|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2024 / 2 / 28
الوجود جميل. فيه غذاء وإشباع ونشوة، وعزة ومجد وكبرياء. حياة نستمتع ونستلذ بها، نتشبث بها بكل قوانا وحتى الرمق الأخير. مع ذلك، هي تبقى حياة ناقصة، غير كاملة، فانية وزائلة. الوجود كذلك، مثل حياة البشر، مشوب بالعوار. هو ليس دائماً مغذي وجميل؛ أحياناً موحش ومُهلك بلا أي رحمة.
لو كان مُوجد الوجود- ومن ضمنه الإنسان- كامل لا يشوبه نقصان، خير مطلق، كيف خلق هذا الكامل خليقة يشوبها عوار ونقصان؟ من أين تَسَّرب الشر إلى صنيعة الخير المطلق؟ هل كان العليم المطلق على علم بكونه يخلق خلقاً رغم كل جماله لكنه يبقى معيباً؟ وكيف يَصْدق، منطقياً، أن كاملاً يصنع ناقصاً؟ هل سيبقى عندئذٍ كاملاً، حتى لو كان على علم بذلك وقد فعله متعمداً وعن قصد لا يعلمه إلا هو؟! الكمال انعدام النقص. والخلود انعدام الفناء. ليس في الفعل فقط، إنما في الفعل والإرادة معاً. كيف يصنع الكامل والخالد ما فيه نقص وفناء، أو مجرد يريد له هكذا أن يكون؟! من أين للكامل أن يعرف النقص، أو الخالد أن يعرف الفناء، حتى يريدهما أو يُضَمِّنهما في مخلوقاته؟!
من منظور آخر، الله كامل وخير مطلق، لا تشوبه شائبة نقصان أو شر. ما نحسبه فناء ليس كذلك حقيقة. لأن الله كامل، لابد أن تكون خليقته كاملة مثله؛ ولأنه خالد، لابد أن تكون كذلك مثله خالده. في الحقيقة، ما نراه في الوجود من نقصان، وفينا من الشر، ليس مرده إلى كُنه الوجود، أو كُنهنا نحن أنفسنا. الله لم يصنع نقصان، ولا شر. ما نراه من نقصان وشر في كوننا القائم وحياتنا الراهنة مرده إلى أننا نحسب خطئاً أن هذه الحياة هي الحقيقية. لكنها، في الواقع، ليست كذلك. هي مجرد سيرورة زائلة واختبار وجيز. الوجود والحياة الحقيقية ليست هذه الماثلة الآن، بل هي في الآخرة. هناك، الإنسان خالد وليس كما يرى نفسه الآن فانياً. لذلك، هو في هذه الحياة لا يموت بمعنى ينعدم، بل هي سيرورة وتحول وصولاً إلى الخلود في ملكوت الكمال المطلق- جنة الفردوس الأعلى.
لكن، حتى لو كان كذلك، أن هذا الوجود مجرد صورة أولية، زائلة، متناهية الضآلة من الوجود الحقيقي، السرمدي، المنتظر، يبقى أن هذا الاختبار لابد له من واضع؟ وما يصدق على الوجود الكامل لا يزال يصدق أيضاً على جزء ضئيل منه، من جنسه، بغرض الامتحان. من أين علم العليم المطلق بالنقصان حتى يصنع نسخة تجريبية ناقصة في صورة وجود زائل من الوجود الكامل الذي سنعرفه بعدما ننتقل إلى رحمته؟!
وقد عثر العقل الديني له عن مخرج في قوى حتى لو كانت من صنع يد الله نفسه، إلا أنها قد اختارت بمحض إرادتها أن تعصاه. وهي ذاتها منبت الغواية والشر، ومهالك الطبيعة، في حياة البشر. هي جزء أصيل من هذه الحياة الناقصة التجريبية، لكي يفوز من ينجح في مقاومة غوايتها بالنعيم والخلود الأبدي في الحياة الحقيقية الآخرة. رغم ذلك، يبقي السؤال هو نفسه رغم تبدل موضوعاته: من أين علم العليم المطلق بالنقصان حتى يصنع قوى آثمة بهدف محدد هو امتحان إيمان الإنسان؟
من منظور مقابل، كل ما سبق لغط دون مضمون ذي صلة، متاهة لفظية من منشآت ذهنية وجودها وعلتها الحقيقية في رموز اللغة من دون وجود، أو معنى، حقيقي في العالم الواقع. إذا كان الكامل لا يعرف النقصان، أو هكذا ينبغي له أن يكون، كيف لناقص أن يعرف الكمال حتى يتصوره؟ وحتى لو اقتصر الحديث على الصفات لا الكينونة، أليست صفات الكامل كاملة مثله بالضرورة؟ كيف لناقص ذو صفات ناقصة مثله أن يعلم بصفات الكمال الإلهي لكي يتحدث عنها بأي شكل من الحديث ذو الصلة والمضمون؟
بخلاف ما سبق، الوجود الناقص، ومن ضمنه الإنسان، ليس به مكان للكمال، في المعرفة أو غيرها. ما نعرفه عن كُنه الوجود، ومن ضمنه الإنسان، ليس لأننا نعرف له واجد مطلق في الزمان والمكان. بل ما نعرفه من الوجود هو ما يوجد منه فقط في وعينا به من خلال حواسنا في معرفة متراكمة بالخبرة المتوارثة عبر ملايين السنين. بتعبير آخر، من دون هذه الحواس وما قد راكمته فينا من ذخيرة معرفية واعية، ما كان الوجود موجوداً لنا كما نعتقده الآن، أو كما نتخيله قبل ملايين السنين، أو كما قد نتمناه في جنة الخلد بعد مليارات السنين. وهل يعني ذلك أن الوجود لا يعدو سوى أن يكون ظاهرة ذهنية، في وعي الإنسان، من دون وجود محسوس، مادي، وموضوعي بمعزل عنا، قائم بذاته حتى من قبل هبوطنا إليه وبعد زوالنا منه؟
حتى لو كان الوجود، بما فيه الإنسان، له واجد، وكان هذا الوجود موجود فعلياً بمعزل واستقلالية تامة عن وجودنا فيه من عدمه، يبقى أن أي معرفة بشرية به لا تزال مشروطة بالكينونة البشرية الآنية في هذا الوجود المشوب بالنقصان والزوال. في قول أخير، في هذا العالم أو أي عالم آخر يمكن أن يصل إليه خيال الإنسان، يستحيل أن يوجد مكان للمطلق- خير أو شر، آلهة أو شياطين. بل ستظل العلاقة دائماً وأبداً شرطية وعلائقية بين كينونتين ناقصتين- الكون والإنسان- حيث يستحيل تصور وجود أي منهما من دون وجود الآخر. لا يوجد وجود من دون إنسان، ولا يوجد إنسان من دون وجود.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |