|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
محمد الورداشي
2024 / 2 / 4
أتعبتني هذا الطريق الموحش، والصخب الذي يخترق أذنيّ المترقبتين، ويحملني على استحضار حياتي من تجاويف الذاكرة المثقوبة، وأبسطها أمامي عارية، فأخذت تتناثر مع حبات الحصى المضطربة، وتتحرك مع الرياح القوية، وتضطرب كلما صادفت حفرة في الطريق. وحيدا أعبر هذه المسافة المتخمة بالصمت القاتل، وأتجول بعيني الغبرتين على جنبات الطريق؛ أنظر إلى صورتي في الحيوانات الشريدة، فتسرح بي الذاكرة بعيدا، وتحضرني ذكرى ظلت نقشا في الوجدان، وتلح علي بين الفينة والأخرى، بيد أنها سرعان ما تصطدم بلحظات سهو طويلة، تعتريني كلما وجدتني وحيدا في هذا الطريق، وتأخذني إلى حيث تعيش أمي، فأحسني طفلا صغيرا يحبو، ويبحث عن يدين حانيتين رطبتين، تسرحان شعيرات رأسه المتناثرة، وتنتشلانها من الأرض بحنو وحدب كبيرين، فيغمرني دفء أمي، ويأخذ جسدي النحيل في الارتجاف، في الحركة العمياء، في الهدوء، في الارتخاء.. ثم النوم الطويل.
طاب لي المقام في مملكة الحلم فأقمت، لكنني سرعان ما أفقت، وغادرت هذه المملكة التي لم يطل تربعي على عرشها إلا لحظات قليلة، لأجدني منصهرا وسط الناس، أبتسم لهم كلما ابتسموا لي، وأرى شفاههم تتحرك وتتموج، بيد أني لا أسمع كلماتهم، لا تصلني أصواتها بقدر ما تأخذني حركات أجسادهم المضطربة. تمتلئ نفسي ضجرا ومللا، فأفر من هذا العالم خائفا، وأرتمي في مملكة الحلم مجددا، هناك تنتظرني أمي، وتترقب عودتي شوقا للأمان والدفء.
أرتمي في أحضانها صارخا:
- تعبت يا أمي، بل أتعبني الورى وأدمعوا عيني..
تحضنني بقوة، فأحس بالارتخاء، وبدمعاتها الساخنة تسقط على خدي، فتهمس في أذني متسائلة:
- ماذا فعلوا لك؟
أرد والكلمات في حلقي أشواكا:
- سرقوا مني كل شيء، حتى الحلم الذي أفر إليه أخذوه مني، فلم أعد أدري إلى أين يا أمي.
تتساقط دموعها على جرحي المندمل فتضمده، ثم تنطق والحرارة تغزو جسدها:
- ابق قويا صامدا، وإياك أن تستسلم لهم؛ إنهم بشر أنانيونون يا ولدي، ولا يطمئن لهم بال حتى يروا دموع الآخرين منغمرة، وعلامات الحزن تملأ وجوههم.
كفكفت دمعها بسرعة، وتنسمت الهواء وعيناها مطبقتان، ثم أردفت:
- كن رجلا راسخا كالجبال، ولا تلن أو تضعف أمام هذه العواصف العابرة، وسأظل دائما في انتظارك؛ لأن هذه المملكة لن يدخلها غيرك.
- ما أجمل الحلم يا أمي! وما أجمل أن ألقاك فيه امرأة قوية لا تهب كلمات البشر القاسية!
ابتسمتْ، قبلت جبيني، ثم قالت بعدما سرحت ببصرها في أفق بعيد:
- آن لك أن تعود إلى عالمهم، وتظهر لهم أنك أقوى من كلماتهم، وأكثر قدرة على الانحناء لعواصفهم.. ابق رجلا.
طأطأت رأسي علامة الموافقة، ومسحت دموعي بيدي المرتعشتين، وبقيت شاخصا في عيني أمي، وفجأة سمعتُ أصواتا صاخبة، وبدا لي المصلون يغادرون المسجد وهم مختبئون في جلاليبهم الصوفية.
لم تنقطع صلتي بمملكة الحلم يوما؛ إذ ما إن تختنق نفسي بكلمات الورى، وتمتلئ ضجرا ومللا بأحاديثهم الفارغة حتى أجدني محمولا على أجنحة الحلم، وطفلا صغيرا نائما في أحضان أمه، يتوسد جسدها الحنون، ويتنصت على نبضات قلبها التي تتصاعد كلما احتضنته.
أتذكر كلمات شعراء وروائيين حول أمهاتهم، وبحثهم الدائم عنهن في عالم الحلم؛ إذ كلما أتخنهم الناس جراحا، وملأوا قلوبهم وجعا وألما، فروا إلى هذه المملكة الهادئة، والتمسوا الدفء والأمان في أناسها المختلفين عمن عهدوهم في حياتهم الواقعية.. فما أجمل الحلم إذا رأيت فيه وجه أمي مضاء متوهجا!.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |