|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
طلال حسن عبد الرحمن
2024 / 2 / 3
قصة للفتيان
ابنة السماء
طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــــــــ
ساكيل الشاعر ، معروف حتى في بابل ، ورث من أبيه ثوراً ، وحقلاً صغيراً ، لكن الشعر ، من أين ورثه ؟ هذا ما يريد أن يعرفه .
أخبرته المرأة العجوز سوتيتي مرة : ربما ورثت الشعر من أمك .
فردّ قائلاً : لكن أمي كانت أمية .
فقالت سوتيتي : أمك كانت شاعرة ، لم تكتب الشعر ، وقد ولدت شاعراً ، هو أنت .
ولاذ سكيل بالصمت ، لعل سوتيتي على حق ، فأمه كانت فعلاً رقيقة ، شفافة ، مرهفة الإحساس ، إنها حقاً شاعرة ، لا تنقصها غير الكلمات .
وذات يوم ، جاء ساكيل إلى سوتيتي ، وفاجأها قائلاً : أريد أن أتزوج .
وابتسمت سوتيتي ، وقالت : الفتيات هنا كثيرات ، قل لي من تريد ، وسأخطبها لك .
فقال ساكيل : أنت تعرفين ، إنني لا أريد فتاة عادية ، فأنا شاعر .
ولاذت سوتيتي بالصمت مفكرة ، ثم قالت : وجدتها ، لا تصلح لك زوجة فتاة غيرها .
تساءل ساكيل : من ؟
فردت سوتيتي قائلة : ابنة السماء .
وفغر ساكيل فاه متمتماُ : ابنة السماء !
ونظرت سوتيتي إليه ، وقالت : عيناها زرقاوان كسماء الصيف ، وشعرها ذهبي كأشعة الشمس ، وبشرتها حليبية كضوء القمر .
فمال ساكيل عليها ، وقال : أريدها .
فقالت ساكيل : اذهب ليلة الغد إلى البحيرة ، فالقمر سيكون بدراً ، وستراها تستحم هناك ، وقد وضعت ثيابها على الشاطىء ، فخذ قطعة منها ، وعد إلى بيتك .
وتساءل ساكيل : وكيف ستعرف ، هذه الفتاة ، أنني أنا الذي سرقتها ؟
فابتسمت ساكيل ، وقالت : لا تنسَ ، يا ساكيل ـ إنها .. ابنة السماء .
" 2 "
ــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، بعد حلول الليل ، تسلل سيكيل من القرية ، وتوغل في الغابة ، متجهاً نحو البحيرة ، لعله يرى فتاة السماء ، التي حدثته عنها سوتيتي .
ولاحت له البحيرة ، والقمر يسطع بدراً في أعالي السماء ، فتسلل خفية بين الأشجار ، وانحدر نحو الشاطىء الرملي .
وتوقف ساكيل ، وقلبه يخفق بشدة ، حين رأى فتاة شابة ، تعوم ساكنة على ضوء القمر الشاحب ، بعيداً عن الشاطىء ، وقد أولته ظهرها .
وتلفت حوله ، ورأى ملابسها على الرمال ، وكما طلبت منه سوتيتي ، أخذ قطعة من الملابس ، وطواها تحت إبطه ، ومضى بها إلى البيتِ .
وقبيل منتصف الليل ، سمع طرقاً على الباب ، فاعتدل في فراشه منصتاً ، أهي ابنة السماء ؟ من يدري ، ونهض سوتيل ، وفتح الباب ، وقلبه يخفق بشدة ، آه إنها فعلاً ابنة السماء .
وتساءل ساتيل : نعم ؟
وقالت الفتاة : أعطني قميصي .
ونظر ساكيل إليها متظاهراً بالدهشة ، فتابعت الفتاة قائلة : رأيتك تأخذه ، عندما كنتُ أستحم في البحيرة .
وحدق ساكيل فيها ، وقال كأنه يُحدث نفسه : عينان زرقاوان كسماء الصيف ، وشعر ذهبي كأشعة الشمس ، وبشرة حليبية كضوء القمر .
وتراجعت الفتاة قليلاً ، وقالت : أنا ابنة الحطاب ، وبيتنا في الطرف الآخر من القرية .
فاقترب ساكيل منها ، وقال : الطريق طويل وموحش ، دعيني أوصلك إلى البيت .
سارت الفتاة ، وسار ساكيل إلى جانبها ، فقالت دون أن تلتفت إليه : أنا .. رامات .
فقال ساكيل : وأنا الشاعر .. ساكيل .
وقالت الفتاة : أنا أحب الشعر .
وقبل أن يودعها ، على مقربة من بيتها ، توقف وقال : سأكتب قصيدة عن سماء الصيف ، وأشعة الشمس الذهبية ، وضوء القمر .
" 3 "
ـــــــــــــــــــ
أرق سكيل تلك الليلة ، ولم يغفُ إلا حوالي الفجر ، لم تؤرقه القصيدة ، التي أراد أن يكتبها عن الفتاة ، وإنما أرقته الفتاة نفسها .
أحقاً هي فتاة السماء ، كما قالت سوتيتي ؟ ربما هي كذلك ، ففيها الكثير من أهمّ ما في السماء ، ففيها شيء من القمر ، وفيها أيضاً شيء من الشمس .
إنه يعرف أباها الحطاب ، لقد رآه أكثر من مرة ، داخل القرية ، أو في الغابة ، ليس فيها شيء منه ، و .. من يدري ، لعلها تشبه أمها ، إنه لم يرَ أمها ، وعليه أن يراها ، و .. وأغفى عند الفجر .
وفي اليوم التالي ، مضى ساكيل إلى بيت رامات ، في الطرف الثاني من القرية ، الذي يقع قريباً من الغابة ، التي يحتطب منها الحطاب .
وعلى مقربة من البيت ، رأى امرأة تطعم الدجاج ، فاقترب منها ، وقال : طاب صباحكِ .
فردت المرأة ، دون أن تلتفت إليه : طاب صباحكَ .
وتحير ساكيل ، ماذا يفعل أو يقول ، فالتفتت المرأة إليه ، وقالت : إن كنت تسأل عن الحطاب ، أبي رامات ، فهو مازال في الغابة يحتطب .
ونظر ساكيل إلى المرأة ، وقال متسائلاً : أنتِ أمّ .. رامات ؟
فردت المرأة قائلة : نعم ، أنا أمها .
وتساءل ساكال : أين رامات ؟
فعادت المرأة تطعم الدجاجات ، وهي تقول : إنها في السوق ، تبيع البيض .
واستدار ساكيل ، ومضى نحو السوق ، فهتفت به المرأة : من أنت ؟
لم يتوقف ساكيل ، ولم يردّ عليها ، أهذه هي إذن أم فتاة السماء رامات ؟ إنها مثل الحطاب ، في هيئتها ولونها ، تمرة ممصوصة أحرقتها الشمس .
لعل هذا يؤكد ما ذهبت إليه سوتيتي ، إن رامات ابنة السماء ، فلها عينان زرقاون ، وشعر ذهبي ، وبشرة بلون ضوء القمر .
" 4 "
ــــــــــــــــــ
في مدخل السوق ، رآها تسير بعينيها الزرقاوين ، وشعرها الذهبي ، وبشرتها الحليبية ، وفي الحال ، أسرع إليها هاتفاً : رامات .
وتوقفت رامات ، وابتسمت فرحة حين رأته ، وبدل أن ترد عليه ، راحت تنشد :
عسى أن أرى وجهك ثانية بالسلامة
وأعود مبتهج القلب عبر بوابة بابل
وحين أعود سأحيي احتفال رأس السنة مرتين
سأقيم الاحتفال مرتين في السنة
ليقم الاحتفال ، ليبدأ الفرح
لتقرع الطبول بحضورك
وأصغى ساكيل إليها مبتسماً ، وحين انتهت من إنشادها ، قال : أنت تحفظين شعري .
وقالت رامات : وأحفظك أنتَ أيضاً .
وحدق ساكيل فيها ، وقال : هذا يعني أنك رأيتني من قبل ، وربما أكثر من مرة .
فقالت رامات : دون أن تراني ، على ما يبدو ، ولو مرة واحدة .
ونظر ساكيل إليها مبتسماً ، وقال : لو رأيت عينيك السماويتين ، لما نسيتك أبداً .
وقالت رامات : أما أنا ، فحالما أسمع أنك ستنشد شعرك ، أسرع إلى المكان ، حيثما كان ، وأندس بين المستمعين ، وأصغي إليكَ .
ولاذ ساكيل بالصمت ، منتشياً بما قالته رامات ، فاستطردت قائلة ، وهي تسير مبتعدة عن السوق : إنني عائدة إلى البيت ، تعال وامش ِ معي .
ومشى ساكيل إلى جانبها ، وقال : ذهبت قبل قليل ، إلى بيتكم ، فأخبرتني أمك أنك في السوق .
فقالت رامات : نعم ، بعت بيض دجاجاتنا .
والتفت ساكيل إليها ، وقال : رأيت أمك اليوم ، وقد رأيت أباك مراراً ، أنت لا تشبهينهما .
ولاذت رامات بالصمت لحظة ، ثم قالت : أنت محق ، إنني لا أشبه والداي .
وقال ساكيل : عيناك مثل سماء الصيف ، وشعرك مثل أشعة الشمس ، وبشرتك مثل ضوء القمر ، حقاً أنت ـ كما قالت سوتيتي ـ ابنة السماء .
وتوقفت رامات مفكرة ، وقد لاح بيتهم من بعيد ، وسرعان ما مضت مسرعة ، وهي تقول : الأفضل أن أواصل الطريق إلى البيت وحدي .
" 5 "
ـــــــــــــــــــ
عند غروب الشمس ، قصدت رامات بيت سوتيتي ، لابد أن تعرف الحقيقة ، ولن تعرفها إلا من سوتيتي نفسها ، التي قالت عنها ، إنها ابنة السماء .
وطرقت الباب مرة ومرتين ومرات ، لكن لا جواب ، أهي نائمة منذ الآن ؟ وأطلت إحدى الجارات من باب بيتها ، وتسارلت : ماذا تريدين ؟
فردت رامات قائلة : أريد الخالة سوتيتي .
فقالت الجارة : سوتيتي ذهبت عند اختها ، في القرية المجاورة ، وقد لا تعود قريباً .
تراجعت رامات عن الباب ، وهي تقول محبطة : أشكرك ، سأزورها فيما بعد .
لكن الأمر ، عند رامات ، لا يحتمل الانتظار إلى " فيما بعد " ، ووصلت البيت ، ودخلت غرفة الأم ـ زوجة الحطاب ، ووجدتها راقدة في فراشها .
وانتبهت الأم إلى رامات ، فنظرت إليها ، ثم تساءلت : ما الأمر ، يا بنيتي ؟
فردت رامات قائلة : لا شيء .
وأفسحت الأم مكاناً إلى جانبها في الفراش ، وقالت : تعالي إلى جانبي ، يا حبيبتي .
وتوقفت رامات مترددة لحظة ، ثم اندست إلى جانب أمها ، وقالت : أمي ..
وشعرت الأم بنبرة غريبة مؤثرة في صوت رامات ، فالتفتت إليها ، وقالت : نعم حبيبتي .
وتنهدت رامت ، وقالت : آه ليتك حقيقة أمي .
ولاذت الأم بالصمت ، فلم تتوقع أن تسمع من رامات ، في يوم ما ، ما سمعته منها ، واستطردت رامات قائلة : أرجوكِ ، أصدقيني ..
فقالت الأم : عزيزتي ، كنتِ وستبقين ابنتي .
ونظرت رامات إليها ، وقالت : انظري إليّ ، عينان زرقاوان ، وشعر ذهبي ، وبشرة بلون الحليب ..
ولاذت الأم ثانية بالصمت ، فقالت رامات : لم أعد طفلة صغيرة ، صارحيني بالحقيقة .
ومدت الأم يديها ، وضمت رامات إلى صدرها ، وقالت : هذا ما أردت أن أقوله لك ، في يوم من الأيام ، وربما آن أن تعرفيه الآن .
وصمتت الأم لحظة ، ثم واصلت كلامها قائلة : زوجي الحطاب ، جاء بكِ ذات يوم من الغابة ، وكنتِ ملفوفة بغطاء أبيض جميل ، مازلتُ أحتفظ به .
ومرة أخرى صمتت الأم ، لكن رامات لم تتفوه بشيء ، فقالت الأم : سألته ، من أين لك هذه الطفلة الجميلة ؟ فقال لي ، إنها هدية من السماء .
" 6 "
ــــــــــــــــــ
طرق الباب ، ففزت الأم من غفوتها ، وإذا هي وحيدة في فراشها ، وتلفتت حولها حائرة ، ترى أين مضت رامات ؟ كانت إلى جانبها ، قبل أن تغفو .
وطرق الباب ثانية ، فنهضت الأم من فراشها ، وقد حلً الليل ، وساد الظلام ، فأسرعت إلى الباب الخارجي ، عبر الفناء المعتم تقريباً ، وفتحت الباب .
ورغم عتمة أول الليل ، عرفته ، إنه الشاعر ساكيل ، فبادرته قائلة : أهلاً ومرحباً ، تفضل .
فقال ساكيل : أردت أن أقابل الحطاب .
وردت الأم قائلة : صديقه مريض ، وذهب ليعوده ، قد يتأخر بعض الشيء .
ونظر ساكيل إليها صامتاً ، ثم قال : الحقيقة .. أردت أن أرى رامات .
وقالت الأم مندهشة : رامات ! ظننتها معك ، إنها ليست في البيت .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لا أدري ماذا دهاها ، سألتني من أين جاءت ، فأخبرتها بالحقيقة ..
لم ينتظر ساكيل أن تنتهي الأم من كلامها ، فقد سار مبتعداً ، ووقفت الأم بالباب ، تراقبه وهو يتلاشى في الظلام ، حتى اختفى .
إن ساكيل يعرف أين يجد رامات ، مادامت قد عرفت الحقيقة ، وبالفعل وجدها جالسة على حافة البحيرة ، والقمر يصعد شيئاً فشيئاً من أعماق المياه .
وجلس ساكيل إلى جانبها صامتاً للحظة ، ثم راح ينشد :
عسى أن أرى وجهك ثانية بالسلامة
وأعود مبتهج القلب عبر بوابة بابل
وحين أعود سأحيي احتفال رأس السنة مرتين
سأقيم الاحتفال مرتين في السنة
ليقم الاحتفال ، ليبدأ الفرح
لتقرع الطبول بحضورك
والتفتت رامات إليه ، وقالت : ساكيل .
فقال ساكيل : ها أنا أرى وجهك السماوي ثانية ، وأريد أن أره دائماً .
وابتسمت رامات ، وقالت : هذا ما أردته ، ما إن رأيتك للمرة الأولى ، وقد تحقق ذلك ، والفضل يعود لسوتيتي .
وتمتم ساكيل : سوتيتي !
وكتمت رامات ضحكتها ، وقالت : إن وجودي ، تلك الليلة المقمرة ، في البحيرة ، لم يكن صدفة .
وفتح ساكيل عينيه دهشة ، وقال : سوتيتي !
وهزت رامات رأسها ، فمدّ ساكيل يده ، وأمسك يدها ، وأنهضها برفق ، وهو يقول : الوقت متأخر ، فلنعد إلى البيت .
ونهضت رامات ، وسارا معاً ، جنباً إلى جنب ، على ضوء القمر ، بين أشجار الغابة ، متجهين إلى البيت ، فقال ساكيل : رامات ..
وردت رامات : نعم ، ساكيل .
فقال رامات : إذا جاءتنا بنت ، أتعرفين ماذا يجب أن نسميها ؟
وتساءلت رامات مبتسمة : ماذا يجب أن نسميها ؟
فردّ ساكيل قائلاً : سوتيتي .
14 / 7 / 2015
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |