لنغن البيات حزناً على مجدي نجيب

كرم نعمة
2024 / 2 / 12

لو تسنى للسردية الإعلامية المصرية أن تقدم مكامن الغناء التعبيري على حقيقته، لكان لها أن تضع الشاعر مجدي نجيب، الذي رحل يوم الأربعاء الماضي عن 88 عاما، في أثمن ماسة بالغناء المصري.
لكنها، لسوء حظ الأغنية، كانت تلك السردية واقعة تحت وطأة التهويل الفارغ، فيما جعلها التكرار ماكنة تدور على نفسها.
بينما شاعر على درجة عميقة من الشغف مثل مجدي نجيب، جعل كبار الملحنين يصابون بالذهول أمام نصوصه الغنائية، لم يحظ بالقيمة التي ينبغي أن يكون عليها في السردية الإعلامية المصابة بالتهويل المصطنع!
فهذا الشاعر أرّخ لحقيقة الإنسان المصري على طبيعته، وجعل العربي يجد نفسه أيضا بتلك الحقيقة الغنائية.
مع أن نجيب ترك العشرات من الأغاني بأصوات مصرية منذ حقبة الستينيات وحتى الثمانينيات، عندما قدم لنا الفنان محمد منير بنصوص غنائية رحبانية، وكان يريد أن يصنع أغنية فيروزية مصرية بصوت رجالي، إلا أنه رفع شارة الغناء المضيئة بصوت شادية في أغنيتين باهرتين لا يمكن للتاريخ الموسيقي العربي إلا أن يقف حائراً أمامهما.
فمن حس حظ الغناء أن الأغنيتين بصوت شادية، تناوب على تلحينهما محمد الموجي وبليغ حمدي، واختارا لهما بإرادة لحنية غامضة مقام “البيات” المفعم بالحنين والتساؤل والوجع.
فأغنية “غاب القمر يابن عمي يللا روحني/ لا النسمة آخر الليل تفوت وتجرحني” جعلت الكمانات في حيرة موسيقية لم تشهدها على مر التاريخ الغنائي المصري، فيما ذاب صوت شادية ولهاً، فلم تكن تغني من حنجرتها في مقطع “طار النسيم بالشوق لما كلمتك/ لمس النسيم ثوبي بهمس غنوتك” فحسب، بل وصل أداؤها أن يصدر من الرأس وهي مرحلة متقدمة في علوم الغناء، ويندر أن يصل المطرب إلى نقطة الغناء من رأسه، إلا إذا كان على درجة فائقة من الأداء. ذلك ما كانت عليه شادية في “غاب القمر” بينما هبط الموجي إلى أعماق موغلة في روح مفردة مجدي نجيب ليستخرج ذلك اللحن الباهر.
ومن يعود إلى مقطع “الليل ووحدك ووحدي سايبين هوانا وحيد”، ثم “ضحك الهوى حواليك/ وتميلت النسمة/ سلم على شعري ورماه عليك حكايات” ينتابه شعور عصي على الفهم صادراً من الروح الإنسانية، حتى وإن لم يكن مستمع الأغنية يفهم العربية. ذلك ما يفسر لنا التأثير الكامن في الموسيقى بوصفها أداة توحد شعوب العالم برمته.
ومع أن الموجي ملحن هذه الأغنية ويدرك كوامنها، بيد أن أداء شادية أصابه بالذهول وجعله يتساءل في حوار معه آنذاك “كيف له، وهو الرجل الجلف، أن تخرج منه هذه الرقة الموسيقية”؟
ذلك ما يجعل شاعر الأغنية وملحنها ومطربتها يُرسمون معا في أثمن جواهر الغناء المصري الحقيقي.
ومن حسن حظ التاريخ الغنائي أن بليغ حمدي وجد نصاً آخر مفعماً بحس التساؤل يوازي نص “غاب القمر” كتبه أيضاً مجدي نجيب.
لا يمكن لي أن أتخيّل المعاناة التي عاشها كي يصنع منه لحناً يجعله مثل الموجي “حائرا” في استخراج الرقة، ولم يجد غير “البيات” أيضاً المقام المتقلب المزاج اللحني، حزناً وتساؤلا وسعادة معا!
فأغنية “قولوا لعين الشمس ما تحماشى/ لحسن حبيب القلب صابح ماشي” أغنية لا تكتفي بقصة التمني الكامنة فيها، ولا بأداء شادية الحزين، التي جمعت روح الأم في غنائها لأبنها والحبيبة وهي تودع من تعشق. بل هي أغنية مفعمة بسرب من القلوب الإنسانية، عندما تستنجد شادية بالحمام أن يطير قبل الحبيب المسافر، ويجعل من الشمس حريرا فوق رأسه.
فأي صانع شعري ماهر ذلك الذي أعاد لنا تركيب العلائق بين المفردات؟ هو مجدي نجيب الذي رحل هذا الأسبوع، ولو قُدر لكل الغناء المصري اليوم أن يرثيه، لأصيب بالعجز!

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي