رواية للفتيان مرجانه طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن
2024 / 2 / 11

رواية للفتيان





مرجانه





طلال حسن




" 1 "
ــــــــــــــــــــــــ

نادته جدته من الفناء : فلاح .
وقبل أن يصله نداء جدته ، سمع كلبه " البرق " ، الذي تعود أن ينبح كل صباح ، في مثل هذا الوقت ، وكأنه يريد إيقاظه .
واعتدل فلاح ، حين سمع جدته تتابع نداءها قائلة : انهض ، حان وقت الكتّاب .
ومضت الجدة إلى غرفتها ، بخطواتها البطيئة الواهنة ، وهي تصيح : ليتك تسرع ، الطعام جاهز .
ونهض فلاح ، وأخذ يرتدي ملابسه ، بعد أن اغتسل ،و " البرق " يحوم حوله حيثما سار . إنه يحب " البرق " هذا ، ويكاد لا يفارقه ، إلا عند النوم ، أو الذهاب إلى الكتّاب ، منذ أن جاءه به أبوه عبد الرحمن ، في رحلته الأخيرة ، من إحدى الجزر البعيدة.
وما إن انتهى من ارتداء ملابسه ، وإعداد لوازمه المدرسية ، حتى أسرع إلى غرفة جدته ، وأسرع " البرق " في إثره . وجلس قبالة جدته ، منهمكاً في تناول طعام الفطور ، لكنه لم ينس " البرق " وراح يلقي له لقمة بين فترة وأخرى ، فينقض عليها " البرق " ويزدردها في الحال .
ورفعت جدته عينيها إليه ، وقالت : بنيّ فلاح
وخمن فلاح من نبرتها ، ما تريد الحديث فيه ، فقال بشيء من الصبر : نعم ، جدتي .
ورغم نبرته غير المشجعة ، تابعت الجدة قائلة : منذ فترة وأنت لا تسألني عن أبيك .
وتوقف فلاح عن تناول الطعام وقال : لا فائدة يا جدتي ، إنني لا أراه إلا بين رحلة ورحلة .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : أنت لم تلقبيه بالسندباد عبثاً .
ولعلها أحست بمرارة كلماته ، فقالت مدافعة : لك أن تفخر بأبيك، فالجميع هنا في البصرة ، يرون أنه تاجر لامع ، ورحالة عظيم .
ونهض فلاح ، وأخذ لوازمه المدرسية ، متأهباً للخروج، ونظر إلى جدته ، وقال : إنني بحاجة إلى أب ، وليس إلى رحالة عظيم.
ونهضت الجدة بدورها ، وقالت : فلاح ، اسمعني ، لقد بلغني أن أباك قد يأتي اليوم .
وتوقف فلاح لحظة ، دون أن ينبس بكلمة ، ثم مضى خارجاً ، و " البرق " يركض في إثره ، حتى أوصله الباب .
وهزت الجدة رأسها ، وتمتمت بأسى : إنني لا ألومك يا فلاح ، فأنا أيضاً لا أحتاج إلى رحالة بل إلى ولد ، أراه ويراني كلّ يوم.




















" 2 "
ــــــــــــــــــــ
انتحى فلاح ، على عادته كل يوم ، بصديقه أحمد ، وعدد من أصدقائهما ، في طرف من فناء الكتّاب ، للتداول في شأن تدريباتهم المستمرة على السباحة والرماية والمصارعة وركوب الخيل .
وفوجىء فلاح بأحمد يرمقه بنظرة خاطفة ، ويقول : أقترح أن نرجىء تدريباتنا إلى يوم غد .
فاحتج فلاح قائلاً : لم نتدرب منذ أيام ، وأرى أن اليوم مناسب للتدرب على المصارعة .
وتطلع أحمد إليه ، وقال : يفترض أن تقترح أنت تأجيل التدريبات هذا اليوم ،يا فلاح .
والتفت إلى بقية الأصدقاء ، وأضاف قائلاً : ستصل سفينة تجارية اليوم ، وقد يكون أبو فلاح وصديقه حسام على متنها .
ومن أحد الأركان ، لوح لهم رجل معمم ، ثم أشار لهم أن تعالوا، فأسرع أحمد نحوه قائلاً : هلموا ، معلمنا ينادينا ، بدأ الدرس .
وطوال فترة الدوام ، انشغل فلاح بالدراسة ، ومراجعة الدروس، والتداول مع المعلم والطلاب في شتى المواضيع العلمية والدينية واللغوية .
وعند انصرافه من الكتّاب ، بعد انتهاء الدوام ، استوقفه
المعلم ، وقال له : سمعت أن أباك قد يصل اليوم .
لم يحر فلاح جواباً ، فتابع المعلم قائلاً : لقد درسنا في الكتّاب معاً ، أنا وأبوك ، وكان دائم الحديث عن البحار ، والجزر الغريبة ، والمدن البعيدة الخلابة .
وصمت لحظة ، ثم قال مبتسماً : لقد سحرني بأحلامه ، وكدت أسافر معه ذات مرة ، على متن سفينة شراعية صغيرة ، لو لم يتدخل أبي في اللحظة الأخيرة ، ويحول بيني وبين السفر .
ومضى المعلم مبتعداً ، وهو يقول : بلغه تحياتي إذا جاء، وقل له إنني مشتاق إلى سماع أحلامه ، وأني سأزوره في أقرب فرصة .
وسار فلاح متجهاً إلى البيت ، وهو يقلب حديث المعلم ، عن أبيه عبد الرحمن . وفي مدخل الزقاق ، الذي يقع فيه بيتهم ، اعترضه صبي من الجيران ، وهتف به فرحاً : أبشر يا فلاح ..
وتباطأ فلاح محدقاً فيه ، فتابع الصبي قائلاً : وصل أبوك قبل قليل .
ووقف الصبي مذهولاً ، عندما واصل فلاح سيره نحو البيت ، دون أن ينبس بكلمة .





" 3 "
ـــــــــــــــــــــــــ
دفع فلاح الباب ، ودخل إلى الفناء ، محتضناً كتبه . ورأته الجدة ، وكانت واقفة عند باب المطبخ ، والمغرفة في يدها ، فتقدمت قليلاً ، وهي تصيح فرحة : سندباد .
وتوقف فلاح ، حين جاءه صوت أبيه ، ينساب من الغرفة مرحاً : أمي ، قلت لكٍ مراراً ، اسمي ليس سندباد، وإنما عبد الرحمن.
واستطردت الجدة قائلة ، دون أن تلتفت إلى تعليقه : جاء شبلك .. فلاح .
وصاح عبد الرحمن : فلاح !
وسرعان ما أقبل من غرفته ، التي تبقى مغلقة ، طوال غيابه عن البيت . وتوقف حين وقعت عيناه على فلاح ، ثم مدّ يديه نحوه ، وقال : تعال يا شبلي ، تعال ، آه كم كبرت خلال هذه المدة .
وتقدم فلاح ، فأخذه عبد الرحمن بين يديه ، وضمه إلى صدره ، وقال ضاحكاً : يبدو أنك ستفعل ما لم أفعله ، وتكمل تعليمك في الكتّاب .
وتملص فلاح من بين ذراعي أبيه ، وقال : معلمنا يسلم عليك .
وقهقه عبد الرحمن ، وقال : فأر لكتب ؟ آه ما أطيبه .
وسوى فلاح ملابسه ، ووضع كتبه جانباً ، ثم قال : سيزورك قريباً .
ورفع عبد الرحمن يديه مرحباً ، وقال : أهلاً به ، إنني لم أره منذ فترة طويلة .
ورمق فلاح جدته بنظرة خاطفة ، وقال :إنه ، كما قال لي ، مشتاق لسماع أحلامك .
ولاذ عبد الرحمن بالصمت لحظة ، ثم قال : الإنسان لا يكون إنساناً إلا بالأحلام .
ولعل الجدة شعرت بحراجة الموقف ، فلوحت بالمغرفة ، وقالت : لنرجىء الحديث الآن ، حان وقت الغداء .
وهمت أن تدخل المطبخ ، حين خاطبها عبد الرحمن قائلاً : مهلاً يا أمي .
وتوقفت الجدة ، وقالت : فلاح جائع ، وهو متشوق لتناول الغداء معك .
ورد عبد الرحمن : أنت تنسين أن لدينا ضيفين اليوم .
وضربت الجدة جبهتها بالمغرفة ، وقالت : آه ، لقد شخت حقاً .
ومال عبد الرحمن على فلاح ، وقال : سيتغدى معنا اليوم عمك حسام وابنته مرجانه .
وفغر فلاح فاه متمتماً : مرجانه !
فابتسم عبد الرحمن ، وقال : نعم يا شبلي ، مرجانه ، وأية مرجانه .
وابتسمت الجدة قائلة : ويرزقكم بمرجانه من حيث لا تعلمون .



















" 4 "
ـــــــــــــــــــــــــ
طرق الباب طرقات قوية مرحة ، فهتف عبد الرحمن : إنه حسام ، أعرف قبضته الحديدية .
والتفت إلى فلاح ، وقال : انهض يا بنيّ ،وافتح له ، وإلا حطم الباب.
ونهض فلاح ، وأسرع نحو الباب ، فقالت الجدة ضاحكة : لابد أنه جائع ، وشمّ رائحة الطعام البصري .
وضحك عبد الرحمن ، وقال : لو تعرفين كم يحب طعامك ، وخاصة عندما يكون في البحر .
فردت الجدة قائلة : ليترك البحر ، ويتزوج بصرية ، وستطبخ له أفضل مما أطبخ .
وفتح فلاح الباب ، وإذا حسام يندفع إليه بجسمه الضخم ، الذي ازداد ضخامة ، ويرفعه بين يديه قائلاً ببحة مرحة : السلام على عالمنا الصغير ، ها نحن قد عدنا مؤقتاً ، وسنقلع مع الريح نحو الجزر البعيدة ، بعد أن نشبع من طعام جدتك .
ونهض عبد الرحمن ، وقال : لا تصدقه يا بنيّ ، لن أقلع أنا مرة أخرى .
وأنزل حسام فلاح ، ولوح بقبضته قائلاً : كلا ، أنا صادق ، لا أحد في العالم يعرفك مثلي ، أنت سندباد ، وستبقى سندباد .
ثم مال على فلاح ، وقال : دعنا من سندباد الآن ، تعال أعرفك بمرجانه .
وتنحى قليلاً ، فبدت وراءه فتاة ، ربما أصغر من فلاح بسنة أو سنتين ، سمراء ، سوداء العينين ، شعرها فاحم، مسترسل على كتفيها ، رمقت فلاح بنظرة حيية ، ثم أغضت . ودفعها حسام برفق ، وقال : هذا فلاح ، الذي طالما حدثتك عنه .
وغض فلاح من نظره ، وتمتم قائلاً : مرحباً .
فردت مرجانه بصوت خافت : مرحباً .
وتقدمت الجدة من مرجانه ، ومدت يديها نحوها وعانقتها، ثم قالت ، وهي تتملاها : حقاً ، أنت مرجانه .
وأطرقت مرجانه مبتسمة ، وقد توردت وجنتاها . ونظرت الجدة إلى حسام ، وقالت : أنت محظوظ ، أين عثرت عليها ؟
وقهقه عبد الرحمن ، وقال : لم يعثر عليها ، وإنما سرقها من سفينة شراعية صغيرة .
ورفع حسام قبضته ، وقال : دعك منه ، هذه المرجانه ، انتزعتها من مخالب القرصان الأعور ، وأنقذتها منه .
وقالت الجدة ، وهي تتأمل مرجانه : حافظ عليها يا حسام، إنها أمانة .
واحتضن حسام مرجانه ، وقال بحرارة : ماذا تقولين؟ مرجانه ابنتي .
وقالت الجدة : وابنتي أيضاً .
والتفت حسام نحو المطبخ ، وتشمم رائحة الطعام ملء صدره ، وصاح مبتسماً: الله ، طعام خالتي العظيمة ، أم سندباد.
واحتج عبد الرحمن قائلاً : حسام .
واستدارت الجدة نحو المطبخ مقهقهة ، والمغرفة في يدها ، وقالت : أنا أم عبد الرحمن .












" 5 "
ـــــــــــــــــــــــ
جلس عبد الرحمن إلى جانب الجدة ، بعد أن انصرف حسام ومرجانه ، إلى بيتهما . وحدق في فلاح ، الذي كان يتشاغل بتصفح احد الكتب ، ثم خاطبه قائلاً : بنيّ ، تعال أجلس إلى جانبي .
وأغلق فلاح كتابه ، ووضعه جانباً ، ثم نهض ، وجلس إلى جانب أبيه ، دون أن ينبس بكلمة .ومدّ عبد الرحمن يده ، وراح يداعب فلاح ، ويمسد شعره ، ثم قال : بنيّ ، لقد تغيرت كثيراً ، منذ أن رأينك آخر مرة .
وابتعد فلاح عنه قليلاً ، وقال : لقد رأيتني آخر مرة قبل أكثر من سنتين .
ولعل عبد الرحمن شعر بمرارة كلماته ، فقال بنبرة مراضاة : لا عليك ، سأراك منذ اليوم بصورة دائمة .
ورد فلاح قائلاً : للأسف ، هذا ما أسمعه منك دائماً يا أبي .
ورمقت الجدة عبد الرحمن بنظرة خاطفة ، كأنما تضم صوتها إلى صوت فلاح . وأطرق عبد الرحمن رأسه ، وقال : سفري المستمر ربما كان هروباً ، أو محاولة للعلاج والنسيان ، بعد أن توفيت أمك ، وهي تضعك .
وصمت لحظة ، ثم رفع عينيه إلى فلاح ، وقال : لكني هذه المرة قررت أن لا أسافر مرة أخرى ، لقد تعبت ، وآن لي أن أركن إلى الراحة .
واستبد الفرح بالجدة ، وقالت بنبرة مازحة : أرجو أن يقتدي حسام بك ، ويطلق بالثلاثة عالم البحار .
وقهقه عبد الرحمن ، وقال : حسام هذا قرش ، يموت إذا ابتعد عن المياه والحركة .
وصمت لحظة ، وقد كف عن القهقهة ، ثم قال : من يدري ، قد يركن إلى الراحة حباً بابنته مرجانه .
ومالت الجدة عليه مبتسمة ، وقالت : كم أتمنى أن تكون لك ابنة مثل .. مرجانه .
ونظر عبد الرحمن إلى ابنه ، وقال : لا تنسي يا أمي ، إن لي شبلي .. فلاح .
ورمقت الجدة فلاح بنظرة خاطفة ، ثم قالت : من يدري، لعل فلاح يريد أختاً تشبه مرجانه .
ونهض عبد الرحمن متثائباً ، واتجه إلى غرفته ، وهو يقول : لقد شخت يا أمي ، ولن ترضى بي فتاة ، يمكن أن تأتيني بابنة مثل .. مرجانه .





" 6 "
ــــــــــــــــــــــــ
استلقى فلاح في سريره ، محكماً حوله الغطاء ، وأغمض عينيه لينام ، ويستيقظ مبكراً ، استعداداً للذهاب إلى الكتاب، وعلى غير عادته ، لم ينم ، فقد كانت مرجانه ، تبعد عنه النوم ، بعينيها السوداوين ، وشعرها الفاحم المسترسل ، وسمرتها القريبة من سمرة البصريات .
ومما زاد في إبعاد النوم عنه ، تفكيره فيها ، وتأثره لوضعها . صحيح أن حسام يحبها ويرعاها ، كما لو كانت ابنته ، إلا أنها كانت بعيدة عن أمها وأهلها وبلدها . ولام حسام ، بينه وبين نفسه ، فقد كان عليه أن لا يكتفي بانتزاعها من القرصان الأعور ، وإنما أن يبحث عن أمها ، ويعيدها إليها .
وأغفى فلاح ، قبيل الفجر ، لكن مرجانه لم تغب عنه ، فقد رافقته في أحلامه ، وتراءت له ، أكثر من مرة ، ترمقه بنظرة سريعة ، وتتمتم بصوتها العذب : مرحباً .
وفي الصباح ، وعلى غير العادة ، هزته جدته قائلة : فلاح ، ماذا جرى ؟ البرق ينبح عبثاً منذ فترة .
وهب فلاح من سريره ، ونباح البرق يأتيه من الفناء ، وقال لجدته : حقاً ، ماذا جرى ؟ ليتك أيقظتني مبكراً .
ومضت الجدة إلى خارج الغرفة ، وهي تقول : الذنب ليس ذنبي، لقد انشغلت بوالدك .
وعلى عجل ، أخذ فلاح يرتدي ملابسه ، وجاءه صوت جدته من الفناء : تعال إلى غرفتي ، الفطور جاهز .
وحمل فلاح كتبه ، وأسرع إلى غرفة جدته ، يتبعه " البرق " ، وهو ينبح ، ويبصبص بذنبه . وجلس قبالة جدته ، يزدرد طعامه إزدراداً ، دون أن يلتفت إلى " البرق " ، أو يرمي له لقمة واحدة. وتطلعت إليه جدته ، ثم قالت : لم تسألني عن أبيك .
فرد فلاح ، وهو يدفع لقمة في فمه : لابد أنه أيقظك مبكراً وتناول فطوره مع صياح الديك .
وابتسمت الجدة ، وقالت : وخرج بصحبة عمك حسام .
وكف فلاح عن تناول الطعام ، ورفع عينيه إلى الجدة ، التي استطردت قائلة : ذهبا معاً إلى الشاطىء ، لمعاينة بضاعتهما في السفينة .
ونهض فلاح ، وقال بشيء من الانفعال : أرأيت ؟ البارحة قال إنه لن يسافر مرة أخرى ، لا فائدة .
وحمل كتبه ، ومضى إلى الخارج بخطوات واسعة غاضبة ، وسرعان ما سمعت الجدة الباب يصفق بقوة ، فقالت : مهما يكن،
فإنني أصدق السندباد هذه المرة .


" 7 "
ــــــــــــــــــــــــــ

وصل عبد الرحمن وحسام إلى الشاطىء ، حيث رست عدة سفن شراعية ، وقوارب صغيرة لصيد السمك.ولاحت سفينتهم ، في غبش الصباح ، عتيقة ، متداعية ، تختض مع حركة الأمواج ، في شط العرب .
وتوقف عبد الرحمن ، وقال : يخيل لي يا حسام ، أن قلقك مبالغ فيه .
وتوقف حسام بدوره ، وقال : البحار فاضل لا يكذب .
وهز عبد الرحمن رأسه ، وقال : نعم ، في النهار ، عندما يكون صاحياً .
وهمّ حسام أن يرد عليه ، فاستطرد عبد الرحمن قائلاً : ثم أنت تعرف فاضل جيداً ، إنه يكره القرصان الأعور .
وسار حسام صوب السفينة ، وقال : هذا اللعين ، لن ينسى أنني انتزعت منه مرجانه .
ولحق عبد الرحمن به ، وقال : ولن ينسى أيضاً أنك فقأت إحدى عينيه .
وصمت لحظة ، ثم قال : لعله مفلس الآن ، أسكته ببضعة دنانير.
واقترب حسام من سلم السفينة ، وقال : بل سأفقأ عينه الأخرى .
وقال عبد الرحمن : حسام ، كن منصفاً ، مرجانه عندك أنت .
والتفت حسام إليه ، وقال : إنه مجرم ، ولعله قتل أمها .
فرد عبد الرحمن : ولعله لم يقتلها .
وتسلق حسام السلم ، وهو يقول : المهم الآن مرجانه ، لقد هدد باختطافها ، وسيختطفها إذا لم أوقفه عند حده .
وتسلق عبد الرحمن السلم في أثره ، وقال : لا تصدق فاضل ، إن القرصان الأعور يخافك ، كما يخاف عزرائيل .
وصعد حسام السلم إلى السفينة ، واتجه نحو القمرة ، وقال : مهما يكن ، لابد أن أتحقق من هذا الأمر .
ثم توقف ، وصاح : فاضل .
لم يجبه أحد ، فصاح بصوت أعلى : فاضل .
وفتح باب القمرة ، وأقبل بحار بدين ، كأنه قربة مليئة بالدهن ، ورمش بعينيه العكرتين ، المثقلتين بالنعاس ، وقال متسائلاً : من؟ من أنتما ؟
فصاح به حسام غاضباً : أنا ، أيها النّوام الأحمق .
وتراجع البحار البدين ، وقد تبين حسام وعبد الرحمن ، وقال متأتئاً : عفواً ، لم أتبينكما ، مازالت العتمة ..
وقاطعه حسام غاضباً : أين فاضل ؟ اذهب ، وناده في الحال .
وتأتأ البحار البدين ، ثم قال بصوت متحشرج : فاضل ! فاضل .. ليس هنا .
وقال حسام بانفعال : ماذا تخرف ؟ فاضل لم يبت يوماً خارج السفينة .
ومسح البحار البدين عينيه ، وقال : هذا صحيح ، لكنه خرج البارحة ليلاً ، ولم يعد .
ورمق حسام عبد الرحمن بنظرة خاطفة قلقة ، ثم قال للبحار البدين : حسن ، سأكون في البيت ، أرسله إليّ حالما يعود .
فرد البحار البدين قائلاً : سمعاً وطاعة يا سيدي .











" 8 "
ـــــــــــــــــــــــ

عاد فلاح ، بعد انتهاء الدوام في الكتّاب ، إلى البيت. وفوجئ بمرجانه، جالسة وحدها ، في الفناء . وحالما رأته، هبت من مكانها ، وقالت محرجة : الجدة في المطبخ ، تعد الطعام .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : جاء بي أبي إلى هنا ، قبل قليل ، وعاد ثانية إلى الشاطئ ، مع أبيك .
ووضع فلاح كتبه جانباً ، وقال : أهلاً بك ، فرصة طيبة، ابقي وتغدي اليوم معنا .
ووقفت مرجانه حائرة ، لا تدري ماذا تفعل ، فقال فلاح : تفضلي ، أجلسي .
وقبل أن تجلس مرجانه ، أقبلت الجدة من المطبخ ، والمغرفة في يدها ، وقالت : الطعام جاهز ، لنتغدّ، حسام والسندباد قد يتأخرا .
وقفلت عائدة إلى المطبخ ، وهي تشير بالمغرفة لمرجانه: مرجانه ، تعالي ساعديني .
ولحقت مرجانه بالجدة مسرعة ، دون أن تتفوه بكلمة ، وأسرع فلاح في إثرهما ، وهو يقول : سأساعدك أنا أيضاً ، يا جدتي .
وضحكت الجدة ، وقالت : يا لله ، هذه ليست من عاداتك،يا فلاح .
ثم رمقت مرجانه بنظرة خاطفة ، وقالت : سبحان الذي يغير ولا يتغير .
ولاذ فلاح بالصمت ، مدارياً خجله ، وتناهى إليه نباح "البرق" فنظر إلى جدته ، وقال : هذا البرق ، عجباً ، لم يأت إليّ ، حين دخلت البيت .
فردت الجدة قائلة : ربطته تحت السلم ، إن مرجانه تخاف منه .
وابتسمت مرجانه ، وقد تملكها الخجل ، فنظر فلاح إليها، وقال : لا تخافي من البرق ، إنه لا يهاجم إلا من يراه غريباً عدوانياً .
واعدوا السفرة في الفناء ، وجلسوا حولها يتناولون طعام الغداء، والبرق ينبح ، كأنما يحتج على ربطه تحت السلم . واختلس فلاح نظرة إلى مرجانه ، ولاحظ أنها تتناول الطعام شاردة ، فقال مازحاً : جدتي ، يبدو أن مرجانه لم يعجبها طعامك .
وضحكت الجدة ، وقالت : لا تلمها يا فلاح ، لعلها معتادة على طعام البحارة .
وابتسمت مرجانه ، وقالت : إنني طباخة ماهرة بشهادة بابا .
وعلقت الجدة قائلة : من يشهد للعروسة ؟ كلي يا بنيتي ، كلي ، كلي .
وهنا دفع الباب ، ودخل أبو فلاح وحسام متجهمين ، ونهضت الجدة ، وقالت : حماتكما تحبانكما ، تعالا ، الطعام مازال ساخناً.
وجلس أبو فلاح جانباً : لست جائعاً يا أمي ، فليأكل حسام .
وجلس حسام إلى جانب أبي فلاح ، وقال : أنا أيضاً لست جائعاً.
وألقت مرجانه لقمة الطعام من يدها ، وكفّ فلاح بدوره عن تناول الطعام ، فتساءلت الجدة : ما الآمر ؟ أخبرانا .
وأطرق حسام رأسه ، دون أن ينبس بكلمة . ونظر أبو فلاح إلى الجدة ، وقال : البحار فاضل ، وجد قبل قليل .. غريقاً .









" 9 "
ـــــــــــــــــــــــ
خلال الأيام التالية ، رابط حسام في البيت ، إلى جانب مرجانه ، من غير أن يدعها تغيب عنه لحظة واحدة . وكان إذا أضطر للخروج ، لسبب أو لآخر ، يأخذها لتبقى مع الجدة ، حتى يعود .
وطالما فزً من نومه ليلاً ، إثر كابوس مزعج ، فيعتدل متفقداً مرجانه ، ليجدها تغط في نوم عميق ، في سريرها، القريب من سريره .
لقد تملكته الوساوس على مرجانه ، منذ أن غرق البحار فاضل، أو أغرق ، في شط العرب .
وراح يحرسها ليل نهار ، خشية أن يخطفها القرصان الأعور ، ويهرب بها بعيد ، ويبيعها ، أو يقتلها ، كما قتل أمها .
ورغم قلقها ، ارتاحت مرجانه إلى زياراتها المتكررة لبيت الجدة . وكان فلاح يترك كتبه ودراسته ، ويجالسها، ويبادلها الحديث ، كلما صادفها في بيتهم .
وكانت الجدة تستغرب من هذين الصموتين ، كيف راحا يوماً بعد يوم ، يستغرقان في أحاديث لا تنتهي . وودت لو تعرف عما يتحدثان، لكنها كانت تحجم عن سؤالها ، خشية أن يحرجا ، ويعودا ثانية إلى الصمت .وراحت تقدم لهما شراباً حلواً مرة ، وفواكه لذيذة مرة أخرى ، وتقول لهما مازحة : تفضلا ، الحديث يفتح الشهية .
ويبتسم فلاح ، وتطرق مرجانه ، وقد توردت وجنتاها . وما أن تبتعد الجدة ،حتى يعودا إلى أحاديثهما ، التي تكاد لا تنتهي .
حدثها فلاح عن كتّابه ومعلميه وأصدقائه وكتبه ، كما حدثها عن البصرة وأهلها وسوق المربد وشط العرب . بينما حدثته مرجانه عن جزيرتها ، التي تسبح في الخضرة ونور الشمس ، وسط مياه البحر ، كما حدثته عن أمها الطيبة ، والقرصان الأعور ، الذي اختطفها ، وربما تسبب بموت أمها . ولو لم يتدخل حسام ، وينقذها منه ، ربما باعها في سوق العبيد ، أو قتلها ، كما قتل الكثيرين ، وأشادت بحسام ، وحبه الشديد لها ، حتى أنه جعلها بمثابة ابنة له .









" 10 "
ـــــــــــــــــــــــــــ
قبيل مساء احد الأيام ، ارتدى عبد الرحمن ملابسه ، استعداداً للخروج . ورفع فلاح عينيه عن كتابه، ورمق أباه بنظرة خاطفة ، دون أن ينطق بكلمة . وتطلعت الجدة إليه ، وقالت : الوقت متأخر ، وستغرب الشمس بعد قليل، إلى أين ؟
فرد أبو فلاح قائلاً : سأذهب إلى بيت أبي مرجانه ، وقد أتأخر حتى العشاء .
وهب فلاح ، تاركاً الكتاب ، الذي كان يقرأ فيه ، وقال : مهلاً يا أبي ، سآتي معك .
ونظر أبو فلاح إلى الجدة ، فقالت مبتسمة : خذه معك ، لابد أنه مشتاق إلى عمه ، أبي مرجانه .
واحتج فلاح ، وهو يرتدي ملابسه بسرعة : حتى أنت ِ يا جدتي .
وقهقه أبو فلاح قائلاً : لو كنت مكانه لما كنت أقل شوقاً منه إلى مثل هذا العم .
وتقدمت الجدة من فلاح ، وراحت تسوي ملابسه ، وهي تقول : لا عليك ، اذهب يا عزيزي ، وفقك الله .
وذهب فلاح بصحبة أبيه ، ولم يجتازا من المحلة ، سوى بضعة بيوت ، حتى بلغا بيت أبي مرجانه . واستقبلهما أبو مرجانه مرحباً ، ثم صاح : مرجانه ، تعالي ، عندنا ضيوف ، وأي ضيوف.
وأقبلت مرجانه ، ورحبت بحرارة بفلاح وأبيه ، ثم قالت : إنني أطبخ طعاماً مما كانت تطبخه أمي ، أرجوكما ابقيا ، سنتعشى معاً .
وقبل أن يقول فلاح أو أبوه كلمة ، قال حسام : بقيا وذوقا ما أذوقه كل ّ يوم .
وقهقه أبو فلاح ، وقال : كل وأسكت ، هذا ما جنته يداك يا فلاح .
ونظر حسام إلى مرجانه ، وقال : من أجل هاتين العينين أتحمل بهارات الهند كلها .
وابتسمت مرجانه قائلة : أشكرك بابا .
ثم قفلت عائدة إلى المطبخ ، وهي تقول : عن إذنكم ، وإلا احترق الطعام .
وأشار حسام لفلاح وأبيه ، وقال : تفضلا ، تفضلا بالجلوس .
وجلس فلاح وأبوه ، وجلس حسام قبالتهما ، وقال مخاطباً عبد الرحمن : أعرف ما جئت من أجله ، يا أبا فلاح ، البضاعة ، نعم، لقد تأخرنا في نقلها إلى بغداد .
واعتدل عبد الرحمن في جلسته ، وقال : أنا أتفهم مشاعرك ، ابق أنت هنا ، وسأتكفل أنا بنقل هذه البضاعة.
فرد حسام قائلاً : لا ، أنت متعب ، سأرافقك إلى بغداد ، والويل للقرصان الأعور ، إذا مس ّ شعرة من مرجانه .
ونظر فلاح إلى حسام ، وقال : لا خوف على مرجانه ، لتبق عندنا حتى تعودا من السفر .
ورمق حسام عبد الرحمن بنظرة ارتياح ، ثم تطلع إلى فلاح ، وقال : طبعاً يا فلاح ، ستبقى في بيت عمها وابن عمها وجدتها.
وهنا أقبلت مرجانه من المطبخ ، حاملة صينية الطعام ، وهي تقول : دعوا كل شيء جانباً ، وتهيأوا ، جاء طعام مرجانه .
وصاح حسام ضاحكاً : هاتوا جرة الماء ، ستبدأ الحرائق.











" 11 "
ـــــــــــــــــــــــــــ
انتقلت مرجانه إلى بيت الجدة ، بعد أن سافر عبد الرحمن وحسام بالبضاعة إلى بغداد . وبقدر ما كانت مرتاحة للبقاء مع فلاح والجدة ، كانت خائفة وقلقة ، مما تناهى إليها عن القرصان الأعور ، ونواياه الشريرة تجاهها، فهي لم تنس ، ولن تنسى ، ما حاق بها وبأمها بسببه .
وأفاقت ذات ليلة ، على نباح " البرق " ، وما إن فتحت عينيها ، حتى رأت الجدة واقفة عند النافذة ، فاعتدلت متسائلة بصوت يشي بقلقها : جدتي ، ما الأمر ؟
والتفتت الجدة إليها ، وقالت تطمئنها : لا شيء يا بنيتي ، عودي إلى فراشك .
وارتفع نباح " البرق " ، فهبت مرجانه إلى النافذة ، وأطلت منها على الفناء . وعلى ضوء القمر ، لمحت خيال رجل ضخم ، يمرق على السلم ، و" البرق " ينطلق في أثره ، فتمتمت مرعوبة : لص .. لص .
وسكتت لحظة ، ثم التفتت إلى الجدة ، وقد اتسعت عيناها رعباً ، وقالت : لعله القرصان ، نعم ، إنه هو ، القرصان الأعور .
وفتح فلاح باب غرفته ، واندفع نحو الفناء ، ثم لحق ب " البرق " إلى السطح ، ومن هناك ، أطل على سطوح الجيران ، وبحث في ضوء القمر ، عما في باله ، دون جدوى . ونزل من السطح إلى الفناء ، و " البرق " يبصبص بذنبه وراءه .
وفتحت الجدة باب غرفتها ، وأسرعت إلى فلاح قائلة : بنيّ فلاح ، أنت عاقل ، ما كان لك أن تصعد إلى السطح في هذا الوقت من الليل .
فرد فلاح بنبرة مازحة : لا تنسي يا جدتي ، أنني الآن رجل البيت .
وأطلت مرجانه من باب الغرفة ، فرفع " البرق " رأسه، ونبح عالياً ، فقالت الجدة : هذا البرق اللعين ، لقد أيقظنا من النوم ، ولعل الأمر لا يعدو أن تكون عدوته اللدود .. القطة السوداء .
ورمق فلاح مرجانه بنظرة خاطفة ، وقال : أنت محقة يا جدتي، لعلها كانت القطة السوداء فعلاً .
واقترب من مرجانه ، وقال مازحاً : إنها مجرد قطة ، رغم لونها الأسود .
ودفعت الجدة مرجانه برفق إلى الداخل ، وقالت : نحن في منتصف الليل ، لنعد إلى النوم .
ثم خاطبت فلاح قائلة : اذهب أنت أيضاً إلى فراشك ، ونم .
وأضافت ، وهي تغلق الباب : تصبح على خير .


" 12 "
ـــــــــــــــــــــــــــ
أفاقت الجدة متأخرة ، صباح اليوم التالي ،فقد غطست ، بعد صلاة الفجر ، في غفوة عميقة ، لم تفق منها ،إلا والشمس تطل عليها من نافذة الغرفة .وهبت من سريرها مولولة : يا ويلي ، سيتأخر فلاح عن الكتّاب هذه المرة .
وأسرعت إلى فلاح ، وإذا هو مستلق في سريره ، وقد أحكم الفراش حوله ، فقالت مستغربة : فلاح ، ماذا جرى؟ أنظر إلى الشمس .
واعتدل فلاح ، وتساءل قائلاً : هل استيقظت مرجانه ؟
وبدل أن ترد الجدة ، قالت : انهض ، ستتأخر عن الكتّاب.
ودفع فلاح الفراش عنه ، وقال : لن أذهب اليوم إلى الكتّاب ، سأبقى معكما في البيت .
وهمهمت الجدة بنبرة ذات معنى : هممم ، القطة السوداء.
ونظر فلاح إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت الجدة قائلة : إنني أعرف ، كما تعرف أنت ، أنها لم تكن القطة السوداء .
ونهض فلاح من سريره ، وقال : نعم ، أنت محقة ، لكن من يدري ، لعله لص عادي .
وردت الجدة قائلة : هذا ما أتمناه .
ثم اتجهت إلى الباب ، وهي تقول : سأذهب ، وأوقظ مرجانه ، ثم أعد طعام الفطور .
وأعدت الجدة طعام الفطور ، وساعدتها مرجانه في إعداده ، وجلسوا يفطرون صامتين ، و" البرق " يقف بباب الغرفة مبصبصاً بذنبه .
ورمقت مرجانه فلاح بنظرة خاطفة ، وهي تضع لقمة في فمها، وقالت : يبدو أنك لن تذهب اليوم إلى الكتّاب .
ونظر فلاح إلى جدته ، فابتسمت الجدة وقالت : يخاف عليك من القطة السوداء .
وابتسم فلاح ، وقال : مهما يكن ، سأبقى هذا اليوم في البيت .
ونظرت مرجانه إليه ، وقالت : لا أريد أن تهمل دروسك بسببي.
فنهض فلاح ، وقال : إنني لا أهمل دروسي .
واتجه إلى غرفته ، وهو يقول : وها إني أذهب إلى غرفتي ، لأدرس كما لو كنت في الكتّاب .




























" 13 "
ـــــــــــــــــــــــــ
ارتدى فلاح ملابسه ، قبيل العصر ، متأهباً للخروج. ودهشت الجدة ، حين رأته ، وتساءلت قائلة : فلاح ، إلى أين ، يا بنيّ ؟
وأقبلت مرجانه من الغرفة مسرعة ، ونظرت إلى فلاح ، دون أن تتفوه بكلمة ، وقالت الجدة : أرجو أن لا تتأخر.
ونبح " البرق " مبصبصاً بذنبه ، ومضى فلاح نحو الباب ، من غير أن يلتفت إليه ، وقال : أغلقا الباب ، ولا تفتحاه لأحد حتى أعود .
وخرج فلاح ، فأسرعت الجدة ، وأحكمت إغلاق الباب من الداخل ، وقالت : اطمئني ، سيعود قريباً .
ونبح " البرق " ثانية ، فأضافت الجدة مبتسمة : ثم لا داعي للخوف مادام البرق معنا .
وأسرع فلاح ، عبر أزقة البصرة ، التي كانت شمس العصر ، توشي بيوتها وقبابها ومناراته بنثار الذهب ، حتى وصل بيت صديقه أحمد .
وما إن طرق الباب ، حتى خرج أحمد إليه ، وحدق فيه مندهشاً ، وتمتم : فلاح ! تفضل .
ومال فلاح عليه ، وقال بصوت يشي بالخطورة : مهلاً ، جئت لأمر هام .
فتساءل أحمد : ما الأمر؟ أقلقتني ، تكلم يا فلاح .
ورد فلاح قائلاً : أصارحك يا أحمد ، إنني أخشى أن يكون بيتنا معرضاً الليلة للخطر .
وبدت الحيرة والقلق على أحمد ، وقال : مهما يكن ، فنحن معك .
ومدّ فلاح يده ، وشد على يد أحمد ، وقال : أشكرك .
ثم أضاف : والآن لابد أن نستعد للأمر .
فرد أحمد بحماس : نحن إخوتك ، ولعلنا تدربنا لمثل هذا اليوم ، مرنا وسترانا معك .
وشد فلاح ثانية على يد أحمد ، وقال : اذهب إلى أصدقائنا ، وبلغهم أن يكونوا مستعدين عند أول إشارة .
وقال أحمد بحماس : عد أنت إلى البيت ، وسأذهب فوراً إلى جميع الأصدقاء ، وأبلغهم بالأمر .
وتراجع فلاح ، ثم مضى مسرعاً ، وهو يقول : تحياتي للجميع، إلى اللقاء .








" 14 "
ـــــــــــــــــــــــــ
قفل فلاح عائداً على عجل ، وقد مالت الشمس للغروب . وما إن اقترب من البيت ، حتى فوجئ بالباب موارباً . وخفق قلبه هلعاً ، وأندفع إلى الفناء ، وهو يصيح : جدتي .. جدتي .
وجاءه صوت جدته من غرفتها واهناً متحشرجاً : فلاح .. تعال .. أنا هنا .
وأسرع فلاح إلى الغرفة ، وإذا الجدة ملقاة على الأرض، وقد تلطخ وجهها بالدماء . فمد يديه نحوها ، يساعدها على النهوض، وهو يقول : جدتي ، ماذا جرى ؟
واعتدلت الجدة قليلاً ، وقالت بصوت باك : يا ويلي ، ماذا سنقول لحسام ، مرجانه يا فلاح .
وهب فلاح قائلاً : يا إلهي ، لا تقولي أنها .. .
وهزت الجدة رأسها ، وقالت باكية نعم ، إنه هو ، القرصان الأعور .
لم يتمالك فلاح نفسه ، فصاح غاضباً : قلت لك ،لا تفتحي الباب لأحد .
ونهضت الجدة مترنحة ، وقالت من بين دموعها : لم أفتح الباب يا بني ، لم أفتحه .
ونظر فلاح إليها متسائلاً ، فأضافت قائلة : نزل علينا كالباشق من السطح ، واقتحم غرفتي ، وتصديت له ، فلطمني بقبضته على وجهي ، فأغمي عليّ ، و .. .
ووقف فلاح حائراً ، والغضب يحتدم في أعماقه ، ثم قال : ما العمل الآن ؟ ما لعمل ؟
وانهارت الجدة باكية ، وقالت : إنه مجرم ، هذا القرصان الأعور ، ولا حول لنا أمامه ولا قوة .
وارتفعت ضجة في الخارج ، وانبثق صوت أحمد من خلالها يصيح : فلاح ، فلاح .
وأسرع فلاح إلى الخارج ، وإذا أحمد ، ومعه عدد من فريقهم للفروسية والمصارعة ، مسلحين بالهراوات . واقترب أحمد من فلاح ، وقال : فلاح ، أصحيح أن القرصان الأعور .. .
فرد فلاح قائلاً : نعم يا أحمد ، لقد اختطف مرجانه في غيابي .
ومدّ أحمد يده ، وشد على يد فلاح ، ثم قال : نحن معك ، لنطارده ، ونلقِ القبض عليه ، حيثما يكون .
ونظر فلاح إليه حائراً ، وقال : وأين هو لنطارده ؟ لا أحد يعرف مكانه ، وكل ما أخشاه ، أن يكون قد هرب بمرجانه خارج البصرة .
وهنا جاءهم نباح " البرق " واهنا من أول الزقاق ، فصاح فلاح : إنه البرق .
وأسرع إليه ، ومن ورائه أحمد والأصدقاء ، وتلقفه بين ذراعيه، وحدق فيه قائلاً : يا للمسكين ، إنه جريح ، فلنأخذه إلى البيت .




















" 15 "
ــــــــــــــــــــــ
تحلقوا حول " البرق " في الفناء ، وانكبوا عليه ، يمسدون رأسه، وينظفون فراءه مما علق به من تراب وعرق ودماء . وأسرع أحمد ، وجاءه بإناء ملأه بالماء ، ووضعه أمامه ، وقال : اشرب يا برق ، اشرب ، اشرب.
وطوال هذه المدة ، كان " البرق " يحاول التملص منهم، نابحاً بانفعال ، ونظرت الجدة إليه ، وخاطبت فلاح قائلة : فلاح ، لعل البرق لحق بالقرصان حتى مخبأه ، فقد رأيته يطارده نابحاً ، وهو يحاول أن يعضه .
فرد فلاح قائلاً : من يدري ، لعلك على حق .
وأخذت الجدة تبعد بعض أصدقاء فلاح عن " البرق " ، وهي تقول : ابتعدوا عنه قليلاً وسنرى .
وما إن وجد " البرق " ثغرة في الطوق ، الذي كان مضروباً حوله ، حتى تراجع قليلاً ، ثم انطلق مسرعاً نحو الباب ، فقالت الجدة : أنظروا ، كأنه يدعوكم لأن تتبعونه .
وخرج " البرق " من البيت ، فأسرع فلاح وأحمد وأصدقاؤهما في أثره . وأخذ يركض مسرعاً من زقاق إلى زقاق ، والجميع يركضون وراءه ، حتى انتهى إلى بيت عتيق ، آيل للسقوط ، يطل على شط العرب ، ووقف عند بابه ، وراح ينبح .
وتوقف فلاح قرب " البرق " ، وتوقف خلفه أحمد وأصدقاؤهما، ونظر إلى البيت ، وقال : هذا هو البيت ، إن البرق لا يخطىء ، لابد أن القرصان الأعور يحتجز فيه مرجانه .
وتقدم أحمد من باب البيت ، وقال : لنطرق الباب ونر .
وطرق الباب مرة ومرات ، لكن أحداً لم يرد عليه.واندفع " البرق " نابحاً ، وأخذ يضرب الباب بقائمتيه الأماميتين، وقال فلاح : مرجانه في الداخل لنحطم الباب.
وانقضوا معاً على الباب ، ودفعوه بكل قواهم ، حتى تداعى وانفتح ، منصفقاً بصوت مرتفع . وما إن اندفعوا إلى الداخل ، حتى فوجئوا بالقرصان الأعور ، يقف متحدياً وسط الفناء ، وهراوته في يده ، وصاح بهم غاضباً : أخرجوا وإلا قتلتكم .
وتوقفوا للحظة مترددين ، وقال فلاح : لن نخرج حتى تطلق مرجانه .
فرد القرصان الأعور . مرجانه ليست هنا .
وتقدم فلاح قليلاً ، وقال : أنت اختطفتها ، أطلقها وإلا ندمت .
واندفع القرصان الأعور نحو فلاح وأصدقائه ، ملوحاً بهراوته، وهو يصيح : قلت لك مرجانه ليست ..
وتوقف مغتاظاً ، حين ارتفع صوت مرجانه من إحدى الغرف ، تصيح بأعلى صوتها : فلاح ، أنا هنا ، أنقذني ..أنقذني .
وهنا انتفض " البرق " على القرصان الأعور ، وغرز أنيابه الحادة في ساقه . وصرخ القرصان الأعور متألماً، ورفع هراوته ، ليضرب " البرق " فأندفع فلاح وأحمد وأصدقاؤهما نحوه ، وانهالوا عليه بهراواتهم . حتى أسقطوه على الأرض ، والدماء والكدمات تغطي وجهه .
وأسرع فلاح إلى الغرفة ، التي تحتجز فيها مرجانه ، فحل وثاق مرجانه ، وخرج بها إلى الفناء ، وهتف بأصدقائه : كفى أيها الأصدقاء ، لقد نال هذا اللعين جزاءه ، فلنعد الآن بمرجانه .
وغادر الجميع البيت ، تاركين القرصان الأعور ، يتلوى متوجعاً على الأرض ، وساروا متجهين إلى البيت ، يتقدمهم البرق ، وهو ينبح بأعلى صوته .








" 16 "
ـــــــــــــــــــــــ
جلس فلاح ومرجانه والجدة ، ينتظرون في الفناء ، صامتين ، وربض " البرق " في مواجهتهم ، صامتاً أيضاً .
ونظرت الجدة إلى " البرق " ، وقالت : مسكين ، إنه يتضور جوعاً .
والتقط فلاح الإشارة ، ورمق مرجانه بنظرة خاطفة ، وقال : مع أن أفضاله لا تنسى .
وقالت مرجانه بنبرة مازحة : لن يأكل حتى يأتي بابا والعم سندباد .
وتساءلت الجدة قائلة : وإذا لم يأتيا ؟
وردت مرجانه قائلة : سيأتيان ، إنهما دائماً عند وعدهما، قالا بعد الظهر ، وسيأتيان بعد الظهر بالتأكيد .
وتنهدت الجدة محدقة في " البرق " ، وقالت : صبراً يا برق ، صبراً ، ستتغدى اليوم ، لكن بعد غروب الشمس .
وهنا رفع البرق رأسه ، ونبح فرحاً . فنهض فلاح ، وقال : جاءا ، أعدا السفرة .
وقبل أن ينتهي من كلامه ، طرق الباب ، فأسرع إليه ، وفتحه ، وإذا هو أمام حسام وأبيه . وبدل أن يعانقاه كعادتهما ، دخلا متجهمين ، فنهضت الجدة ، متحاملة على نفسها ، وقالت : حمداً لله على السلامة .
وردّ عبد الرحمن قائلا : يسلمك الله ، يا أمي .
ونظر حسام إلى مرجانه ، التي وقفت تتطلع إليه ، وقال : أخبروني ، ماذا جرى في غيابنا ؟ هيا ، أخبروني .
ووقف فلاح والجدة حائرين ، لا يعرفان ماذا يفعلان . فأسرعت مرجانه إلى حسام ، ومدت يديها نحوه ، تعانقه بشدة ، وقالت : ليس الآن ، الطعام سيبرد ، لنتغد أولاً .
وتطلع عبد الرحمن حوله ، ثم قال : حسن ، نحن جائعين ، لنتغدّ .
وحدق حسام في مرجانه ، وكأنه يريد أن يتأكد من أنها على ما يرام ، ثم التفت إلى فلاح ، وقال : يا للغرابة ، سمعت القرصان الأعور يتسول في الأسواق .
فرد فلاح قائلاً : عفواً يا عم ، إن القرصان الأعور لم يعد أعوراً .
ونظر أبو فلاح إلى الجدة وحسام ، مغالباً ضحكته ، فقد حسب أن الأمر مجرد مزحة ، فقالت الجدة : هذا حق ، فقد صار أعمى تماماً .
وتلفت حسام حوله حائراً ، ثم قال : هذا لغز ، حبذا لو توضحوه لنا .
واتجهت مرجانه نحو المطبخ ، وقالت مخاطبة حسام : أعددت لك الطعام الذي تحبه .
وصاح فلاح : سأحضر الجرة .
وضحكت الجدة ، واحتجت مرجانه مغالبة ابتسامتها : فلاح .
وأحضر فلاح الجرة ، وقال : إنها لي ، فقد تعود العم حسام على بهاراتك .
وعلقت الجدة بنبرة خاصة : لا تتعجل يا فلاح ستتعود أنت أيضاً عليها ، إن شاء الله .
وضحك حسام وأبو فلاح ، ورمق فلاح مرجانه خجلاً ، فأسرعت مرجانه بالدخول إلى المطبخ ، وقد توردت وجنتاها.


4 / 7 / 2004

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي