دفاعا عن اليسار النّقابي

جيلاني الهمامي
2024 / 2 / 21

دعت القيادة النقابية للاتّحاد مجلس القطاعات والمكتب التنفيذي الموسّع إلى الانعقاد تباعا يومي 10 و11 أفريل 2002 لتدارس الوضع في فلسطين والمفاوضات الاجتماعية المقبلة. وأفصح الأمين العام بهذه المناسبة عن نيّته ورغبته في وضع حدّ لما شهده الاتّحاد في المدّة الأخيرة من أعمال لم تنل رضاه معلنا بذلك تدشين مرحلة جديدة دعا فيها الجميع إلى الانضباط والخضوع إلى القانون مثيرا جدلا هامّا يعكس طبيعة الأوضاع الداخلية التي تستدعي منّا اليوم التّوقّف عندها بالتحليل لفهم تعقيداتها وإدراك أبعادها. وتكتسي تصريحات الأمين العام أثناء هذين الاجتماعين وكذلك ردود بعض الحاضرين أهمّيّة كبيرة تفرض علينا التّذكير بما جاء في هذه التّصريحات والتّعليقات المذكورة.
لقد خصّص الأمين العام في تدخّله عند افتتاح كلا الاجتماعين، حيّزاهامّا ليحلّل أوضاع الاتّحاد وخاصّة التّحرّكات الأخيرة بمناسبة ما يجري في فلسطين المحتلّة من تدمير وتقتيل سافر مركّزا على التّجاوزات التي عمد إليها بعض النقابيين غير عابئين بالقانون وبتقاليد العمل داخل المنظمة النقابية. وتوقّف عند المسيرات التي انطلقت من الاتّحاد والتّجمّعات التي عرفتها ساحته وعند البيان الذي أصدرته مجموعة من القطاعات وأخيرا عند الإضراب القطاعي الذي شنّه أساتذة التعليم الثانوي مساندة للشعب الفلسطيني الشّقيق واحتجاجا على ما حصل من تجاوزات في حقّ الأساتذة والتلاميذ والمؤسّسة التربوية خلال التّحرّكات والمسيرات حول القضيّة الفلسطينيّة.
ومن ذلك خَلُص إلى أنّ بعض المسؤولين النقابيين يتعمّدون تجاوز القيادة ودوس القانون محاولين إرباك المنظّمة تمهيدا للانقضاض عليها. وذكّر السيد عبد السلام جراد أنّ "الكتلة" التي هي الآن بصدد التّشكّل - على حدّ زعمه- ، في إشارة منه إلى مناضلي اليسار والنقابيين الذين أمضوا بيان 14 قطاعا، سبق وأن حاولت في مراحل ماضية من تاريخ الاتّحاد القيام بنفس الأعمال وخابت في مسعاها.
وشدّد الأمين العام على أنّ استقدام عناصر غير نقابية (طلاّبيّة ومسيّسة) إلى ساحة الاتّحاد لرفع شعارات لا تلزمه على مرأى ومسمع من المسؤولين النقابيين بل وبتساهل معهم وبمطالبة عناصر من القيادة بالتّدخّل لدى السّلط لإجلاء قوّات البوليس عن ساحة الاتّحاد، كلّ ذلك يدخل في إطار خطّة "الإرباك فالانقضاض". وأنحى على هؤلاء المسؤولين النقابيين باللاّئمة معتبرا أنّ ما كان يتعيّن عليهم فعله ليس الاحتجاج على إقدام البوليس على محاصرة الاتّحاد ودوس حرمته وإنّما سدّ الطّريق أمام العناصر الغريبة التي كانت في الواقع هي المتسبّبة في مقدم البوليس.
ومن جهة أخرى استنكر الأمين العام، وفي لهجة تحريضيّة مستنكرة، إصرار نقابة التعليم الثانوي على تنفيذ الإضراب الاحتجاجي بساعتين وعدم الانصياع لموقف الاتّحاد الرّافض لمثل هذا السّلوك معتبرا ذلك تجاوزا وموقفا مستهترا بالقانون وبالمنظّمة نفسها.
أمّا قمّة التّنطّع فتكمن، حسب ما جاء في تدخّل الأمين العام، في إقدام عدد من الجامعات على التّنسيق في موقف موحّد وإصدار بيان الـ14 جامعة ونقابة عامّة حول الوضع في فلسطين، مذكّرا أنه لا يحقّ لأيّ كان المزايدة على القيادة بخصوص تحمّل مسؤوليّاتها تجاه الشّعب الفلسطيني الشّقيق ومقاومته الباسلة. ونبّه مجدّدا أنه إذا كان من حقّ كلّ هيكل أن يصدر مواقفه وينشر بلاغاته فإنه لا يحقّ له التنسيق مع هياكل أخرى وبالخصوص في القضايا العامّة التي تتبنّاها المنظّمة وتصدر بشأنها مواقفها. وتوّعد بوضع حدّ لمثل هذه الظّاهرة، ظاهرة المواقف الجماعيّة وتقليد التّنسيق دون إذن من القيادة. (انظر بلاغ قسم النظام الداخلي الصادر لاحقا).
في نفس السياق تدخّل عدد من أعضاء المكتب التنفيذي، وأكثر ما أثار استغراب النقابيين انضمام كلّ من علي رمضان وعبد النور المداحي اللّذين لا فقط ردّدا نفس ما جاء على لسان الأمين العام بل أضافا إليه تشكّياتهما من "تهجّم بعض النقابيين" عليهما و"إهانتهما" في إشارة إلى بعض النّقاشات التي عرفتها السّاحة في غمرة الاحتجاجات الجماهيريّة بساحة الاتّحاد المطوّقة بالبوليس دون أيّة ردّة فعل من أعضاء القيادة الذين لاذوا بمكاتبهم.
أمّا الكتّاب العامّون للجامعات فقد انقسموا إلى قسمين. قسم سارع بالتّدخّل حالما أنهى أعضاء القيادة تدخّلاتهم ليصبّ جام غضبه على "التّجاوزات" الحاصلة محرّضين الأمين العام تماما كما جرت العادة في عهد السحباني رغم اختلاف الوجوه، على ضرورة الإسراع بالتّحرّك للضّرب على أيدي العابثين وحماية المنظّمة من المسيّسين وشراذم المهرّجين. وبرزت هذه المرّة بعض الوجوه الجديدة السّاعية إلى التّموقع ضمن الحلقة الضّيّقة القريبة والمقرّبة من الأمين العام ولتشكّل مجموعة الجنرالات الجدد في الهيئة الإداريّة. إلى جانب الوجوه المعروفة المستعدّة لركوب كلّ الموجات من أمثال مختار الحيلي وصالح برور ويونس الشهيدي ومحمد بوساحة وغيرهم. أمّا القسم الثاني فقد حاول كلّ على طريقته التّصدّي لهذا الهجوم غير المبرّر والدّفاع عن النقابيّين الذين عبّروا عن مساندتهم للقضية الفلسطينية وكلّ الذين رأوا في الاتحاد ملجأ للتّعبير عن مشاعر الغضب عمّا لحق بالفلسطينيين من تقتيل وتصفية. وأكّدوا أنّ التّجمّع بساحة الاتّحاد والانطلاق منها في مسيرات ليس بالأمر الجديد مذكّرين بالدّور الذي لعبه الاتّحاد في تحرّكات سنة 1982 أيام الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان، وبأحداث 1985 إثر الغارة الصهيونية على حمّام الشط وبتحرّكات سنة 1990 عند انطلاق الهجوم الثلاثيني الامبريالي الرّجعي على العراق الشّقيق. وأكّد المتدخّلون أنّ الشبان والمناضلين النقابيين وغير النقابيين الذين جاؤوا إلى دار الاتحاد لم يكن قصدهم إرباك المنظّمة وإنما لقناعتهم أنّ الاتّحاد هو المنظمة المؤهّلة قبل غيرها لأن تكون الوعاء لنضالات الشّعب بكلّ شرائحه من أجل المطامح الديمقراطية والوطنية والقومية. كما دافع المتدخّلون عن حقّ الأساتذة في الإضراب احتجاجا على ما لحقهم من تعدّ عليهم وعلى أعراضهم وعلى حرمة المؤسّسة التربوية وما لقوه من قمع على أيدي البوليس وفرق القمع الأخرى. وأكّدوا مرّة أخرى أنّه كان على القيادة التّحرّك من أجل رفع الحصار على دار الاتّحاد بدل إلقاء المسؤولية على النقابيّين والدّيمقراطيّين.
وأمام هذه الرّدود اضطرّ الأمين العام إلى تعديل خطابه وتخليصه من شحنة الحنق والتّوتّر التي ميّزته في البداية.
نفس السيناريو تكرّر بمناسبة اجتماع المكتب التنفيذي الموسّع حيث تدخّل الأمين العام بنفس التوتّر والحنق وبذات المضمون قبل أن يضطرّ مرّة أخرى إلى التّراجع عن لهجته تلك. أمّا الكتّاب العامّون للاتحادات الجهوية قد انقسموا بين مؤيّد للأمين العام ومعارضين أو على الأقل مجادلين له. غير أنّ ما يجب ذكره ما جاء على لسان الكاتب العام الجديد للاتحاد الجهوي بالكاف الذي لم يُنتخب وتمّ تنصيبه رغم معارضة بقيّة أعضاء المكتب. وقد عبّر وبوضوح عمّا يدور في الكواليس من تحاليل بخصوص بدء الحملة على اليسار. إذ أعلن ضرورة التّخلّص من حفنة العناصر التي تريد إلباس النقابيين القميص الأحمر - في إشارة منه إلى العناصر الشيوعية على حدّ قوله - مذكّرا أنّ الاتّحاد الذي سبق وأن قاوم الاخوانجية وتخلّص منهم سيكسب هذه المرّة الجولة ضدّ اليسار.
1 – لماذا الهجوم على اليسار؟
صراع اليسار ضدّ النّهج البيرقراطي التقليدي حالة عاشها الاتّحاد منذ مدة طويلة نسبيّا وبالتحديد منذ أواخر السبعينات أي منذ أن أصبح لليسار موطئ قدم في المنظمة النقابية. واليسار لم يكفّ مذّاك عن انتقاد ومناهضة خيارات القيادات النقابية المتوالية على رأس الاتّحاد ومواقفها وممارساتها. وقد تحوّلت هذه الانتقادات أحيانا إلى مواجهات حقيقيّة أقلقت البيرقراطية النقابية قلقا جدّيّا. وقد كانت هذه الأخيرة تعتبر على الدّوام أنّ اليسار شرّ لابدّ منه بعد أن صار مكوّنا راسخا من مكوّنات الحركة النقابية وأصبحت لديه مواقع ثابتة في عدد من القطاعات والجهات كسبها بفضل نضاله وحركيّته. إلاّ أنها كانت تتعامل معه على سبيل الاستفادة من طاقاته ومخزونه النضالي وبالخصوص في حملات التّسخين ولا تتوانى عن اتّخاذ كلّ الإجراءات لتصفية وجوده وتأثيره في فترات التّبريد. وبات من المعروف أنّ ضرب اليسار هو بوّابة ومعبر لتحسّن علاقاتها بالسّلطة وعربون تدفعه من جلد المناضلين لتأكيد ولائها للفريق الحاكم. واليسار كان دوما في نظر البيرقراطية طرف لا يؤتمن له جانب ويتعيّن دوما، بصرف النّظر عن طبيعة علاقتها بالنظام، الحدّ من تأثيره باستمرار. وفي هذا الإطار كان منذ السبعينات ضحيّة لحملات طرد جماعيّة من الاتّحاد ابتداء من حلّ نقابة التعليم الثانوي (إثر عريضة الـ600 الشهيرة) سنة 76 ونقلة أعضائها وناشطيها مرورا بحملة التّجريد التي انطلقت من التعليم الثانوي (لائحة الهيئة الإدارية 18 أفريل 84 ببورصة الشغل) وبالهجوم على نقابة البريد منتصف التسعينات وتصفيتها وصولا إلى تحرّشات اليوم على نقابة التعليم الثانوي ومن ورائها كلّ نفس يساري داخل الاتّحاد.
لقد عرفت البيرقراطية دوما كيف تستفيد من الإضافة النوعية التي قدّمها اليسار التونسي للحركة النقابية التونسية والاتحاد عبر مقولاته وشعاراته حول الاستقلالية والديمقراطية النقابية ونضالية المنظمة وحول الأوضاع العامّة بالبلاد. كما عرفت كيف توظّف طاقاته لمواجهة السّلطة في حملات التّسخين أو عند محاولات هذه الأخيرة للتّدخّل في شؤون المنظمة وخاصّة أثناء الأزمات التي مرّ بها الاتّحاد (78 و 85) ولكنها وفي ذات الوقت عرفت كيف تتحكّم في نشاطاته بما لا يجعله يتحوّل إلى تهديد حقيقي لمواقعها القيادية وتنفّذها في الهياكل عموما. ورغم أنّ اليسار كان قد تكبّد أتعابا وتضحيات جساما في الدّفاع عن الاتّحاد ومن أجل حمايته فإنّه خرج من المنعرجات الحاسمة محدود الأثر وانحصر حضوره في تواجد رمزي في مواقعه التقليدية أي القطاعات المثقّفة أساسا.
فاليسار خاض مقاومة شرسة ضدّ المنصّبين إثر 26 جانفي 78 عبر تجربة جريدة الشعب السّرّيّة أو تكتيك الافتكاك في صيغته وبمنطلقاته النضالية، واليسار الذي أعطى لمقاومة الاستثناء المسلّط على الرّاحل الحبيب عاشور وصالح برور هو نفسه الذي سرعان ما تحوّل إلى هدف للتّعسّف من قبل حلفاء الأمس أي الشّرعيّين حالما استقرّت الأوضاع لهم واستعادوا كراسيهم. فشملت مناضلي التعليم الثانوي والبريد وقمرق الدخان وشركة الرّفاهة وتونس الجوية وقطاع المهن المختلفة بحملة تصفية واسعة تمّ خلالها تجريد ما يزيد عن 183 إطارا ومناضلا نقابيّا في هذه الحملة التي كان الأمين العام الحالي أحد أبرز مدبّريها ومنفّذيها بصفته الأمين العام المساعد المكلّف بالنّظام الدّاخلي آنذاك.
واليسار الذي قاوم سياسة ربط الأجور بالإنتاج والإنتاجيّة وكلّ ممهّدات الهجوم على الاتّحاد في عهد الوزير الأوّل الأسبق محمد مزالي سيّء الذّكر، ووقف سدّا منيعا ضدّ انشقاق جماعة الستة الذين بعثوا "الاتحاد الوطني" صنيعة السّلطة ثمّ ضدّ الشّرفاء، واليسار الذي كان القوّة الميدانية التي لعبت الدّور الأساسي في الحفاظ على الهياكل القاعديّة والشّرعيّة، والذي نشّط حملات التضامن وأمّن عمل الهياكل حيثما تواجد وشدّ أزر المطرودين - وغالبيتهم من صفوفه -، كان محلّ فيتو أثناء مؤتمر سوسة وسُدّت كلّ الأبواب في وجهه حتى لا يكون له تواجد في القيادة المنبثقة عنه رغم أنه كان يمثّل ثلث المؤتمرين.
واليسار الذي كان له الفضل في منع أنصار "النهضة" من الهيمنة على هياكل الاتحاد لتوظيفها في صراعه مع السلطة حول الحكم، في الوقت الذي راح عدد من قياديّي البيرقراطية يغازلون ويتودّدون لـ"النهضة" بل وأقام معها بقايا التيار العاشوري تحالفا متينا، هذا اليسار بالذات سرعان ما تحوّل إلى الضّحيّة المفضّلة للبيرقراطية التي أعادت الوئام لشقوقها ورتّبت علاقاتها مع السّلطة.
واليسار الذي موّل الاتّحاد بالمقولات النّقابية المتجذّرة والمناضلة وساهم في بلورة اختياراته ليطبع خطّه بمنحى نضالي ضدّ خيارات السّلطة وبرنامج الإصلاح الهيكلي، ضدّ التّفويت وتصفية المكاسب الاجتماعية وأدخل ضمن تقاليد الاتّحاد النّضال من أجل الحرّيّات العامّة والفرديّة والعفو التشريعي العام واحترام حقوق الإنسان والضّغط من أجل تكريس استقلاليّة الاتّحاد عن السّلطة والمشاريع الرّجعية المعادية للعمّال وعالم الشّغل والحرّيّة والتّقدّم هو الذي دفع فاتورة هذا النّضال لا فقط على يد السلطة وإنما أيضا على أيدي القيادات البيرقراطية المتوالية بعد أن استعملته "كبش نطيح" في معارك كثيرة فشملته بالتّجريد والتّجميد والطّرد والنُّقَل والتصفيات والاستبعاد عن طريق تزوير الانتخابات وتنظيم الانقلابات وإحكام غلق أبواب الجهاز في وجهه.
وأخيرا وليس آخرا، فاليسار الذي رغم تباينه مع ما ادّعته البيرقراطية من تصحيح لمسار الاتّحاد فقد نشط في مواجهة السحباني حتى تمّت إقالته، وفي فترة لاحقة لعب الدّور الأساسي ليكون مؤتمر جربة على تلك النسبة من الديناميكية والثّراء، يتحوّل اليوم وكالعادة ليصبح المستهدف المباشر من حملة أُعدّت بمشاركة كلّ أجنحة البيرقراطية بما في ذلك جناح علي رمضان الذي شقّ البلاد طولا وعرضا لانتقاد أداء البيرقراطية ولتقديم نفسه بديلا عنها واعدا بجملة من الإصلاحات مستفيدا من طاقات اليسار. وهاهو اليوم يجتهد أيّما اجتهاد للتّدليل للسّلطة وللقيادة الحاليّة على اعتداله بل وعلى انسجامه واستعداده للتعاون حتى يحوز على رضاء السلطة والبيرقراطية في نسختها الرّاهنة بقيادة جراد.
فعلي رمضان لم ينتظر كثيرا ليكشف عن تكتيكه المذكور وليتفصّى ممّا كان يصرّح ويعد به النقابيّين. ومن أبرز المؤشّرات على ذلك انسياقه خلال مداولات مجلس القطاعات والمكتب التنفيذي الموسّع مع حملة التّحريض على اليسار والتعليم الثانوي فضلا عن موقفه السّلبي حيال إضراب السّاعة المقرّر من مؤتمر جربة الأخير ليوم الخامس من فيفري مساندة للشعب الفلسطيني الشقيق وكذلك موقفه تجاه عديد المسائل النقابية الداخلية مثل الإحالات على لجنة النظام لعدد من النقابيين بل وتحريضه على فبركة انقلاب على الكاتب العام لجامعة المهن المختلفة فقط لكونه طلب تكليف لجنة النظام بالنّظر في تلاعب قسم النظام الداخلي بإنخراطات عمّال "الالكترونيك".
والمفهوم اليوم من الحملة التي يمهّد لها لبدء الهجوم على اليسار، أنّ البيرقراطية النقابية تتحرّك تحت تأثير عداء تقليدي لهذا التيار النقابي، عداء تغذّيه في مثل هذه الظروف جملة من الاعتبارات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وكذلك جملة من الحسابات النقابوية داخل المنظمة.
إنّ البيرقراطية - رغم الجهل الذي يميّز قادتها وإطاراتها- واعية وعيا فطريّا ولكنه عميق وراسخ بمصالحها وتدرك ببداهة كبيرة من هم أصدقاؤها ومن هم أعداؤها الحقيقيّون وتحدّد في الظرف الرّاهن وفي الظروف القادمة من يمكن أن يساعدها على قضاء مآربها ونيل حصتها -الفتات- ومن بمقدوره أن يقف في وجهها حجرة عثرة ليفسد عليها مخطّطها ويعطّل سيرها نحو بلوغ الغنم. وتعلم في هذا الإطار أن لا مصلحة لها في اشتداد عود اليسار بل هي منزعجة الآن من الوزن الذي لاح عليه حضوره حينما حاول بجدّ توحيد جهوده خلال المؤتمر الأخير.
ولعلّ الكثير لا يُقدّر حجم الفاجعة التي أصابت البيرقراطية عندما تبيّنت أنّ اليسار، رغم كلّ التّدمير الذي لحقه خلال العشرية الماضية بفعل ضرباتها له وبفعل صراعاته الداخلية المغلوطة في أغلب الأحيان، مازال يمثّل لا محالة حوالي خمس المؤتمرين أي 20% من أصوات النّاخبين رغم كلّ التّلاعب عند توزيع النيابات "لتحجيمه" مقابل تضخيم عدد الموالين لها. والبيرقراطية تعلم أيضا طبيعة الخطورة التي تنطوي عليها محاولات توحيد اليسار النقابي لتجاوز نقائص الماضي وخصوصا حينما تكلّل هذه المحاولات بالنّجاح.
إنّ البيرقراطية ليست بالقوّة التي يتصوّرها البعض وخاصة في الظرف الحالي بعدما أنهكتها سياسات السحباني وبدخول شقّ علي رمضان على الخط. بل هي تستمدّ قوّتها الظاهرية من ضعف البدائل النقابية الأخرى. وإلى جانب ذلك فإنّ ما تلقاه من دعم سياسي وتمويل مادي من قبل السلطة يساعدها بطبيعة الحال على تعهّد الجهاز الذي صنعته داخل الاتّحاد وتحرص دوما على تجديد فاعليّته لتبقى في الموقع الممتاز الذي تحتلّه على رأس الاتّحاد. غير أنّ هذه العوامل لا تجعل البيرقراطية في مأمن من اهتزاز هيمنتها على المنظمة سواء كلّما أبدت السلطة بعض القلق من مواقف القيادة وسلوكاتها - مثلما هو الحال اليوم إلى حدّ ما- أو كلّما شهد الوضع تحسّنا لفائدة الديمقراطية وحركة النّضال داخل الاتّحاد وعلى الساحة الوطنية.
من غير المستبعد بل يمكن القول أنه صار ثابتا اليوم أنّ السلطة غير راضية تمام الرضا على جراد والطريقة التي يؤدّي بها الدّور الموكول إليه على رأس المنظمة كخلف للسحباني، وهناك عديد المؤشّرات الدّالّة على ذلك نذكر منها تصريحات الوزير الأوّل عند أوّل لقاء له بالمكتب التنفيذي الجديد عشية الأحد 14 فيفري الماضي (كنّا ننتظر منكم تزكية للرئيس فجئتم بقرار إضراب بساعة) وكذلك عدم استقبال المكتب التنفيذي من قبل القصر مثلما جرت به العادة إلاّ يوم غرة ماي فقط إلخ... وطبيعي أن تتصرّف السّلطة حيال الاتّحاد بهذا الأسلوب وهو الذي عوّدها بالتّذيّل المكشوف ودون مواربة. ولا نعتقد أنّ بن علي وحكومته سيغفر للاتّحاد مثل تلك المواقف في مؤتمر جربة (بعض التّصريحات ضدّ تحوير الدستور، المناداة بعفو تشريعي عام، إقرار إضراب بساعة مساندة للقضية الفلسطينية...).
لكن كلّ هذا لا يمكن القول أنه ارتقى ليبلغ حدّ الخلاف الواضح أو حصول أزمة بين الحكومة والاتّحاد. فبالنّظر لأوضاع كلّ منهما لا مصلحة لهذا ولا لذاك في بلوغ مثل هذا المستوى بل العكس هو الصحيح، والأكيد أنّ كلّ منهما يجتهد لتحسين العلاقة وتجاوز نقاط الغموض والتّباينات الظرفية التي لربّما حتّمتها أوضاع خاصّة بالحكومة أو أوضاع داخليّة للقيادة النقابية. وما من شكّ أنّ البيرقراطية أو على الأقل أبرز قياديّيها يعملون على إثبات ولائهم للسّلطة للتّكفير على نقائص المرحلة الماضية. وما من شكّ أيضا أنّ السّلطة ستستمر في ابتزاز القيادة النقابية لتقتلع منها تنازلات هامّة في علاقة بالأوضاع العامّة القادمة.
إنّ السّلطة في حاجة لأن يعلن الاتّحاد موافقته على الاستفتاء وتزكيته لبن علي كما هي في حاجة لأن يلعب دوره بالكامل ضدّ ظاهرة عودة الحركة الإضرابية وأن يتحمّل مسؤوليّته في إقناع النقابيّين والعمّال بالانخراط في "المجهود الوطني" الرّامي إلى تحمّل أعباء الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة ولتفهّم أوضاع الحكومة "واعتبار مصلحة الاقتصاد والوطن قبل أيّ شيء آخر". في هذا الإطار الابتزازي بالذّات لن يروق للسّلطة المناوشات التي يقوم بها اليسار هنا وهناك سواء حول بعض الجوانب المادية والاجتماعية أو في علاقة بالوضع في فلسطين المحتلة وتضامن الشارع التونسي معها. وعلى هذه الخلفية تصدر إيحاءات وتلميحات ولم لا أوامرها بالتعجيل بتقليم أظافر اليسار في الاتّحاد قبل أن "تفلت الأمور" من يدها.
والأقرب للظنّ أنّ خطاب عبد السلام جراد (بما فيه من بهرج ركحي متعمّد بغاية التّرهيب) هو مؤشّر على قبول القيادة النقابية - أو على الأقل جزء منها- بالاستجابة لتلك الإيحاءات أو الأوامر. لكنّ السؤال المطروح هو إلى أيّ مدى تستطيع البيرقراطية اليوم النّجاح في مثل هذه الحملة؟
إنّ البيرقراطية النقابية التي تبدو اليوم في وضع مريح وماسكة بالقيادة وبمجمل الجهاز تعاني في الحقيقة من جملة هنات ونقاط ضعف داخلية لن تسمح لها بالتّصرّف مطلقة اليدين. فالمكتب التنفيذي الحالي يختلف إلى حدّ كبير عن باقي المكاتب التنفيذية السّابقة من حيث درجة الوحدة التي عامّة ما اتّسم بها من قبل وخاصّة في عهد السحباني. لذلك يبقى مرشّحا لكلّ الاحتمالات بما في ذلك الانقسام حول أيّة قضية جدّيّة قد تطرحها ساحة النّضال العامّة والنقابية خصوصا. ومعلوم أنّ المؤتمر الأخير أفرز مكتبا بـ10 من أعضاء ينحدرون ممّا يسمّى بقائمة الأمين العام وبثلاثة آخرين من القائمة المعارضة "قائمة الوفاق النقابي" أي قائمة علي رمضان. وحتى إن كان الخلاف القديم (قبيل المؤتمر) بين علي رمضان وعبد السلام جراد قد انقضى وعفى عليه الزمن، فإنه مازال لا محالة متواصلا ولكن في ثوب جديد وبأقنعة أخرى بحسابات جديدة وبمرامي مختلفة. فالخلاف ما عاد اليوم بينهما بين واحد ماسك بالجهاز وآخر مقصي عنه وإنما بين رأسين، واحد يريد استدامة هيمنته والآخر يحرص على خلق قطب قويّ وموالي لشخصه. فالصّراع سيتواصل إذن حول "مناطق النفوذ" داخل هياكل الاتّحاد وعلى أساس الولاءات الشخصية. وليس خاف على أحد من متتبّعي دقائق الأمور في صلب القيادة النقابية أنّ الرّهان الأساسي لهذا الصّراع هو مسألة الخلافة على الأمانة العامّة.
صحيح أنّ علي رمضان وبشهادة الكثير من النقابيين سرعان ما تخلّى عن خطابه القديم وصار يتصرّف بوضوح على نقيض وعوده السّابقة ويبذل قصارى جهده لإقناع السّلطة وعبد السلام جراد بانسجامه مع الخط الرسمي الذي ما انفكّ ينتقده قبل عودته إلى المكتب التنفيذي. والدّلائل على ذلك لا تحتاج إلى تبيان. لكن وعلى خطّ مواز لم ينقطع في خلواته وتحاليله لأوضاع الاتّحاد مع أقرب أصدقائه أو حتى مع بعض الذين يُشتمّ منهم أن يعيبوا عليه بعض السّلوكات، لم ينقطع عن انتقاد الأوضاع برمّتها متشكّيا من فراغ الاتّحاد من المناضلين ليُقنع الآخرين أنه في مثل هذا الوضع ليس بمقدوره فعل شيء كبير ليبرّر مواقفه السّلبية الحاليّة ولتمرير فكرة مزيد التّريّث والصّبر عليه ريثما تتوفّر ظروف أسنح كي يجسّم وعوده القديمة. إنّ أغلب النقابيين باتوا واعين بأنّ علي رمضان صار منشغلا أكثر من أيّ وقت مضى بموضوع الخلافة ويرى نفسه سجينا لهذا الإطار الذي ينبغي أن يكيّف حسبه كلّ موقف يتّخذه وكلّ كلمة يصرّح بها. ومن غير المستبعد أن تكون حصلت مفاهمات في هذا الصّدد داخل فريق القراقنة.
وصحيح أيضا أنّ العضوين الآخرين عبد النور المداحي ومنصف اليعقوبي لم يفعلا ما يؤكّد أنّهما قد بدآ هما الآخران بالتّنصّل من وعودهما مثل علي رمضان أو أن يكونا قد انفصلا وتمايزا عنه في المواقف والسلوكات. وهناك مؤشّرات أخرى بدأت بالظّهور تفيد أنّ عددا من أعضاء المكتب التنفيذي - من قائمة الأمين العام- هم في طريقهم إلى الالتحاق بشقّ علي رمضان (حتى وإن كان من السّابق لأوانه الحديث الآن عن شقوق) ويجري الحديث عن وجود 4 أو 5 أعضاء على لائحة تعزيزه.
وعلى ضفة أخرى سيظلّ عدد من الأعضاء الذين يصعب عليهم الآن الظهور بصورة جليّة ونهائيّة مع هذا الشقّ أو ذاك قبل أن تأخذ الأمور مجراها لتستقرّ موازين القوى بين علي رمضان وعبد السلام جراد. هذا إلى جانب أنّ بعض الأعضاء ما انفكّ يلمّح لتباينه في ذات الوقت مع كلا القطبين، منهم من يريد تصفية حسابات خاصة وتاريخية ويحاول التمويه على الجميع بالوزن الذي يمكن أن يخلقه لنفسه، ومنهم من تراوده نوازع لعلّها صادقة بضرورة تجاوز سلبيّات أدائه السّابق.
وممّا لا شكّ فيه أنّ مثل هذه الوضعية لن تسمح لعبد السلام جراد والبيرقراطية ككلّ أن يباشر خطّة هجوم على اليسار النقابي على الأقل على المدى المنظور بكلّ ما يعني ذلك من قرارات وإجراءات تنظيمية تعسّفيّة. ولا ننسى كذلك أنّ مسألة انقسام الحركة النقابية أو بالأحرى الانشقاق عن الاتّحاد وخاصّة منذ انبعاث الكنفدرالية الديمقراطية للشغل يشكّل ضغطا يكبّل أيدي البيرقراطية. ويبقى وجود الكنفدرالية رغم كلّ ما يمكن أن يقال عنها عنصر ضغط يقيّد "حرية" البيرقراطية في التّصرّف ويحدّ من قدرتها على الإقصاء والتعسّف. وهي إن فاخرت بمؤتمر جربة فليس بسبب نوعيّة مداولاته وفعاليّته وإنّما لأنه فتح أمام الكثيرين آمالا جديدة لمواصلة المسيرة من داخل الاتّحاد لا من خارجه. وبذلك ازدادت اطمئنانا على بقاء المعارضين تحت نفوذها وتراجع الكثير منهم على هجرة الاتّحاد سواء للالتحاق بالكنفدرالية أو لخوض غمار تجارب نقابية جديدة.
إنّ البيرقراطية عادة ما تضع وحدة الحركة النقابية والاتحاد في صدارة الحجج التي ترفعها في وجه السلطة لإقناعها بأنها قوية وأنها الطرف الوحيد والأكثر كفاءة للتفاوض ولتمثيل الطبقة العاملة. ولكن أيضا تستعمل هذا العامل لتدلّل على أنها قادرة على كبح جماح كلّ الانفلاتات الممكنة. وهي تختزن تجربة طويلة في استخدام هيمنتها على الاتحاد كعنصر مساومة لصالحها. حتى وإن وجدت داخل الاتحاد معارضة قوية - نسبيا- تحاول دائما إقناع السلطة أنّ وجود معارضين في صلب المنظمة أفضل بكثير من وجودهم خارجها وتجتهد بحكمتها الخاصة على تقديم هذا الأمر على أنه يدخل ضمن دورها كحارس أمين لا فقط لمصالحها ولكن أساسا لمصالح السلطة والسلم الاجتماعية.
ومن المرجّح أيضا بحكم عوامل تتعلق بأوضاع السلطة الخاصة – الاستفتاء واستحقاقات 2004 والتعاطي مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمفاوضات القادمة وفي علاقة بمراقبة الأوساط الخارجية لتتطور تعامل نظام بن علي مع قضايا الديمقراطية والحريات – أنّ هذه الأخيرة أي السلطة قد تكون هي الأخرى أحرص على استنباط أفضل السبل - من منظورها هي- للتعامل مع اليسار داخل الاتحاد بكبح جماحه والتحكّم فيه دون القيام بما من شأنه أن يدفعه إلى اليأس من المنظمة النقابية والإقدام على الخطوة الحاسمة والانشقاق عنها. هذا بطبيعة الحال في حالة ما إذا اختارت السلطة التعامل بالمنطق مع الوضع لا بالسياسات المغامرية التي تبقى لا محالة واحدة من خصائص النظام الحالي.
إنّ الأوضاع على غاية من التّعقيد وكلّ طرف (السلطة والبيرقراطية واليسار النقابي) محكوم عليه بالتعامل معها بدرجة عالية من النّباهة واليقظة والدقّة كلّ حسب منطلقاته ومراميه.
وانطلاقا من التّجارب الماضية ومن موازين القوى الرّاهنة والمرتقبة وما يتوفّر عليه كلّ طرف من هذه الأطراف من إمكانيات سياسية وبشرية، تبدو السلطة والبيرقراطية أقرب إلى النجاح في التعامل مع الوضع والاستفادة منه والسّير به تدريجيّا نحو المواجهة التي يرغبان فيها. وبالمقابل يبدو اليسار يسير على خيط رفيع يصعب معه تحقيق نقطة التوازن المطلوبة لكسب الجولات القادمة.
ذلك لا يعني البتّة أنّ مهمّته مستحيلة على صعوبتها، بل بالعكس. فاليسار يمتلك إمكانيات فعلية واحتياطية هامّة ومؤثّرة، وعليه أن يدرك أنه رغم كلّ التّصفيات السابقة يمتلك شتاتا من الطاقات ويحتلّ مواقع بمقدورها التّحكّم في اختيارات وقرارات كثيرة.
ومن جهة ثانية يتوفّر اليسار على إمكانيّات تعبويّة تفتقدها البيرقراطية التي تصدّأت إطاراتها، كما يمتلك رؤية أوضح وأكثر راهنيّة وجاذبيّة تجاه القواعد العمّالية. وهو أكثر التصاقا بالعمّال وله قدرة أكبر على التّماهي مع همومهم وانشغالاتهم ويمكن أن تلمس فيه القواعد صدقا أكبر والتزاما أوفى لها ولمطامحها ولا شيء يمكن أن يحول دونه وكسب جولات الانتخابات القادمة قاعديّا وقطاعيّا وجهويّا.
غير أنه لابدّ من القول أنّ كلّ ذلك سيظلّ مرهونا بجملة من الشّروط والمعالجات التي يتعيّن على قوى اليسار القيام بها وعدد من الخصال والمميّزات التي يجب أن تحرص على إبرازها وتطويرها بكلّ إيمان ونجاعة. ونعني بذلك بطبيعة الحال أن تصرف أكبر جهودها لتوحيد صفوفها وتجاوز حالة التشرذم والاقتتال الفئوي وأن تجتهد كما يلزم وأن تقطع مع عقلية الماضي وما نجم عنها من روح نقابوية وشرعوية تحوّلت في كثير من الأحيان إلى انتهازيّة أقعدته - اليسار- عن مهمّاته النضالية التي من أجلها جاء إلى حقل النشاط النقابي، وهذا بحدّ ذاته مسألة كبيرة ومعقّدة تستوجب عملا مستقلاّ يساهم فيه كلّ مناضلي اليسار بكلّ تمعّن ونضج ومسؤولية.
تونس – أفريل 2002

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي