أهمية الثقافة في حياة الأمم (من كتاب لمحات في الثقافة الإسلامية)

حسام الدين فياض
2024 / 3 / 5

” إن أهمية الثقافة تكمن في بناء شخصيات أفراد المجتمع وتنمية وتقوية قدراتهم الشخصية من خلال تحفيز الخيال والإبداع، مما يزيد من معدلات قدراتهم الاجتماعية في التفاهم والتكيف مع مختلف الحضارات، مع دعم الجوانب المعرفية والعاطفية والإنسانية التي تزيد من قيمة الفرد المجتمعية وفقاً لمرتكزات الرؤية المجتمعية التي تذكر دوماً بأهمية المواطن في دفع عجلة الإنجاز للوصول لمجتمع حيوي قوي الجذور متين البنيان يستند على قيم الإسلام المعتدل والانتماء والاعتزاز بالثقافة والتراث الوطني “.
ففي حياة كل أمة مفاهيم أساسية تحرص عليها، وتعمل على ترسيخها، وتعميق إدراكها في شؤونها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ذلك من أمور الحياة، وتسعى سعياً حقيقياً دائباً على أن تكون مفاهيمها واضحة الدلالة في ذاتها، مراعية الجانب لدى أبنائها، واسعة الانتشار والتداول لدى غيرها، وتتخذ لتحقيق ذلك وسائل شتى: فتؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتقوم بالدراسات، وتصدر النشرات، وتضع مناهج التربية والتعليم، وتستخدم (بوجه عام) كل وسائل الإعلام والتوجيه لتوضيح هذه المفاهيم وشرحها، وبيان أسسها وخصائصها، وتفصيل وجوه النفع فيها.
وفي المجتمعات المعاصرة نجد أن أكثر ما تهتم به النخب الفكرية والثقافية المؤمنة بمفاهيم مجتمعها، الساعية لنشرها، هو نقلها من الحيز النظري المجرد إلى الواقع البشري الحي، ووصل حياة الناس بها، بحيث تكون مصدر فكرهم وشعورهم، وطابع سلوكهم، وسمة حياتهم العملية. ومن هنا يخرج مدلول الثقافة عن قصد المعرفة المجردة إلى المعرفة الهادفة. أو بتعبير آخر: عن المعرفة الساكنة التي لا تتجاوز حدود العمل الذهني، إلى المعرفة المحركة التي تحدث تفاعل موجه واضح التأثير مع تطلعات الفرد والجماعة.
وإذا كان لا بد لهذه المفاهيم الأساسية من مرتكزات منطقية وأصول علمية، فإن الأمم التي تعوزها هذه المرتكزات والأصول لمفاهيمها (الثقافة العلمية)، تحاول أن تعوض هذا النقص الخطير باتخاذ أسلوب الافتراض والتخمين. وقد تلجأ أحياناً إلى ضروب من المغالطات الخفية، والمرتكزات الوهمية حين تنعدم لديها الحقائق الأصلية، وتفقد قواعد اليقين العلمي الراسخ، وتحاول أن تحيط مفاهيمها الناقصة التي لا تستند إلى أدلة مقبولة بهالةٍ من التمجيد والتزيين لكي تلفت الأنظار إليها، فترمقها مبهورة بظواهرها.
ولا يشهد التاريخ الإنساني في الماضي أو الحاضر أن أمة ما أهملت عن قصد في نشر ثقافتها، أو تركتها تذوب في ثقافة غيرها، أو تتلاشى في عقول أبنائها، لتحل محلها ثقافات أخرى طارئة غريبة، ذلك أن الثقافة في حقيقتها هي الصورة الحية للأمة، فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادؤها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار، فإذا اهتزت هذه الصورة، أو اضطربت ملامحها، أو طمسها الركام المتكاثف فوقها، لم يكن للأمة شخصية تميزها، أو سمات تنفرد بها، بل تصبح تبعاً لغيرها، حتى تنتهي إلى الاضمحلال، وتؤول إلى الزوال، وتلك هي الكارثة التي تخشى كل أمة حية أن تحل بها، فتمحق وجودها، وتطمس حياتها.
- الثقافة في حالة تغير نسبي (مقاربة طبيعية): في هذا السياق يُنظر إلى شأن الثقافة في حياة المجتمعات الإنسانية من خلال أحوالها المعتادة المألوفة، وسيرها مع حركة الحياة في خطاها الرتيبة كمتعلقة طبيعية، مثل شأن الجو الطبيعي في صفاء سمائه، وإشراق شمسه، وحركة الرياح فيه، ومستوى درجة حرارته، وفق الفصل الذي يكون. غير أن الأحوال المعتادة لا تبقى دائماً في نطاق المألوف، بل تتعرض في مناسبات ملحوظة أو غير ملحوظة إلى التغير، وقد يبلغ هذا التغير درجة لا يبقى معها من المعتاد المألوف شيء، فتتبدل الأوضاع وتأتي على صورة جديدة غير متوقعة أو معروفة.
وهنا تصبح خطى الحياة الرتيبة خطى متسارعة منتظمة، أو قلقة مضطربة لا توازن فيها ولا انتظام. وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً في الذهن لتجلية هذه الحقيقة عن أثر الثقافة وخطرها في حياة الأمة حين تكون في غير الجو المعتاد، والمناخ المألوف: أو في ما يمكن أن نطلق عليه حالة التغيرات العاصفة، فإن علينا أن نتصور هبوب ريح عاتية، وانتشار سحب كثيفة، تتلبد معها السماء، وتحتجب الشمس، وتنهمر الأمطار قوية غزيرة، فتشكل سيلاً رابياً قد يتحول إلى فيضان شديد في فصل ليس مألوفاً فيه أن يقع مثل هذا التغير الكلي الذي يحمل الإنسان على أن يسائل نفسه عن الفصل الذي يعيش فيه بسبب اختلاف ما يرى، وتنافيه تنافياً تاماً عن طبيعة المناخ المألوف لديه.
في ضوء هذه المقاربة يمكن أن نلاحظ التشابه بين الثقافة والمناخ، وأثرهما على الأمة من حيث الجو الطبيعي والإلف المعتاد في سير الحياة وفق الخطى الرتيبة المعروفة، وما يعرض للثقافة والمناخ معاً من تغير وتبدل، وغيبة للمألوف، عندما تختفي رتابة الحركة وتفقد الاتزان والتناسق والانسجام. ولا يكاد هذا التشابه بين الثقافة والمناخ يختلف إلا في الأمور التالية:
- عودة المناخ بعد التغير إلى حالته الطبيعية المألوفة، فيتلاشى الضباب، وتهدأ الريح وتشرق الشمس، ويغيض ماء الفيضان، وليس الأمر كذلك في الثقافة، فلا بد من أن يترك التغيير آثاره العميقة التي يطول مكثها، وقد يعسر التغلب عليها. ولا شك في أن ضباب الفكر وانحرافاته لا يمكن أن يتلاشى سريعاً من سماء الثقافة، وكذلك الحال في عصف التيارات الغريبة الوافدة، وما يترافق معها من طوفان الانحراف، وما تخلفه من رواسب آسنة مؤذية في مفاهيم الأمة وأخلاقها وطابع حياتها.
- تستطيع الأمة أن تعالج على المدى القريب أو البعيد آثار الكوارث الطبيعية مهما كانت شديدة ثقيلة، فهي تعمل وتبذل وتبادر إلى بناء ما تهدم، وإصلاح ما فسد، وبث الحركة فيما أصابه العطب. وتقوى إذا حدث وصبرت على إزالة جميع الآثار الضارة وطمس الرواسب المؤذية.
وليس الأمر في الثقافة على هذا النحو تماماً، فإن بناء ما تصدع، وإصلاح ما فسد، وتحريك ما توقف، وبث روح الحركة السوية المتزنة في الحياة الفكرية والاجتماعية بعد التغير الناجم عن الحركة القلقة الملتوية المضطربة. إن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير وبذل سخي وعمل متواصل. ولا بد أن يفوق - أضعافاً مضاعفة - جهد الأمة وبذلها وعملها وكل ما تنفقه من أجل التغلب على نتائج أشد كوارث الطبيعة وأضخمها وأعنفها.
- وليس من شك في أن قدرة الأمة على ذلك محفوفة بكثير من الصعاب، بسبب عمق القضايا المعنوية وتعقدها، ووفرة ما تتصل به من شؤون وأوضاع، وهي كلها شؤون حيوية، وأوضاع أساسية، يعد إهمال أمرها كارثة كبيرة، كما يؤدي خطأ علاجها، في أي جانب أساسي من جوانبها مدعاةً إلى سلسة أطول من الأخطاء، ثم إن المسافة شاسعة جداً بين علاج المشكلات المادية والمشكلات المعنوية من حيث كنهها الذاتي، وطبيعة كل منها وخصائصها المتمايزة، ومن حيث إمكان الإصلاح ويسره وطواعيته ثم مدى بلوغ نتائجه.
إزاء هذا لا بد من الإلحاح على بيان خطر الثقافة في حياة الأمم، وأثرها البالغ في وجودها، ولا مناص لأي باحث يتصدى لعلاج هذه القضايا من أن يحاول - أقصى ما وسعه الجهد وبكل وسيلة ميسورة لديه - إثارة الإحساس بهذه القضية، ودفعها إلى بؤرة التوتر الذهني والطاقة العملية، حتى لا يكون وعي القضية الثقافية، والتصدي لعلاج مشكلاتها دون مستوى ما ينبغي لها - على مختلف فئات المجتمع - من تعمق في الفهم، واستيعاب للقضية، وإحاطة بمشكلاتها، وجدٍّ في علاجها، وبحث عن الخطة المثلى في حلها.
وإذا حاولنا أن نتجاوز الإطار العام الذي يصدق على أمم شتى، وأن نضع قضية ثقافتنا في ميزان التحليل، وفق ما سلف لنخرج بتقويم دقيق صحيح، فإنه لا غنى لنا عن الإشارة إلى ملاحظة مهمة ينبغي أن توضع في موضعها الصحيح وهي: إن الهروب من المشكلات لا ينفي وقوعها، ثم إن محاولة العزلة لا يقضي أبداً تسرب هذه التيارات إلينا، بل إن العزلة نفسها ليست ممكنة في هذا العصر، والذي تلاقت الأمم فيه بوسائل كثيرة من الاتصال وبالأخص في عصر التطورات التكنولوجية المذهلة، والذي أصبحت التيارات الثقافية فيه كالتيارات الهوائية على حد سواء، أضف إلى ذلك أن هذا العصر قد فرض علينا أن نتلاقى مع غيرنا من الأمم والشعوب في عدد من ساحات العمل المشترك بتأثير مقتضيات دولية وإنسانية وشؤون حيوية كبرى تخص وجودنا وقضيانا نفسها. ثم إن فترة الانطواء التي جرت في البلدان العربية والإسلامية حقبة قصيرة من الزمن لم تكن فترة خصب وازدهار، وإن كانت فترة تماسك وصمود، لا يوصف بالقوة والحركة إن لم يوسم بالضعف والجمود، ولكن لم يكن ينتظر لها أن تستمر وتطول، إزاء حدة ما يحيط بها من عواصف عاتية وتيارات شديدة.
بمعنى آخر، إن الفترة التي تعايشها تلك البلدان بعيدة عن الحضارة المعاصرة بخيرها وشرها، زاهدة في مرافقها وأساليبها، منطوية على نفسها. إن هذه الفترة تتسم بأنها مضطربة، مهددة بالغزو الحضاري والثقافي من الخارج، وموجات هذه المدينة العاتية التي تتغلغل إلى الجذور والأعماق، وتذهب بالقيم والمفاهيم ومبادئ الأخلاق. إلا أنه بالمقابل يشك كل عاقل في بقاء هذه البلدان في سلخها وحصارها المدني والثقافي والاجتماعي، ويشك أيضاً في بقاء هذا الوضع على ما هو عليه واستمراره، إذ لا بد من ثورة ثقافية شاملة تُخرج تلك المجتمعات من سبات التخلف، والجهل، والتبعية.
---------------------------------
- المراجع المعتمدة:
- عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1979.
- ريماز بكري، مسار جازان: الثقافة والفن كلغة استثنائية تعبر بها عن ذاتك، موقع مكان مسك، الرياض، بدون تاريخ. اختصار الرابط: https://n9.cl/9klgs

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي