|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
مهند طلال الاخرس
2024 / 2 / 24
في المخيم وما ان تمشي خطواتي بحواريه وتطوف جنباته تحضرني على عجل مقولة درويش "ليس الحنين ذكرى بل هو ما يُنتقى من متحف الذاكرة!" وكأن في ذاكرتي مساحة مطوبة لشوارع المخيم؛ فما ان اسير في زقاقه وحواريه حتى يقرع جرس انذار يقض مضاجع الذكريات ويستحثها على النهوض من جديد..
مع الايام اعتدت ذلك الاحساس، واصبحت اغذيه عن عمد، مستعينا بذاكرة الايام وثلة من الاصدقاء من سدنة الحكايات في المخيم ممن طاب لهم السير في الطرقات وحفظ الذكريات.
في شوارع المخيم لديَّ كغيري ما يَكفي من الذكريَات لأكتب حكاية جيلنا وحدي، فما ان اسير فِي شارع يظنهُ الجمِيع فَارِغ، حتى تصحو الذاكرة وتستعيد سيرتها الاولى، ومع صحوتها يغص الشارع بالحكايا والحنين.
في المخيم اصدقاء وجلسات وسهرات وبيوت ومدارس وشوارع واماكن كثيرة تحتضن تفاصيل حياتنا ومعها ذكرياتنا وايام شقائنا وشقاوتنا..فثمة محطات خالدة في متحف الذاكرة تبقى حاضرة وتستفيق كلما هزنا الحنين الى فلسطين...
تلك العادة الاثيرة لدي -السير في حواري المخيم صيفا وشتاء- حافظت عليها حتى ادمنتها، وعلى الرغم من ان شتاء المخيم كان قاسيا وذو برد لاذع عند الكثيرين، ألا اني احببت المخيم في الشتاء اكثر... فشتاء المخيم بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة فيه .
ولا يكاد شارع من شوارع المخيم إلا ويحتضن بين جنباته او على عتباته او جدرانه حكاية او طرفة اصبحت مع الايام ذكرى...
ولم تكن مدارس الوكالة ببعيدة عن هذه الذكريات، وتكاد تكون انشودة سليمان العيسى "فلسطين داري" خير دليل على ذلك!؟
"فلسطينُ داري ودربُ انتصاري
تظلُّ بلادي هوىً في فؤادي
ولحناً أبيا على شفتيا
وجوهٌ غربية بأرضي السلبية
تبيع ثماري وتحتل داري
ويرجع شعبي إلى بيت جدي
وأعرف دربي إلي دفء مهدي
فلسطين داري ودرب انتصاري"
لسنوات خلت كان لهذه الانشودة وقع السحر على اجيال واجيال، ولم يكن لهذا السحر ان يمتد ويستمر لولا ملامسته شغاف القلب، وهذا السحر اصبح قرين الكلمات والحكاية والصورة؛ واي صورة!؟ تلك الصورة المرافقة للقصيدة وتقاسم كلمات القصيدة المشهد، حتى اصبحت تلك الصورة وكأنها جزءا من القصيدة، بل انها غدت تعويذة جيل بأكمله، واصبحت تؤرخ لمسيرة اجيال وتعلقها بفلسطين. اجيال نجح هذا النشيد بطباعة ختمه على مسيرتها وبداية تعلقها بفلسطين...اجيال نجح كتاب المطالعة بطباعة اول الصور البصرية الخالدة في وعيه وذاكرته، تلك الذاكرة البصرية التي احتضنت اول الصور البصرية لتلك الصفحة من كتاب المطالعة، فاقترنت القصيدة وكلماتها بتلك الجموع الفتية الهادرة والهاتفة بكلمات النشيد، الممسكة بسارية العلم بانفة وعز وكبرياء وامل، تذود عن حماه، قابضة على جمر الوعد والعهد، متطلعة الى الغد، والحالمة بمستقبل افضل تبقى فيه فلسطين عنوان الامة والقصيدة معا.
تلك الصورة بما فيها من جموع فتية تتوافد وتتعاقب لحمل العلم وتستظل بظله؛ تحرس الحلم والامل، ويحرس كلاهما القمر... تلك صورة الطفولة الحالمة والممتدة في الصورة حتى اخر المدى حالها كحال النشيد لا يمكن ان تمحى من الذاكرة...
هذا الختم، ختم فلسطين داري ودرب انتصاري الذي ثبت عبر اجيال واجيال بانه لا يصدأ، ولا تُمحى اثار حبره من على طوابع الزمن، مهما اعتلاه من غيب وغبار فهو باق فينا حتى الابد.
وهذا البقاء لنشيد فلسطين داري نابع ومستمد اساسا من كلمات القصيدة نفسها ببساطتها وسلاستها والروح والعنفوان الذي يسري فيها، هذا عداك عن ملائمتها لسن الطفولة ووعيها ، الذي غرست سنواته الاولى بذور هذا النشيد في اجيال امة باكملها...
وللطفولة هنا فضل بحفظ قوام هذا النشيد على امتداد الوطن العربي من الخليج الى المحيط....
فهذه الكلمات ما كانت لتكون كما هي لولا ان من احتضنتها سني العمر الاولى ببرائتها وطهارتها ونقاء سريرتها وعليه نجح هذا النشيد في البقاء خالدا وحاضرا في وعينا حتى اصبح من مستلزمات الذاكرة التي لا تشيخ.
وهذا النشيد ماكان ليبقى بهذا الاثر وذلك الامتداد لولا احتضانه في مقررات كتاب المطالعة والنصوص لطلاب الابتدائي على امتداد الوطن العربي، طبعا دون ان يُنقص ايراده في تلك المقررات المدرسية شيئا من قيمته او فرصته في البقاء التي منحها اياه القدر...
وهذا النشيد ما كان ليبقى وتجري كلماته على الالسن لو ان شاعره لم يُحسن التقاط اللحظة التاريخية المناسبة التي تستدعي استيلاد هذا النشيد...
وهذا النشيد لم يكن ليبقى لو انه نُظم لغير فلسطين...
لكن في مدارس المخيم كان لوقع هذا النشيد طعم ومعنى آخر؛ طعم موشح بسنوات النكبة اولا وبردها ومرارة طعمها ثانيا وثالثا ورابعا... إلا ان معلمي الوكالة [صالح وسالم] جعلوا له مذاقا آخر يختلف عن طعمه ومعناه لدى الاخرين...
كان معلمي الوكالة يتحينوا الفرصة الملائمة لترديده عاليا..وكانوا يتخيروا له فصل الشتاء دائما... كانت حجتهم في ذلك ان يساعد الطلاب على الدفيء شتاء .. لم يكن يطيب لنا ترديده إلا وقوفا...لا تعظيما وانسجاما؛ بل لنتغلب على برد الشتاء الذي ينخر ملابسنا الرثة. كنا نردد النشيد ونحن نهرول مكاننا ونفرك ايدينا ببعضها تارة وباجسادنا تارة اخرى...كان فصل الشتاء قاسيا في مدارس الوكالة المصنوعة من الاسبست والبراكيات والزينكو... في تلك الايام وحدها حاجتنا للدفيء من صنعت من النشيد ذكرى تستحق ان تبقى...ومع الايام لم ننسى النشيد ولا برد الشتاء ولا مرارة النكبة... فصدق من قال:" الاسى ما بينتسى..."
يقول ألكسندر فندت، رائد النظرية الاجتماعية في العلاقات الدولية إنّ 500 سلاح نووي بريطاني لا تقلق الولايات المتحدة، وتقلقها خمسة أسلحة كورية شمالية، لأنّ معنى السلاح وسياقه وفي ايد من يكون، هو الذي يخلق المعنى؛ ليس كمية ونوع السلاح. تماماً مثل أحاديث أولاد المخيمات، وذكرياتهم وأغنياتهم، واوجاعهم اذا استفاقت، يصبح لها معنى آخر تماما.
كثيرا ما فاجئني المخيم كيف يصبح لاحاديثه وذكرياته معنى إذا وضعتها في سياقها، عند هذه النقطة بالذات اصبحت ادرك المعنى تماما لما قاله درويش وخطته ايدي ابناء المخيم على كثير من جدرانه : "حين يبتسم المخيم تعبس المدن الكبيرة".
وبالعودة الى نشيد سليمان العيسى [فلسطين داري ودرب انتصاري] فهو لم يكن ليبقى لولا انه شغل مساحة واسعة في ذاكرة كل مجايليه، ولكل منا اسبابه في ذلك؛ لكن حين تنثال ابواب الحنين بمجرد طرق ابوابها باجمل الكلمات: فلسطين داري ودرب انتصاري... يسرح الواحد منا بباله، ويغمض عينيه، ويذهب بعيدا، ويحلق في الفضاء، ويطوف على السنوات الخوالي وهو يتمتم ويتأوه قائلا: ياه، ثم يعود بعد ان يعرف بحق كم من العمر مضى...ومازالت فلسطين محتلة..
هذه الاه تزداد وتتمدد وتؤرجح الراس يمينا وشمالا حين نرى تلك التجاعيد التي اصبحت تعلوا وجوهنا ووجوه كل جيلنا ...لكنها تزداد وجعا ويتوقف الراس عن التارجح وتصك على الاسنان حين تبتل تلك التجاعيد بدموع الذكريات وتبدل الحال من حال الى حال مع بقاء فلسطين على نفس الحال والمنوال... الى ان غاب النشيد عن صفحات كتب المطالعة واختفى بفعل فاعل ... ورحل صاحبه بعد ان ملأ الدنيا بكلمات نشيده الذي ذاع وانتشر وبقي يملأ صفحات الذاكرة باجمل الكلمات والسنوات...
اختفى النشيد عن ظهر الصفحات وبقي معلقا في صناديق الذاكرة كجرح غائر ينز كلما صاحت فلسطين: اين العرب...
ما يهمنا هنا ان هذا النشيد [فلسطين داري ودرب انتصاري] بقي خالدا وحاضرا وعالقا في الذاكرة الجمعية لجيلنا لسبب او لعدة اسباب ، او لربما ان الامر عائد الى ما يسير في عروق المرء من دماء... إلاّ انه بالنسبة لي بقي خالدا لانه ناب عن الجميع في اعطائي اول درس في السياسة، في حين فشلت كل الدروس الاخرى التي كانت تحاول لجمي ...
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |