ الأم أن تنهض ، وترى من في الخارج ، حين أطلت من مدخل الكهف ، دبة صغيرة في عمر صغيريها ، وتطلعت إليها خائفة مترددة ، فصاح الأول وكأنه يستغيث بأمه : ماما .
وحدق الثاني فيها مليّاً ، وقال وكأنما يردّ على أخيه : إنه دب .. مثلنا .
وابتسمت الدبة ـ الأم ، وقالت : إنها دب ، ولكنها ليست مثلكما تماماً .
وتطلع صغيراها إليها بدهشة ، دون أن يتفوها بكلمة ، فقالت : إنها دبة .
ومعاً صاح صغيراها : دبة !
ونهضت الدبة ـ الأم ، وصغيراها يقفان على جانبيها ، وقالت : تعالي ، ادخلي ، الجو بارد في الخارج .
وتقدمت الدبة الصغيرة بخطوات قصيرة مترددة ، وقالت : نعم ، بارد جداً .
وصمتت لحظة ، ثم قالت ، وهي تكاد ترتجف : قضيت الليل كله وحدي في العراء .
واقتربت الدبة ـ الأم منها ، وربتت برفق على رأسها ، وقالت : اطمئني ، ستدفئين هنا .
لم يتمالك الأول نفسه ، فصاح محتجاً : لتخرج هذه الدبة من كهفنا ، لا نريدها معنا .
وقال الثاني : نعم ، لا نريدها .
وردت الدبة ـ الأم عليهما قائلة بصوت هادىء : مهلاً ، مهلاً ، إنها دبة صغيرة ، في عمركما ، وقد تتأذى إذا بقيت وحدها في العراء .
ولاذ الصغيران بالصمت ، وإن بدا أن الأول لم يقتنع بكلام أمه ، فالتفتت الدبة ـ الأم إلى الدبة الصغيرة ، وقالت : كان عليك أن لا تبتعدي عن أمك ، وتخرجي إلى العراء ، في مثل هذا الجو .
فرفعت الدبة الصغيرة عينيها الحزينتين إليها ، وقالت : لم أبتعد عن ماما ، كنت معها حين نزلت إلى البحر ، لتأتيني بسمكة ، لكنها لم تخرج .
ولاذت الدبة ـ الأم بالصمت ، وقد تراءى لها الحوت القاتل ، يجوب المياه في الجوار ، متخللاً قطع الثلج المتشققة ، الطافية على سطح البحر ، ثم مدت يديها ، وضمت الدبة الصغيرة إلى صدرها ، وقالت : لا عليك يا صغيرتي ، ستبقين في الكهف عندنا ، ومن يدري ، فقد تعود أمك غداً .

" 2 "
ــــــــــــــــــــ
لم تعد أم الدبة الصغيرة ، لا في الغد ، ولا فيما بعد الغد ، ولبثت الصغيرة في الكهف الجليدي ، مع الدبة ـ الأم وابنيها الصغيرين ، ورغم مرور الأيام ، إلا أن الصغيرة ، ظلت تنتظر أمها ، على أمل أن تعود في يوم من الأيام .
وخفّ أنين العاصفة في الخارج شيئاً فشيئاً ، لكنها لم تهدأ تماماً ، وأطلت الشمس على استحياء من بين الغيوم ، وأرسلت أشعتها الدافئة ، فوق تلك الأصقاع البعيدة الباردة ، وأطلت الدبة الأم ، ذات صباح ، من مدخل الكهف الجليدي ، وقالت : لابد أنكم جائعون ، ابقوا هنا ، سأذهب وآتيكم بشيء من الطعام .
صاح الأول : ماما ، أريد طيراً بحرياً .
وصاح الثاني : وأنا أريد سمكة .
وابتسمت الدبة ـ الأم ، وقالت : وأنت يا صغيرتي ، ماذا تريدين ؟
فردت الصغيرة بصوت لا يكاد يسمع : أي شيء .
وضحكت الدبة ـ الأم ، وقالت : مهما يكن ، ابقوا داخل الكهف ، حتى أعود .
وانطلقت الدبة ـ الأم على عجل ، لعلها تحضر للصغار ما أرادوه ، وتعود مسرعة إلى الكهف ، فهي تخاف ـ إن تأخرت ـ أن يخرج الصغلر الثلاثة إلى العراء ، فيتعرضون في غيابها إلى ما لا تحمد عقباه ،خاصة وأن الذئاب الجائعة ، لابد أنها تجوب في الجوار ، باحثة عما تأكله ، وتسد به جوعها .
والدبة ـ الأم كانت محقة في تخوفها ، فهي تعرف صغيريها ، وخاصة الأول ، وهو لا يتردد في عمل أي شيء في غيابها ، مهما كان خطراً .
وما لم تتوقعه الدبة ـ الأم ، أن تتعرض الصغيرة إلى مضايقة من الصغيرين ، فما كادت تبتعد عن الكهف الثلجي ، ويتلاشى وقع أقدامها على الأرض المتجمدة ، حتى نظر الأول إلى الصغيرة ، وقال متأففاً : يا للبلوى ، ترى من أين جاءتنا هذه الدبة ؟
وأيده الصغير الثاني ، وقال : ليت أمها تعود بسرعة ، وتخلصنا منها .
وقال الأول : هذا إذا عادت .
ثم نظر إلى الصغيرة ، وقال : لماذا لا تذهبين ، وتبحثين عن أمك ؟
ونظرت الصغيرة إليه مترددة ، خائفة ، ولم ترد بكلمة واحدة ، فتقدم منها ، وصاح بها : أمي لي ، ولا أريد أن يشاركني فيها أحد .
ودمعت عينا الصغيرة ، وقالت : إنها أمك ، وأنا لا أريد أن أشاركك فيها .
لكن الدب لم يتوقف ، بل صاح بانفعال : أنت تشاركينني فيها مادمت هنا ، أخرجي ، أخرجي .
وأجهشت الصغيرة بالبكاء ، فتقدم الثاني ، وأبعد الأول قليلاً ، وقال : دعها الآن ، ستغضب ماما منك ، إذا أخرجتها هكذا .
فتراجع الأول ، وهو يصيح : لم أعد أطيقها ، لتخرج ، ولتذهب حيث تشاء .
وهنا أقبلت الدبة الأم ، حاملة سمكة كبيرة ، ونظرت إليهم ، وربما خمنت ما يجري ، فقالت : جئتكم بسمكة كبيرة ، ستشبعكم جميعاً .
ونظر الأول إلى أمه ، وقال محتجاً : لم أرد سمكة ، بل طائراً بحرياً .
فقالت الدبة ـ الأم ، وهي تضع السمكة أمامهم على الأرض : كل شيئاً من السمكة الآن ، وسآتيك بطير البحر فيما بعد .
وأشاح الأول وجهه عن السمكة ، وانزوى جانباً ، وقال بحدة : كلا ، لن آكل .

" 3 "
ــــــــــــــــــ
هدأت العاصفة تماماً بعد أيام ، وسطعت الشمس في السماء ، وأشاعت شيئاً من الدفء ، في تلك الأصقاع المتجمدة ، حتى راحت الثلوج تذوب ، وبدأ الجليد الذي يغطي سطح البحر ، يتشقق إلى قطع ، وأخذت تتحرك بفعل الريح والتيارات المائية ، وتتباعد .
وأطلت الدبة ـ الأم ، ذات يوم ، من مدخل الكهف ، وتلفتت متطلعة حولها ، وقالت فرحة : الشمس مشرقة اليوم ، لنخرج ، ونتجول بعض الوقت .
هلل الصغيران ، وبدا الفرح واللهفة على الصغيرة ، رغم التزامها بالصمت، فنظرت الدبة مبتسمة إليها ، وقالت : تعالي معنا أنتِ أيضاً .
وتهللت قسمات الصغيرة بالفرح ، وقالت : أشكركِ ، هذا ما تمنيته ، أشكركِ .
وهمّ الأول أن يحتجّ على هذا ، فرمقته أمه بنظرة معاتبة حازمة ، فأسرع إلى الخارج ، وهو يقول : أريد طيراً بحرياً إذن .
وردت الدبة ـ الأم قائلة : ليس اليوم .
وتبعه الثاني فرحاً ، فقالت الدبة ـ الأم للصغيرة : هيا لنلحق بهما .
وأسرعت الصغيرة ، تلحق بالصغيرين ، وخرجت الأم في أثرهم ، وراحت تتابع الصغار الثلاثة ، وهم يتراكضون على الأرض ، التي راح الجليد يذوب عنها شيئاً فشيئاً .
وتوقف الأول ، ناظراً إلى المرتفعات الصخرية ، وطيور البحر تحلق على مقربة منها ، حيث أعشاشها وبيضها ، فالتفت إلى أمه ، وصاح : ماما ، أنظري ، طيور البحر .
فردت الدبة ـ الأم ، دون أن تنظر ، أو تتوقف : قلت لك ليس اليوم ، لنذهب أولاً إلى الغابة .
واحتج الأول كعادته قائلاً : ماما .
وبدل أن ترد عليه الدبة ـ الأم ، أشارت هذه المرة إلى فقمة تتمدد تحت أشعة الشمس ، على مسافة منهما ، وقالت : انظروا ، هناك فقمة .
ونظر الصغار الثلاثة ، حيث أشارت الدبة ـ الأم ، وإذا فقمة ، تستلقي متدفئة بأشعة الشمس ، ولكن ما إن ركضوا نحوها ، حتى هبت من مكانها ، واندست في حفرة قريبة منها ، يترجرج فيها الماء ، وغابت في أعماق البحر .
وتوقف الصغار الثلاثة حول الحفرة ، يحملقون في الأعماق ، وحين وصلتهم الدبة ـ الأم ، صاح الثاني : ماما ، نزلت هنا .
وصاح الأول : الحقي بها ، وامسكيها ، يا ماما .
ونظرت الدبة ـ الأم إلى أعماق الحفرة ، وقالت : لا ، هذا مستحيل ، لقد ابتعدت الآن كثيراً في أعماق البحر ، ولا يمكن اللحاق بها .
وسارت الدبة ـ الأم ، متوجهة نحو الغابة القريبة ، وهي تقول : الوقت يمضي ، لنسرع إلى الغابة ، لا أريد أن نتأخر ، فالجو مازال بارداً .
وخيل إليها أنها تسمعهم يسيرون وراءها ، حتى إنها سمعت الأول يدمدم متذمراً : لا طير بحري ولا فقمة ، سنكتفي اليوم بأكل الجذور والحشرات .
وكتمت الأم ضحكتها ، لكنها واصلت سيرها ، دون أن تلتفت إليه ، وحين دخلوا الغابة ، وقطعوا فيها مسافة قليلة ، توقفت الدبة ـ الأم ، ونظرت إلى صغارها ، وقالت : لنتوقف هنا ، ونبحث عن ..
وتوقفت عن الكلام ، وقالت : لا أرى الصغيرة معكما ، أين هي ؟
وتلفت الثاني حوله ، ثم قال : لم أنتبه إليها ، أخشى أن تكون قد مضت بعيداً .
وقال الأول بصوت خافت : هذا ما أتمناه .
وقالت الأم بنبرة مؤنبة : بنيّ .
فردّ قائلاً إنها ليست منّا ، فلتذهب حيث تشاء .
وهزت الدبة ـ الأم رأسها ، وقفلت عائدة ، وهي تقول : لنعد ، لعلنا نلقاها في الطريق .
وحثت الدبة ـ الأم الخطى ، يتبعها الثاني ، وفي المؤخرة سار الأول مقطباً ، لا ينبس بكلمة واحدة ، وعند مشارف الغابة ، لاحت الصغيرة قادمة ، وهي تضم شيئاً إلى صدرها .
ورأتها الدبة ـ الأم ، فتوقفت وتنهدت بارتياح ، لكنها لم تقل شيئاً ، ولمحها الثاني ، فأشار إليها بيده ، وقال : ماما ، تلك هي قادمة .
ونظر الأول إلى أمه ، وقال : لو كنت مكانك ، لعاقبتها على فعلتها الحمقاء هذه .
وقالت الدبة ـ الأم : لننظر أولاً أين كانت .
واقتربت الصغيرة منهم ، وفتحت كفيها ، وإذا فيهما ثلاث بيضات ، ونسي الأول نفسه ، واقترب منها محدقاً في البيضات الثلاث ، وقال : بيض طيور البحر .
وقدمت الصغيرة له البيضات الثلاث ، وقالت : أردتُ أن أصطاد لك طيراً ، لكني لم أستطع ، فجئتك بهذه البيضات الثلاث .

" 4 "
ـــــــــــــــــــ
في الكهف ، التهم الأول البيضات الثلاث ، الواحدة بعد الأخرى ، دون أن يفكر في تقديم واحدة لأمه أو لأخيه ، ما أضحك الدبة ـ الأم ، وجعلها تقول له : يبدو أنها وجبة لذيذة .
وردّ الأول متلذذاً : ألذ وجبة أكلتها منذ فترة طويلة .
وقالت الدبة ـ الأم مازحة: لا أظنها أطيب مما أقدمه لك ، يا صغيري .
ورمق الصغير الصغيرة بنظرة خاطفة ، وهمهم محرجاً ، فضحكت الدبة ـ الأم ، وقالت : على الأقل ، قل لها أشكركِ .
ورمقها الأول ثانية ، وقال : أشكركِ .
وكما بدأ الجليد يذوب ، تحت أشعة شمس الربيع الدافئة ، راح الجليد بين الأول والصغيرة يذوب هو الآخر ، بل تفتحت بدله نباتات وأزهار من الألفة والانسجام .
ومع الأيام ، أخذ الصغار الثلاثة ، يقضون معظم وقتهم معاً ، يلهون ، ويتسابقون ، ويبحثون عما يؤكل في الغابة ، وحتى في المياه الضحلة ، القريبة من الشاطىء ، يصطادون الأسماك الصغيرة .
ولاحظت الدبة ـ الأم ، أن صغيريها كلما اصطاد أحدهما سمكة ، قدمها للصغيرة فرحاً ، فتـأخذها وتأكلها ضاحكة فرحة ، فتفرح لفرحهم وتآلفهم .
ويوماً بعد يوم ، بدأ الصغار الثلاثة ، يبتعدون عن الدبة ـ الأم ، يلهون أو يبحثون عن الطعام ، والأم مطمئنة ، لكنها مع ذلك كانت تتفقدهم ، وبين حين وآخر ، تراقبهم خلسة من بعيد ، ولم تنسَ أن تحذرهم من قطع الجليد المتشققة ، التي تتلاعب بها التيارات البحرية .
وكأي صغار ، كانت تغريهم المغامرات ، حتى الخطرة منها ، فكانوا يتقافزون فوق قطع الجليد المتكسرة ، أو يركضون فوق الجليد ، الذي يشف تحته الماء ، وتكسّر الجليد أحياناً تحت ثقل أجسامهن أكثر من مرة، فيتهاوون ضاحكين في ماء البحر ، لكنهم سرعان ما يسبحون متخبطين ، ويصعدون إلى الأرض الجليدية .
وذات مرة ، وقف الأول فوق قطعة صغيرة من الجليد ، المتراقصة فوق الماء ، ونظر إلى البعيد ، حيث تمتد مياه البحر حتى الأفق ، وقال بصوت حالم : ليتني أسافر على قطعة الجليد هذه .
وتساءل الثاني ضاحكاً : إلى أين ؟
ورد الأول بنفس الصوت الحالم : لا يهم إلى أين ، المهم أن أسافر .
ونظرت الصغيرة إليه ، وقالت : خذني معك .
ونظر الأول إليها متسائلاً ، فقالت : لا يهم إلى أين .. مادتُ معك .
ونظر الثاني إليها ، فأطرقت محرجة ، ولاذ الأول بالصمت ، وقد أخذت قطعة الجليد تبتعد به ، فصاح الثاني محذراً : أيها الأحمق ، انتبه ، ستأخذك قطعة الجليد بعيداً .
وعلى الفور ، وكمن أفاق من حلم ، قفز الأول عن قطعة الجليد الطافية ، وسبح مقترباً من الشاطىء ، فمدت الصغيرة يديها إليه ، وسحبته من الماء .

" 5 "
ـــــــــــــــــــ
على غير العادة ، خرج الصغار الثلاثة اليوم ، وبقيت الدبة ـ الأم وحدها في الكهف ، لكنها لم تنسَ ، وهي تودعهم عند المدخل ، أن تهتف بهم : أيها الصغار ، انتبهوا جيداً ، ولا تتأخروا .
وما إن ابتعدوا ، حتى راحوا يتراكضون ، ويحاول أحدهم أن يسبق الآخر ، وككل مرة سبقتهم الصغيرة ، وتوقفت تنتظرهم على مشارف الغابة .
وعلى مقربة منها ، توقف الصغيران لاهثين ، قال الثاني : سبقتِنا مرة أخرى ، ليتني أعرف ما السرّ .
وضحك الأول ، وقال متوعداً : مهلاً ، سأسبقك يوماً ، ولن يكون ذلك اليوم بعيداً .
وابتسمت الصغيرة ، وقالت : لن يأتي ذلك اليوم .
وسار الثاني ، وهو يقول : لندخل الغابة .
وسار الأول في أثره ، وقال : نعم ، لعلنا نحصل على بعض الطعام لماما .
وتوقفا حين لاحظا أن الصغيرة ، ظلت واقفة في مكانها ، فقال الأول : لا تقولي ، إنني لم أتعب .
فردت الصغيرة قائلة : سأجلس قليلاً على الشاطىء ، ثم أعود إلى الكهف .
ونظر الثاني إليها متسائلاً ، فقالت الصغيرة : لا أريد أن أترك الأم وحدها .
استأنف الصغيران سيرهما ، وتجولا في الغابة ، وبعد أن جمعا شيئاً من الطعام ، قفلا عائدين إلى الكهف ، وفوجئا بأمهما تحدق فيهما قلقة وتقول : عجباً ، لا أرى الصغيرة معكما ، أين هي ؟
ونظر الصغيران أحدهما إلى الآخر مندهشين ، وقال الثاني : لم تدخل الغابة معنا .
وقال الأول : قالت إنها لا تريد أن تتركك وحدك ، وعادت قبلنا إلى الكهف .
قالت الدبة ـ الأم بحيرة : لم تعد .
وعلى الفور استدار الأول، ومضى مسرعاً إلى الخارج ، وهو يقول : سأعود بها حالاً .
ونظر الثاني إلى أمه ، نظرة مذنبة منكسرة ، فقالت بصوت يشوبه القلق : كان عليكما أن لا تتركاها وحدها ، إنها تتهور أحياناً .
وطوال الطريق ، من الكهف حتى مشارف الغابة ، ظل الأول يهرول متلفتاً حوله ، لعله يقع لها على أثر ، لكن دون جدوى .
وقفل عائداً على امتداد الشاطىء ، ولاحظ أن قطعة ليست صغيرة قد انفصلت عن الجليد ، أيعقل هذا ؟ لعل المجنونة كانت فوق تلك القطة ، حين انكسرت ، وجرفها تيار البحر بعيداً .
ورفع رأسه ، وراح ينظر إلى البعيد ، مستبعداً أن يراها ، لكن .. ويا للعجب ، رآها من بعيد تلوح له ، وهي واقفة فوق قطعة جليد طافية ، وبدون تردد ، أو تفكير ، ألقى نفسه في البحر ، وراح يسبح نحوها ، ولما رأته يتخبط وسط الماء ، أدركت ما يريده ، فألقت نفسها هي الأخرى في البحر ، وراحت تتخبط ، وهي تحاول أن تشق الماء إليه ، وغاصا معاً تحت الماء و ..
وأفاقا بعد حين ، وإذا هما في الكهف ، وإلى جانبهما يقف الثاني والدبة ـ الأم ، ونظر الأول إلى أمه مذهولاً ، وقال : ماما .. !
ومال عليه الثاني ، وقال : كان لدينا في الكهف مجنون واحد ، وها قد صار لنا مجنونان .
وتساءل الأول : أين نحن ؟
فقالت الدبة ـ الأم : اطمئن ، أنتما معنا في الكهف .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لحقنا بك ، أنا وأخوك ، بعد أن خرجت من الكهف ، وحين رأيتكما تتخبطان وسط البحر ، وتغوصان إلى الأعماق أسرعت إليكما ، وانتشلتكما من بين الأمواج .

3 / 1 / 2015

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي