حول مفهوم النظرية السوسيولوجية (2)

حسام الدين فياض
2024 / 1 / 26

" يشكل ظهور النظرية في بناء العلم دالة على نضج بنائه الفكري واكتماله، وبرغم أن النظرية هو المكون الأخير الذي يكتمل به بناء العلم، إلا أنها تظل الوحدة القادرة على منح العلم هويته. وهي المفهوم الفعال القادر على توجيه إنجازات العلم وحركته في دراسة الظواهر التي تشكل مجال فاعليته وإطار بحثه وإدراكه " (علي ليلة، بناء النظرية الاجتماعية، ص: 9).
يُنظر إلى النظرية في علم الاجتماع باعتبارها المحك العلمي الذي يفسر لنا كافة الحقائق السوسيولوجية التي أمكن ملاحظتها بأساليب ووسائل علمية للوصول إلى نتائج ملموسة وواقعية. لذا تعتبر النظرية جزءاً أساسياً من الحقيقة الواقعية في حياتنا اليومية، وهي الأساس الكامن وراء تفسير كل فرد لما يفعله ويشاهده يومياً من ظواهر اجتماعية وفيزيقية. كما أنها عملية تنظير الأفراد لواقعهم البيئي والاجتماعي، حيث يؤلفون بيئتهم الاجتماعية والفيزيقية في إطار مجموعة من الأفكار والإيديولوجيات والتجارب التي تفسّر الحقيقة التي يعيشون فيها.
ترتكز النظرية الاجتماعية الحديثة على فكرة عامة مؤداها أن الحياة الاجتماعية يمكن ردها إلى قوانين علمية، تسمح لنا بالتنبؤ بنتائجها متى توفرت الظروف المهنية لتحقيق مقدماتها وعواملها. كما أن النظرية الاجتماعية، لا تتكلم فقط عن العمليات والصراعات والمشكلات الاجتماعية، بل هي كذلك جزء من تلك العمليات السببية الفاعلة والمواقف التي تعمل فيها تلك الآليات السببية. بمعنى آخر النظرية برأي عالم الاجتماع نيقولا تيماشيف تمثل: " أعلى درجات المعرفة " لأنها الوسيلة لإقامة المعرفـة عن العالم الاجتمـاعي عبر الجهود المتراكمة لرجال العلم الذين يتخصصون في علم بعينه تنتهي إلى صياغة مجموعة كبيرة من التعميمات التي تنتمي إلى نماذج متعددة ومختلفة ومن هنا تظهر الحاجة الى تجميع شتات النتائج المبعثرة حتى نتمكن من الوصول إليها وتوحيدها ويتحقق هذا التوحيد ببناء النظرية، وبالتالي فإنه يحدد مفهوم النظرية بوصفها مجموعة من القضايا التي تتوافر فيها الشروط التالية:
- ينبغي أن تكون المفهومات التي تعبر عن القضايا محددة بدقة.
- يجب أن تتسق القضايا الواحدة مع الأخرى.
- أن توضع القضايا في شكل يجعل من الممكن اشتقاق التعميمات القائمة اشتقاقاً استنباطياً.
- أن تكون هذه القضايا خصبة ومثمرة تستكشف الطريق لملاحظات أبعد مدى وتعميمات تنمي مجال المعرفة.
كما تتصف النظرية بأنها على درجة عالية من التعقيد حيث هناك الكثير من العوامل المتباينة والمتداخلة في تركيب البناءات الاجتماعية المختلفة، بالإضافة إلى اختلاف الطبيعة البيولوجية الاثنولوجية للأفراد داخل البناءات البسيطة والمركبة وعلاقاتها بعضها ببعض. فالنظرية عملية ديناميكية لمحاولة تفسير الحقيقة الاجتماعية تفسيراً نظرياً.
ويحاول علماء الاجتماع من خلال السعي إلى فهم الواقع الاجتماعي تفسير الحقيقة الاجتماعية للبيئات الاجتماعية والفيزيقية المختلفة في إطار وضع نموذج أو مثال تعبر عن الحقيقة المميزة لنمط معين من المجتمعات. ويتكون هذا النموذج من عنصرين أساسيين:
1- تصور المجتمع على أنه يضم مجموعة من الظواهر الاجتماعية ترتبط بعلاقات تفاعلية بين الأشخاص في إطار عمليات التنشئة الاجتماعية وأنماط السلوك الجمعي والأدوار التي تؤديها الأفراد في المجتمع.
2- افتراض قيام علاقات سببية بين هذه النظم وتتخذ هذه النماذج في علم الاجتماع ثلاثة أشكال أساسية:
أ- تصور المجتمع على أنه نسقاً متكاملاً يؤدي وظائفه بطريقة منظمة ومعيارية ويتمثل في المدخل البنائي - الوظيفي.
ب- تصور المجتمع على أنه نسقاً ديناميكياً متغيراً يسير على الصراع الراديكالي القائم على أساس التنافس والاستقلال ويتمثل في المدخل المادي التاريخي.
ج- تصور المجتمع على أنه مجموعة من الأشياء التي يمكن أن تدرس بالاعتماد على الملاحظة والمقارن والتجربة ويتمثل في المدخل الوضعي.
وعلى الرغم من اختلاف الرؤيــة في تحليل مفهوم النظرية، فإن هناك اتفاق عاماً بأن النظرية الاجتماعية هي محاولة علمية للسيطرة على الظواهر الاجتـماعية من خلال تصورات منطقيـة، ومن ذلك يمكن إيجاز أبرز التعاريف والمفاهيـم للنظرية الاجتماعية:
1- روبرت ميرتون: " مجموعة من التصورات المترابطة منطقياً، تلك التصورات المحدودة والمتواضعة، ليسـت الشاملة المتضمنة كل شيء ".
2- تالكوت بارسونز: " النظرية تتصل بكيان من المفاهيم المترابطة منطقياً وهذا لا ينفي وجود مجموعة من القضايا العامة ذات العلاقات التي تربــط في مــــا بينـها، ويمكـن أن تألف كياناً نظـرياً ".
3- رالف داهرندورف: " مجموعة قوانين منطقية مستخرجة من الواقع الاجتماعي يستخلص منها استنتاجات دقيقة لا تعكس خصوصية متميزة تصفها مجموعة بشرية صغيرة لها فاعلية في تفسير وشرح سلوك وتفكير الناس الذي بلوره واقعهـم الحقيقي ".
4- برات وايت: " تشمل على مجموعة من الفروض التي تكون نسقاً استنباطياً بمعنى أنها تنظم في ترتيب متتابع فيه بعض الفروض اللاحقة تلحـق بعـض الفروض المتقـدمة ".
5- بلالوك: " باعتبارها تحتوي على قضايا أشبه بقوانين تربط بين متغيرين أو أكثر في نفس الوقت ".
6- جورج هومانز: " هي مجموعة من المفاهيم التي تشكل من خلال العلاقات بينها منظوراً مفاهيمياً للواقع الاجتماعي. بعض هذه المفاهيم وصفية تحدد وجود المضمون، والبعض الآخر تحليلي، تشير فيه إلى سمات وخصائص المضمون... وتتألف النظرية من مجموعة افتراضات، يعبّر كل منها عن علاقة بين سمتين أو أكثر، بحيث تشكل هذا الافتراضات معاً نسقاً قابلاً للاستنباط، وبحيث تكون المفاهيم والافتراضات قابلة للتحقق من صحتها إمبيريقياً.
7- محمد عاطف غيث: " مجموعة من المبادئ وتعريفات مترابطة تفيد تصورياً في تنظيم جوانب مختارة من العالم الامبيريقي على نحو منسق ومنظم، إذا كان هيكلاً مكوناً من قضايا مترابطة منطقياً وقابلة للتحليل الامبيريقي ".
8- علي ليلة: " هي خبرة علمية مقننة مستندة إلى المعرفة الصادقة ". أو مجموعة من القضايا المتساندة التي تساعدنا على تفسير التفاعلات الحاصلة بالحياة اليومية والتنبؤ بمسارها.
رغم التباين بين علماء الاجتماع في معنى النظرية، أو حتى في إمكان وجودها يمكننا بناءً على ما تقدم من تعريفات وشروط، أن نقدم تعريفاً يجمع العناصر والمعاني الأساسية للنظرية ويتكون هذا التعريف من مجموعة من التعدادات التي تمثل في ترابطها معنى النظرية الاجتماعية في علم الاجتماع، وهي كالآتي:
* تشكل النظرية نسقاً معرفياً منظماً ومنطقياً.
* يتضمن هذا النسق تصوراً للواقع الذي يتناوله.
* ويتكون من قضايا ومفاهيم وتعريفات وافتراضات.
* يوضّح العلاقات بين الوقائع وانتظامها بطريقة دالة.
* موضحاً ومبيناً أسباب وظروف تشكل هذا الواقع وتبدله.
* يشمل بُعداً إمبيريقياً، ويتضمن مكونات الواقع ومعطياته.
* بقصد تفسير هذا الواقع وفهمه، وإمكانية التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه مستقبلاً.
بناءً عليه يمكننا تعريف النظرية الاجتماعية على أنها: " تمثل تركماً مترابطاً ومفاهيم وتصورات وقوانين تأخذ شكلاً منسقاً ومرتباً بقصد تفسير الأحداث الاجتماعية وبلورة قوانين منطقية لها القدرة على التعبير من الواقع الاجتماعي والتنبؤ بالمستقبل ". أو " مجموعة من القضايا المترابطة والمتناسقة منطقياً في تفسير ظواهر المجتمع ونظمه ومشكلاته على أساس من التجريد وقوانين المنطق والربط بين العلاقات القائمة بين ظواهر المجتمع بهدف تأكيدها أو رفضها أو تعديلها طبقاً للمشاهدات الواقعية في الواقع الاجتماعي الملموس لبيئة معينة ". أو " عبارة عن مجموعة مترابطة من مفاهيم والتعريفات والقضايا التي تكون بمثابة رؤية منظمة للظواهر عن طريق تحديدها للعلاقات بين المتغيرات بهدف تفسيرها والتنبؤ بها ".
نستنتج مما تقدم أن مفهوم النظرية يتكون من مجموعة من الوحدات الأساسية منها المفاهيم، وهذه المفاهيم لا بد أن تكون متربطة. وهناك القضايا، وهذه القضايا لا بد أن تكون مترابطة ومنسقة منطقياً ومتدرجة هذا من جانب، ومن جانب آخر يجب أن يكون الكيان النظري تم بناءً على الإسنادات الإمبيريقية.
ويبدو أن عدم الاتفاق على معنى النظرية الاجتماعية تعكسه الخلافات الفكرية بين الباحثين حول الموضوع الأساسي للنظرية، ويرجع هذا التباين إلى عوامل كثيرة تؤثر في المنظّر عند تعريفه للنظرية منها الإيديولوجية التي يؤمن بها والمرحلة التاريخية التي يعيشها ونظرته للوظيفة التي تقوم بها النظرية، وإلى اختلاف المجتمعات المدروسة من فترة زمنية إلى أخرى، وإلى مواقعها على السلم التطوري الحضاري والمادي والمعنوي، علاوةً على التباينات في استخدام المنهج النظري لدى كل منظّر، وغيرها من العوامل المؤثرة.
إلا أن النظرية الاجتماعية بطبيعة الحال جاءت نتيجة بحث علمي متكامل يتوفر فيه جميع شروط البحث العلمي، ومن ثم تكون قادرة على الكشف عن العلاقات الوظيفية بين ظواهر معينة وتفسيرها، وتوضيح المبادئ والقوانين المنظمة لها. فالنظرية صياغة صريحة لعلاقات تصورية بين مجموعة من المتغيرات أو المفاهيم يتم في ضوئها تفسير فئة من العلاقات المتبادلة بين ظاهرتين أو أكثر والتي يمكن تحديدها تحديداً تجريبياً. إذن، النظرية بهذا المعنى نسق منظم من القضايا تشبه القانون العلمي، وهي تتناول جميع جوانب المجتمع أو الحياة الاجتماعية ويطلق على هذا النسق المنظم من القضايا والمبادئ التفسيرية مصطلح نظرية، وفي هذا المعنى يتم تعريف النظرية على أنها الإطار التفسيري للتعميمات التجريبية عن ظواهر المجتمع، وهي تشمل: مفهومات أو متغيرات وعلاقات تصورية العلاقات بين الظواهر الاجتماعية، وتعميمات تجريبية (افتراضات تعتمد على حقائق واقعية مستمدة من الدراسة الميدانية) تشير إلى العلاقات المنظمة بين ظاهرتين أو أكثر.
مثال: عندما يدرس الباحثون العلاقة بين الأسرة والتحضر يفترضون أن التحضر يُحدث انعزال الأسرة عن المجتمع ويحد من علاقتها الاجتماعية، وعندما يثبت صدق هذا الافتراض من خلال التعميمات التجريبية في عدة مجتمعات إنسانية نصل إلى نتيجة عامة مؤداها: كلما زاد تحضر المجتمع انخفضت العلاقات الاجتماعية للأسرة، هذه النتيجة العامة تعبر عن افتراضات (تعميمات تجريبية متعددة أثبتت في مجتمعات متفرقة وأزمنة متفرقة وهذه النتيجة يمكن أن تكون نظرية).
من هنا يرى العلماء أن النظرية مدرسة فكرية في علم الاجتماع، وتعني النظرية مجموعة من القواعد والمبادئ الإجرائية التي تحدد سياسة الباحث في علم الاجتماع ومسلكه في دراسة ظواهر المجتمع، وتعد النظرية بما تحويه من اتجاهات نظرية وقواعد منهجية بمثابة الإطار المرجعي الذي يلجأ إليه الباحث في دراسته ليوجه مسار الدراسة ويحدد فروضها الأساسية، ولذلك من الممكن أن نجد تماثل فكري بين مجموعة من الباحثين يندرج تفكيرهم تحت مدرسة فكرية واحدة مثل المدرسة الوظيفية والجدلية والصراعية والسلوكية وغيرها وهذا النسق الفكري هو أساس النظرية.
ولكن بالمقابل، نجد أن النظرية الاجتماعية تعتمد في صياغة مقولاتها بشكل أساسي على الواقع الاجتماعي والأحداث الجارية في الحياة الاجتماعية. ولما كانت الوقائع والأحداث متبدلة ومستمرة في التغيير والتعديل، فإن مفاصل النظرية في حالة تبدل وتباعاً. أي لا توجد نظرية اجتماعية ثابتة في صيغتها ورؤيتها وبراهينها بشكل دائم بل تتطلب بين الفينة والأخرى تعديلات وتبديلات في نصوصها ومفاهيمها بناءً على مستجدات الأحداث الدائرة في الواقع الاجتماعي المدروس. لكن مهما كان الاختلاف في المنطق التعريفي بين المنظرين فإن ذلك لا يؤثر على نهايات المصب المعرفي وهو بناء نموذج نظري (سوسيولوجي) يستقرئ الواقع المعاش فهماً، وتحليلاً، وتفسيراً.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي