|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
آصف ملحم
2024 / 1 / 19
في الـ 30 من ديسمبر الماضي قامت أوكرانيا بهجوم واسع النطاق على مدينة بيلغورود، أدّى إلى قتل وجرح العشرات. وقتها أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنّ الهجوم تمّ بوساطة راجمات الصواريخ فيلخا أوكرانية الصنع، وفامبير Vampire تشيكية الصنع.
اتّهمت المتحدثة باسم الخارجية الروسية بريطانيا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بتحريض أوكرانيا على القيام بمثل هذه الهجومات في الداخل الروسي. كما أن روسيا دعت إلى جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي لمناقشة الموضوع بحضور ممثل جمهورية التشيك.
في الواقع، بدأت جمهورية التشيك بتوريد منظومات فامبير منذ منتصف نيسان 2022، ولكن الجيش الأوكراني كان يستخدمها في المناطق التي يعتبر أن روسيا احتلتها. يصل مدى صواريخ هذه المنظومة إلى حوالي 40 كيلومتراً.
سقطت جميع الصواريخ في مركز مدينة بيلغورود في يومَ السبت؛ العطلة الرسمية في روسيا، قبل الاحتفال بأعياد رأس السنة بيوم واحد. في هذا التوقيت الحسّاس تكون الأسواق مزدحمة ًبالناس، التي تتجول بهدف شراء المواد الغذائية والهدايا تحضيراً للاحتفال بقدوم السنة الجديدة. لذلك فإن الغاية من هذا الهجوم هو إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا في صفوف المدنيين؛ الأمر الذي لا بدّ أن يستدعي (رداً روسياً غاضباً)، من وجهة نظر المخططين للهجوم.
علاوةً على ذلك، فإن الحساباتِ المرتبطةَ بتنفيذ مثل هذه الضربات تحتاج إلى الكثير من الوقت لتحضير مكان تمركز الراجمات، خاصة أن منطقة إطلاق الصواريخ هي بلدة فولتشانسك الأوكرانية الحدودية التابعة لمقاطعة خاركوف، التي تبعد عن مدينة بيلغورود حوالي 42 كيلومتراً، في حين أن بيلغورود تبعد عن الحدود الأوكرانية حوالي 38 كيلومتراً في تلك المنطقة. لذلك فإن الادّعاء الأوكراني بأن هذه الضربات كانت رداً على القصف الروسي لأوكرانيا في اليوم السابق يجانب الحقيقة تماماً؛ أي أنه تم التخطيط للموضوع قبل وقت كافٍ من تنفيذه!
الثابت في الموضوع هو أن كييف ما كانت لتقوم بمثل هذه الضربات دون الحصول على موافقة أمريكية-بريطانية مسبقة. لذلك يبرز السؤال:
لماذا استخدمت أوكرانيا صواريخ تشيكية، ولم تستخدم راجمات هيمارس الأمريكية؛ فمدى صواريخ الأخيرة كافٍ للوصول إلى مركز المدينة أيضاً؟!
قد يقول قائل: إنّ الغاية من حادثة بيلغورود هو تعطيل مفاوضات تبادل الأسرى بين روسيا و أوكرانيا، التي كانت تجري بوساطة الإمارات العربية المتحدة! ولكن، اكتملت هذه الصفقة بتاريخ 3 يناير الجاري، إذ استعادت روسيا بنتيجتها 248 أسيراً، أما أوكرانيا فاستعادت 230 أسيراً. يمكن استبعاد هذه الفرضية تماماً، لأن الولايات المتحدة نفسها شاركت في المفاوضات التي جرت في دبي من جهة. كما أنه كان من الممكن أن يتم تأجيل مفاوضات التبادل وليس أكثر؛ خاصةً أن آخر عملية تبادل للأسرى بين الطرفين حصلت في 7 آب 2023.
علاوة على ذلك، زار الرئيس بوتين الإمارات والسعودية بتاريخ 6 ديسمبر 2023 واُستقبِل استقبالاً حافلاً هناك، وهذا يشهد على متانة العلاقات الروسية-الخليجية، خصوصاً بعد انضمام السعودية والإمارات إلى مجموعة بريكس. لذلك من الصعب ربط حادثة بيلغورود بمحاولة واشنطن إعاقة تمدّد النفوذ الروسي-الصيني في منطقة الشرق الأوسط.
قادنا التحليل إلى الكثير من الحقائق الجديرة بالبحث والدراسة والمتابعة، بعضها ذو أبعاد تاريخية عميقة، والآخر مرتبط بأحداث لم يمضِ عليها الكثير من الزمن، وأخرى ما زالت تتفاعل حتى الآن.
وهكذا، لكي نفهم الخلفيات السياسية الحقيقية للقضية سنبدأ التحليل بالتعرف على ماهية الوحدة العسكرية التي نفّذت هذه الضربة وترابطاتها في أوكرانيا وخارجها!
في مقاطعة خاركوف، في الجانب الأوكراني تحارب قوة عسكرية خاصة اسمها كراكين Kraken، وهي أكثر الوحدات العسكرية نشاطاً في تلك المنطقة، فلقد نفّذت العديد من العمليات العسكرية في تلك المنطقة.
أسّس هذه المجموعة كل من كونستانتين نيميتشيف وسيرغي فيليتشكو (الملقب بـ تشيلي)، وكلاهما حارب في صفوف فوج (آزوف) بعد عام 2014.
كان فوج (آزوف) عند تأسيسه كتيبةً، أسسها آندريه بيليتسكي في عام 2014، جميع أعضائه يتبنون الإيديولوجيا النازية والفكر اليميني المتطرف.
وُلد بيليتسكي في مقاطعة خاركوف في عام 1979. مذ كان طالباً في الجامعة انخرط في نشاط العديد من المنظمات والأحزاب والخلايا ذات التوجه اليميني المتطرف في مختلف بلدان أوروبا الوسطى والشرقية.
أسس في خاركوف عامَ 2006 منظمة عسكرية نيونازية سماها (أبطال أوكرانيا) أو (باتريوتي أوكرانيا)، كانت بمثابة الجناح العسكري للحزب السياسي المسمى (الجمعية الوطنية الاجتماعية)، إذ كان بيليتسكي عضواً فيه. شاركت هذه المنظمة بالعديد من الأعمال المسلحة بالتعاون مع شرطة مقاطعة خاركوف، مثل مكافحة الهجرة غير الشرعية وتجارة المخدرات. كما أنها شاركت في العديد من المظاهرات وأعمال الشغب بين عامي 2006-2014.
بين عامي 2014-2016، أصبح بيليتسكي عضواً في مجلس الرادا عن الجمعية الوطنية الاجتماعية، وبين عامي 2016-2019 كان ممثلاً لحزب (الفيلق الوطني) في مجلس الرادا.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن 40 نائباً في مجلس النواب الأمريكي طالبوا وزير الخارجية السابق مايك بومبيو بوضع فوج (آزوف) على قوائم المنظمات الأجنبية الإرهابية، إلا أن الأمر لم يتم. بومبيو نفسه كان يرأس السي آي إيه قبل تولّيه حقيبة الخارجية بسنة. وهذا يدل على العلاقة الجيدة بين النازيين الأوكرانيين والإدارات الأمريكية.
لن نخوض طويلاً في الحديث عن الجماعات والحركات والأحزاب والمنظمات النازية، فلقد شهدت جميع الدول التي انضوت ضمن الكتلة الاشتراكية تصاعداً للمزاج النازي بدرجات متفاوتة في فترة التسعينات، فقد نعود إلى هذا الموضوع في مناسبات أخرى. لكن العرض السابق يرينا بوضوح أن قادة كراكين نشأوا في هذه البيئة النازية، التي كان بيليتسكي من أبرز إيديولوجييها.
أحد الأفكار الرئيسية التي تلقفها النازيون الأوكرانيون في عام 2016 هي مبادرة البحار الثلاثة، أي توحيد الفضاء المتوضّع بين بحر البلطيق و البحر الأسود و البحر الأدرياتيكي، أي دول أوروبا الوسطى و الشرقية.
بيليتسكي في مقابلة له مع وكالة فوكوس الأوكرانية في عام 2016 قال: (فكرتنا أننا لسنا شرق ولا غرب، نحن آنترماريوم Intermarium، ما بين البحار، مجتمع بحري البلطيق والأسود. يوجد تاريخ مشترك لأوروبا الشرقية، بالتأكيد تاريخ معقد، ولكن هذا هو الحال مع جميع الشعوب المتجاورة).
فكرة الآنترماريوم هي فكرة قديمة متجددة، كان الأمير آدم يرزي تشارتوريسكي أول من طرحها أثناء الثورة البولندية في عام 1830، أي بعد تفكك الكومنويلث البولندي-الليتواني، وكان الهدف من طرح هذه الفكرة إيجاد تحالف بزعامة بولندا لحماية الدول الأوروبية من التوسع الروسي (انظر (1)).
يعتبر ظهور بولندا من جديد على خارطة العالم من أهم نتائج الحرب العالمية الأولى؛ ففي عام 1918 أعلن مجلس بولندا استقلالها، وأصبح يوزف بيلوسودسكي أول رئيس للدولة الناشئة. أعاد بيلوسودسكي طرح فكرة الآنترماريوم من جديد، وأعطاها اسماً جديداً (فيدرالية ما بين البحار)، وهي في الحقيقة إيديولوجيا تدعو إلى توحيد شعوب أوروبا الوسطى لمواجهة الأخطار المحتملة من الإمبراطورية الروسية والألمانية.
أعاد طرح فكرة الآنترماريوم بنسختها الثالثة الرئيس البولندي الحالي آنجي دوده في عام 2015 بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية في ذلك العام، وتمّت تسميتها (مبادرة البحار الثلاثة). تستند على ضرورة إنشاء تكتل تعاوني بين البحار الثلاثة (بحر البلطيق، البحر الأسود، البحر الأدرياتيكي). في نفس الوقت طرحت الرئيسة الكرواتية كوليدا غرابار كيتاروفيتش فكرة مماثلة، تهدف إلى توحيد شعوب أوروبا الوسطى ضمن تكتل ما.
في الواقع، كانت منطقة ما بين البحار الثلاثة (بحر البلطيق والأسود والأدرياتيكي)، ولازالت، ساحة صدام بين إمبراطوريات الشرق والغرب؛ الإمبراطورية الروسية والعثمانية في الشرق والإمبراطورية الألمانية والفرنسية والبريطانية في الغرب. لذلك فهي دائمة البحث عن تكتل ما يجمعها لكي تُحصن نفسها، ولقد طرحت العديد من الأفكار والآراء، ولكن حتى الآن لم يُكتب لأي صيغة تكاملية الديمومة والثبات.
فضلاً عن ذلك، تاريخ علاقات بولندا مع ألمانيا وروسيا وفرنسا وبريطانيا معقّد للغاية، مليء بالخلافات والمشاكل، ومشروع تأسيس ما يسمى (بولندا العظمى) يظهر ويختفي بين الفينة والأخرى حسب الظروف السياسية الراهنة، ولقد تحدثنا عن تاريخ بولندا وإمكانية إحياء هذا المشروع في مقالات سابقة (انظر (1)).
علاوة على ما سبق، فإن الحزب الحاكم في بولندا، حزب القانون والعدالة، هو حزب شعبوي، يتركّز معظم أنصاره شرقي بولندا، وهو مُعادٍ لـ روسيا وأوروبا والولايات المتحدة، لذلك من الأرجح ألّا يصغي إلى أي دعوات ويسير وفق رؤيته الخاصة. فلا عجب أن تكون بولندا إحدى المحطات الهامة في جولة الرئيس الأمريكي الأوروبية، بتاريخ 21 شباط 2023، وإلقاء خطاب مشحون بالعواطف في وارسو، كان جُلُّه موجّهاً ضد روسيا، بعد عدة ساعات من إعلان الرئيس بوتين الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (انظر (2)).
لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن العديد من المصادر الصحفية تؤكد أنه لا يوجد أي علاقات بين الرئيس البولندي دوده والنازيين الأوكرانيين، كما أن تاريخ العلاقات بين بولندا والنازيين في غرب أوكرانيا حافل بالدماء؛ فلقد قتلت بولندا منهم الكثير في منطقة كارباتيا بعد الحرب العالمية الثانية. بالمقابل فإن حزب بيليتسكي (الفيلق الوطني) يعزز علاقاته مع اليمين المتطرف في كل الدول الأوروبية، ولكن علاقاته مع بعض المسؤولين الكرواتيين متطورة إلى حد بعيد.
في عام 2016 بين 25 و26 من آب انعقدت القمة الأولى لمبادرة البحار الثلاثة في كرواتيا في مدينة دوبروفنيك الواقعة على شاطئ البحر الأدرياتيكي. كانت هذه القمة على أعلى المستويات، حضرها: إستونيا، ليتوانيا، لاتفيا، بولندا، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، هنغاريا، النمسا، سلوفينيا، كرواتيا، اليونان، بلغاريا، رومانيا.
انعقدت القمة الثانية ما بين 6-7 يوليو 2017 في وارسو، وحضرها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. في هذه القمة تحديداً بدا بوضوح أنّ الغاية الحقيقية من هذا التكتل هو تحويل بولندا إلى مركز لتوزيع الغاز، سواء الغاز الأمريكي أو الغاز الطبيعي النرويجي، وبالتالي تقليص التبعية لروسيا في موضوع الغاز. ولقد ركّز ترامب وفي خطابه على تصدير حوامل الطاقة والتكنولوجيا إلى دول البحار الثلاثة.
على هذه الخلفية، بهدف عرقلة مشروع السيل الشمالي-2، وبالتالي التخلص من اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي، وقّع ترامب في 2 آب 2017 على قانون عقوبات جديد على الشركات والأشخاص الذين يساهمون في بناء أنابيب الطاقة الروسية. على الرغم من أن هذا القانون أدى إلى تضرر مجموعة من الشركات الألمانية والفرنسية والنمساوية، التي كانت تعمل في هذا المشروع، إلا أن الأوروبيين كالعادة رفعوا أصواتهم لفترة قصيرة من الزمن ثم رضخوا للأمر الواقع.
بولندا نفسها لم تخفِ رغبتها في أن تكون مركزاً إقليمياً لتوزيع الغاز، ليس فقط الغاز الأمريكي المسال بل أيضاً الغاز القطري، وبالتالي احتكار سوق الغاز في القارة الأوروبية كلها. ولقد عبّر عن ذلك بوضوح نائب رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي في تصريح للصحفيين على هامش قمة البحار الثلاثة الثانية. كما أن بولندا لا تخفي رغبتها في إضعاف ألمانيا التي كان الفضل الأكبر في طفرتها الاقتصادية للغاز الروسي الرخيص.
يبدو أنه كان هنالك رغبة أمريكية-بريطانية-بولندية كبيرة بالتخلص من الغاز الروسي، فاضطر هؤلاء إلى القيام بعمل إرهابي بتفجير أنابيب السيل الشمالي 1 و2 في بحر البلطيق بتاريخ 26 سبتمبر 2022. كما يبدو أن بولندا نفسها ضالعةٌ بشكل مباشر بعملية التفجير هذه؛ ففي مقالة منشورة مؤخراً في صحيفة وول ستريت جورنال بتاريخ 8 يناير الجاري يؤكد الكاتب أن السلطات البولندية تتهرب من تقديم المعلومات المطلوبة للجان التحقيق الدولية. وهذا يعني أنه يوجد عند بولندا ما تخفيه حول الموضوع.
يقودنا البحث والتحري أيضاً إلى بعض الشخصيات الأمريكية، التي اهتمت بشكل كبير بمبادرة البحار الثلاثة، وهذه الشخصيات ذات ارتباط واسع بالمؤسسة الصناعية العسكرية الأمريكية و وزارة الدفاع الأمريكية. لن نتحدث عن جميع هذه الشخصيات، وسنكتفي بإيراد بعض المعلومات عن الجنرال المتقاعد في مشاة البحرية الأمريكية جيمس لوغان جونس. جونس كان رئيساً للمجلس الأطلسي، شارك في حروب فيتنام والعراق والبوسنة والهرسك ومقدونيا، كما كان مساعداً لوزير الدفاع الأمريكي وليام كوهين في الفترة الرئاسية الثانية لكلينتون، وشغل منصب مستشار الأمن القومي في إدارة أوباما.
في قمة المجلس الأطلسي في اسطنبول بتاريخ 28 أبريل 2017، قال جونس تعليقاً على مبادرة البحار الثلاثة: (هذا حقاً مشروع عابر للأطلسي وله آثار جيوسياسية وجيواستراتيجية وجغرافية اقتصادية هائلة). وبالتالي: (نحن بحاجة إلى تنمية مصالح الإدارة الأمريكية الجديدة). وأضاف (من خلال تقوية منطقة البحار الثلاثة، وبالتالي أوروبا بأكملها، فإن هذه المبادرة ستعزز التعاون في المجتمع الأطلسي بأكمله).
في الحقيقة لم تخفِ الولايات المتحدة اهتمامها بأوروبا الشرقية والوسطى في يوم من الأيام، فأول من أطلق على هذه المنطقة من العالم اسم (أوروبا الجديدة) هو وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد قبيل الغزو الأمريكي للعراق. وسياق الأحداث وقتَها كان يدل على أن واشنطن تنظر إليها على أنها قوة موازية لـ (أوروبا القديمة)، التي تمثلها فرنسا وباقي بلدان أوروبا الغربية، التي لا تتماهى رؤيتها مع الرؤية الأمريكية؛ ففرنسا وقتها كانت تعارض بشدة الغزو الأمريكي للعراق.
لنتوسع الآن قليلاً في التعرف على السلطات الحاكمة في جمهورية التشيك، التي تُعتبر أحد الأعضاء الهامين في مبادرة البحار الثلاثة، والتي استُخدِمت صواريخها في قصف مدينة بيلغورود.
كما ذكرنا آنفاً، دعت روسيا في 30 ديسمبر الماضي إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة هذه التفجيرات. رفضت جمهورية التشيك حضور الجلسة عبر تغريدة لوزير الخارجية يان ليبافسكي على منصة X.
علقت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، على كلام وزير الخارجية التشيكي قائلةً:
"في الحقبة السوفيتية، كان يتم انتقاء ممثّلي السياسة الخارجية في تشيكوسلوفاكيا وفق مبدأ الولاء للحزب الشيوعي، ولكن بعد عملية التطهير - وفق مبدأ الولاء للغرب. المهم هو المبدأ، وليس الوظيفة".
إضافةً إلى وزير الخارجية التشيكي، انتقد وزير الداخلية التشيكي فيت راكوشان الموقف الروسي من دعوة ممثل جمهورية التشيك في الأمم المتحدة إلى حضور جلسة مجلس الأمن حول تفجيرات بيلغورود.
درس وزير الخارجية التشيكي في بريطانيا بين عامي 2007-2008، انتمى إلى حزب القراصنة التشيكي في عام 2015، ينتمي هذا الحزب إلى أممية أحزاب القراصنة Pirates Parties International. تسعى هذه الأممية والأحزاب المنتمية إليها إلى إصلاح القوانين المتعلقة بالملكية الفكرية وبراءات الاختراع بالإضافة إلى تعزيز حق الخصوصية سواء في الإنترنت أم الحياة العادية، وكذلك شفافية إدارة الدولة.
أصبح ليبافسكي عضواً في مجلس النواب التشيكي بين عامي 2017-2021 عن حزب القراصنة. شغل منصب نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية، وكذلك نائب رئيس لجنة الدفاع. بالإضافة إلى ذلك، كان عضواً في اللجنة الفرعية المعنية بسياسة الدفاع والأمن السيبراني والمفهوم الاستراتيجي لجمهورية التشيك. وكان أيضاً عضواً في اللجنة الدائمة لمراقبة أنشطة الاستخبارات العسكرية.
تمّ تعيينه وزيراً للخارجية بتاريخ 17 ديسمبر 2021. بعد شهر تقريباً من تعيينه، وحتى قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أيّد إمداد أوكرانيا بقذائف المدفعية، وقال:" إن أجهزة المخابرات التشيكية تستعد للسيناريو الأسوأ على أساس المعلومات الواردة إليها".
جميع تصريحاته تدل على أنه كان مقرباً من إدارة ترامب. فلقد أيّد رواية مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي السابق في عهد ترامب، حول اتهام الصين بانتشار فيروس كورونا في عام 2020. كما أنه دعم فكرة إرسال قوات تشيكية إلى العراق وأفغانستان في عام 2020 أيضاً.
ليبافسكي أيضاً انتقد تصريحات الرئيس التشيكي السابق ميلوش زيمان على أن الاعتراف باستقلال كوسوفو كان خطأً وأنّ من يحكم كوسوفو هم مجموعة من مجرمي الحرب. والحقيقة أنّ من دعم ويدعم استقلال كوسوفو طوال الوقت هي الدول الغربية، وهذا يتعارض مع السياسة الرسمية الروسية والسياسة الخارجية الصربية.
يعتبر التشيكيون ليبافسكي من رجال ميخائيل كاوديلكا، رئيس جهاز الاستخبارات التشيكية BIS. أما كاوديلكا فقد أجرى دورتين تدريبيتين على يد الاستخبارات البريطانية MI-6، ودورة على يد الاستخبارات الكندية. وفي الثامن من مايو 2023 رفّعه الرئيس التشيكي المنتخب حديثاً بيتر بافل إلى رتبة جنرال، مع العلم أن الرئيس التشيكي السابق ميلوش زيمان امتنع عن منحه هذه الرتبة العسكرية الجديدة على الرغم من التوصيات المتكررة من الحكومة التشيكية.
يوجه كاوديلكا سهامه دائماً نحو الرئيس بوتين وروسيا، فمرّةً يتهمها بممارسة التضليل الإعلامي ومرة بالتدخل في العمليات الديمقراطية داخل جمهورية التشيك، وتارةً بعرقلة التعاون الدبلوماسي بين براغ وواشنطن. وهذا يعكس في الواقع علاقاته المتردّية مع موسكو.
فضلاً عن ذلك، فإن كاوديلكا على علاقة جيدة مع حقان فيدان، وزير الخارجية التركي الحالي، عندما كان هذا الأخير رئيساً لجهاز الاستخبارات التركية MIT سابقاً.
بيتر بافل، الرئيس التشيكي الحالي، نفسه درس في كلية للأمن العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية. أجرى العديد من الدورات التدريبية في بريطانيا. تمّ تعيينه نائباً لمدير الأمن العسكري في جمهورية التشيك سنة 1996. وفي عام 2002 أصبح قائد القوات الخاصة التشيكية. بين عامي 2012-2015 كان رئيساً لهيئة الأركان التشيكية. ثم أصبح رئيساً للجنة العسكرية في حلف الناتو بين عامي 2015-2018، وكان أيضاً مستشاراً للأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ. تمكّن من الانتصار على الملياردير التشيكي أندريه بابيش في الانتخابات الرئاسية بتاريخ 28 يناير 2023. عندما كان أندريه بابيش رئيساً للوزراء، طلب في عام 2018 من جهاز الاستخبارات تحضير خلاصة أمنية، تضمنت هذه الخلاصة تحذيراً من استخدام منتجات شركتي Huawei وZTE، وهذه في الواقع كانت لعبة دونالد ترامب ومايك بومبيو. هذا الإجراء استدعى رد فعل سلبي من الرئيس التشيكي في وقتها ميلوش زيمان. لذلك من المرجح أن تكون الاستخبارات البريطانية هي من دفعت ببيتر بافل للفوز بالانتخابات الرئاسية السابقة.
استناداً إلى ما سبق، فإننا نعتقد أن من خطّط لهجومات بيلغورود كان يريد إضعاف هذه المجموعة تحديداً، أي الرئيس التشيكي ووزيري الخارجية والداخلية ورئيس الاستخبارات، على خلفية احتمال قيام روسيا برد فعل انتقامي على هذه الضربة. سيؤدي هذا الأمر بالتأكيد إلى خلق حالة من البلبلة والقلق من هذا (الخطر الروسي الافتراضي) في هذا الفضاء الذي سميناه فضاء البحار الثلاثة. فالغاية هي تعديل المزاج العام والتلاعب بالرأي العام بين شعوب هذه المنطقة؛ فمستوى العداء لروسيا بدأ يتراجع على خلفية المشاكل الاقتصادية التي أنتجتها الحرب الروسية-الأوكرانية.
إثباتاً لوجهة الاستنتاج السابق، يكفي أن نشير إلى المقابلة التي أجراها وزير الخارجية التشيكي ليبافسكي مع الصحيفة الإلكترونية التشيكية Seznam Zprávy بتاريخ 15 يناير الجاري؛ حيث ركّز فيها على شرح خلفيات عدم الاستجابة لدعوة روسيا لحضور جلسة مجلس الأمن الدولي لمناقشة دور جمهورية التشيك بتفجيرات بيلغورود، والكيفية التي تمّ فيها اتخاذ قرار عدم المشاركة. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الفترة الزمنية بين دعوة روسيا لعقد اجتماع في مجلس الأمن ورفض براغ الدعوة لا تتجاوز الساعتين، ولقد حصل الأمر في يوم عطلة رسمية في جمهورية التشيك، أي أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون قد حصل تنسيق بين مختلف مؤسسات الدولة حول هذه النقطة، بل الأرجح أن الرئيس التشيكي ووزير خارجيته تواصلا مع لندن وواشنطن وجاءت التعليمات بعدم الاستجابة لدعوة روسيا.
في مثل هذه الظروف، أي انتشار القلق والبلبلة، يسهل ابتزاز القيادات السياسية وتمرير الصفقات. لذلك يبرز السؤال: ما الغاية من ابتزاز هذه المجموعة؟ أو ماذا يمكن أن تقدم جمهورية التشيك لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية؟ سنحاول الإجابة على هذا السؤال في عرض مناقشتنا لجولة بلينكن الشرق-أوسطية.
بدأ بلينكن جولته الشرق أوسطية الرابعة لإيجاد (نهاية ما للحرب الدائرة في غزة) من تركيا، مع العلم أننا لا نرى علاقة مباشرة لتركيا بهذا الموضوع؛ فالمعني الأول بالقضية الفلسطينية هم العرب وليس الأتراك. ذهابه بعد تركيا إلى اليونان يدلّ على أنّ هنالك أمراً مشتركاً بين الدولتين يجب مناقشته وتنسيق المواقف حوله. المفارقة أنه لا رابطةَ تربط تركيا واليونان بالقضية الفلسطينية على الإطلاق، كما أنه توجد خلافات كثيرة بين الدولتين حول العديد من المواضيع والقضايا. وهذا يدل دلالة قطعيّة على أن هناك صفقة ما ستكون عرّابتها تركيا وفيها بنود ترتبط باليونان. لذلك فإننا نعتقد أن زيارة بلينكن لليونان كانت لطمأنتها حول إمكانية تقديم طائرات إف-16 لتركيا؛ فأنقرة ترغب منذ سنين بشراء هذه الطائرات من واشنطن.
تزامنت جولة بلينكن مع نشاط دبلوماسي أوروبي؛ فلقد كان جوزيب بوريل و آنالينا بيربوك في المنطقة أيضاً، و هذا يعني أنّ هناك جهداً سياسياً أوروبياً للتسويق لهذه الصفقة، في بعض العواصم العربية التي قد تتقبّل الدور الأوروبي أكثر من الدور الأمريكي، خاصة لبنان.
تدلّ الأحداث التي رافقت وأعقبت جولة بلينكن على أن بلينكن كان يحمل معه صفقة متكاملة الأركان لتهجير الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية، ومن أهم هذه الأحداث:
1- قمة العقبة، التي جمعت رئيس السلطة الفلسطينية والرئيس المصري والملك الأردني، في 10 يناير الجاري. وهي القمة الأولى بين الزعماء الثلاثة منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، كما أنها تزامنت مع زيارة بلينكن إلى إسرائيل. في بيان هذه القمة كان هناك تأكيد واضح على عدم تصفية القضية الفلسطينية وعدم السماح بتهجير الفلسطينيين.
2- دعوة الجزائر إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة موضوع التهجير القسري للفلسطينيين، انعقدت الجلسة بتاريخ 12 يناير الجاري، وأصدر المجلس قراراً برفض (التهجير القسري) للفلسطينيين.
هذه يعني أنه تناهى إلى علم زعماء الدول العربية أنّ هناك صفقةً حول هذا الموضوع، فكان لا بد من اتخاذ مواقف سياسية تعكس الموقف العربي الرسمي. ولكن الولايات المتحدة غير مهتمة بذلك، وخاصة أن الجميع ركّز على (التهجير القسري)؛ فـ (التهجير القسري) لن يقبله أحد بالتأكيد، ولكن كيف يمكن ممانعة (التهجير الطوعي)؟! بالتأكيد إفراغ فلسطين من الفلسطينيين سيؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية.
لا يمكن أن تتم الصفقات بين ليلة وضحاها، فهي تحتاج إلى إعداد ومراجعة ودراسة وتهيئة للرأي العام، لذلك فإننا نميل للاعتقاد بأن العمل على هذه الصفقة بدأ منذ أشهر، ويبدو أنه تم الاتفاق بأن تكون تركيا عرّاباً لها لأسباب كثيرة:
1-لا يوجد ارتباط عاطفي بالقضية الفلسطينية في تركيا كالرابط بين العرب وفلسطين؛ خاصةً أن “الصورة النمطية” لـ “اليهودي” في ذهن المسلم-العربي تختلف جذرياً عن تلك التي في ذهن المسلم غير العربي؛ وتدرك كل ٌّمن إسرائيل وواشنطن ذلك جيداً.
2-تاريخ تركيا الحديث حافل بالصفقات من هذا النوع، وتقلباتها السياسية واضحة للجميع. كان آخرها تسليم تركيا بعض عناصر فوج آزوف، المصنّف على أنه منظمة إرهابية في روسيا. مع العلم أن أردوغان تعهد بالاحتفاظ بهم حتى نهاية الحرب، وألّا يسمح لهم بممارسة أي نشاط إعلامي أو ترويجي-سياسي في تركيا، ولقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مقالات سابقة (انظر (3)). هذا يشير من جديد إلى العلاقة المتينة بين النازيين الأوكرانيين والاستخبارات الغربية؛ فما كانت تركيا لتُقدِم على هذه الخطوة لولا ضغط غربي مباشر عليها. كما أن هذا يعيدنا إلى فكرة الآنترماريوم والدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في فضاء البحار الثلاثة؛ فهي تشاطئ البحر الأسود وبالتالي هي جزء من هذه المبادرة.
3-هنالك الكثير من الإغراءات التي يمكن تقديمها لتركيا، والتي تحلم بها منذ زمن بعيد، وسنعرّج عليها تباعاً في الفقرات اللاحقة.
لاحظنا جميعاً تركيزاً في بعض وسائل الإعلام على مواقف أردوغان وتلميع صورته وإبرازه كزعيم إسلامي، ينافح عن حقوق المظلومين في العالم وعن الفلسطينيين خصوصاً. مع العلم أنّ مواقفه كانت مجردَ خطابات بائسة، و تهديداته لإسرائيل مثيرة للشفقة؛ فالجميع يعلم أن 40% من النفط الذي تستورده إسرائيل يأتي من أذربيجان صديقة تركيا. كما أن أذربيجان ترتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل؛ فإسرائيل أقامت قواعد عسكرية في أذربيجان لمهاجمة إيران.
فضلاً عن ذلك، في مقالة منشورة في صحيفة بوليتيكو بتاريخ 13 أكتوبر 2023، أي بعد 6 أيام من طوفان الأقصى، تمت الإشارة إلى أن (وزير الخارجية أنطوني بلينكن حذّر مجموعة صغيرة من صنّاع القرار بأن وزارته تتابع احتمال قيام أذربيجان بغزو أرمينيا). يشير كاتبا المقالة إلى أنهما استقيا الخبر من مصدرين مطّلعين، دون ذكرهما.
يبدو بوضوح أن هذا الخبر مدسوس؛ لأن صانع القرار بطبيعة الحال يأخذ بعين الاعتبار جميع الاحتمالات الممكنة من جهة، ثم ما أهمية الحديث في الموضوع مع بعض كتّاب الأعمدة والمقالات من جهة ثانية، ومن ثم نشره في مقالة، سوى لثلاث غايات:
-جس نبض أذربيجان ومن خلفها تركيا،
-أو التلاعب بالرأي العام وتعديله،
-أو تهيئة الأرضية لإجراء ما.
المفارقة الأولى أن أذربيجان نفسها طالبت أرمينيا ومنذ سنين بفتح ممر سيونيكسكي (أو ممر زانغزور)، الذي يربط الجيب الأذربيجاني ناخيجفان والجزء الأساسي من أذربيجان. سيتيح هذا الممر التواصل البري بين تركيا وأذربيجان، ولقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مقالات سابقة (انظر (4)).
المفارقة الثانية أنّ الحديث عن هذا الموضوع تمّ في الوقت الذي كانت فيه أنظار العالم كله متجهة إلى غزة وعملية طوفان الأقصى.
بناءً على ما سبق، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن صانع القرار الأمريكي بدأ بالتحضير لهذه الصفقة بعد 7 أكتوبر 2023 بعدة أيام، ومن المرجّح أن بنود مسودتها الأولية نضجت في 10 أكتوبر 2023؛ ف بلينكن نفسه زار إسرائيل متضامناً في 12 أكتوبر 2023.
بالتأكيد ستقود محاولة أذربيجان فتح هذا الممر بالقوة إلى ردة فعل سلبية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا وإيران أيضاً؛ لذلك من مصلحة أذربيجان وتركيا التنسيق مع الدول الغربية في هذا الملف. وقد تكون زيارة نيكولا باشينيان، رئيس الوزراء الأرميني، إلى روسيا، بعد توترات شديدة شابت علاقات البلدين، لحضور قمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، التي انعقدت بتاريخ 25 ديسمبر 2023 في مدينة سان بطرسبورغ، تفسيراً معقولاً لذلك. فليس مستبعداً أن يكون الغرب بدأ بممارسة الضغوط على أرمينيا لفتح هذا الممر؛ ففي هذه الحالة لن تجد أرمينيا سنداً لها سوى روسيا وإيران.
من النقاط الجديرة بالبحث أيضاً هي أحلام تركيا بإنشاء (اتحاد تركي)، يجمع الشعوب التركية، أو ما أُطلِق عليه تاريخياً الـ (بان-تركيسم) Pan-Turkism. فشعار “أمة واحدة في ستة دول” تمّ رفعه في أيام رئاسة عبدالله غول، في القمة التي انعقدت بمدينة إسطنبول يومي 15 – 16 سبتمبر 2010، والتي ضمّت تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرقيزستان وتركمنستان فيما غابت أوزبكستان عنها.
كانت حركة “بان تركيسم” تياراً سياسياً اجتماعياً كبيراً بين مثقفي أذربيجان والإمبراطورية العثمانية، وظهرت في ثمانينات القرن التاسع عشر 1880، وتهدف إلى التوحيد الثقافي والسياسي للشعوب التركية Turkish Peoples.
أما مصطلح الشعوب التركية فهو تجمّع إثني – لغوي ينتشر أعضاؤه في وسط وشرق وغرب وشمال آسيا، وبعض أجزاء أوروبا وشمال أفريقيا، يصل عددهم إلى حوالي 150 مليوناً. من الناحية العرقية، الشعوب التركية هي هجين معقد من أكثر من 40 إثنية وعرق. أما الدين فهو الإسلام، المسيحية، اليهودية، البوذية، الشامانية، المانوية، اللادينية، الملحدين… إلخ. وهم جميعاً يتكلمون لغات العائلة التركية، التي تضم: الأويغورية، الأوزبكية، التركية، الأذرية، التترية، التركمانية، الكازاخية، القيرغيزية، الباشكيرية، التشوفاشية، الألطية، لغة قراشاي بلقار، لغة كارايم، لغة ساخا.
يبدو واضحاً أنّ لتركيا وللدول الغربية مصلحةً مباشرةً في هذا المشروع؛ فمن جهة تستطيع تركيا توسيع نفوذها باتجاه هذا الفضاء الحيوي الهام والغني بالموارد مستخدمةً العامل القومي والديني، ومن جهة أخرى ستتمكن الدول الغربية من إيجاد قوة إقليمية موالية لها ومنافسة للصين وروسيا في آسيا الوسطى. ستمنح هذه القوة الجديدة الدول الغربية موطِئ قدم بهدف التحكّم في سياسات دول هذه المنطقة، التي تعاني من العديد من الأزمات الاقتصادية والسياسية أصلاً، وبالتالي الضغط على روسيا والصين وإيران. والحقيقة أن السعي الغربي للتمدد في آسيا الوسطى بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرةً، ولقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مقالات سابقة (انظر (5، 6)).
نعود الآن إلى النقطة التي بدأنا المقالة بها، وهي مبادرة البحار الثلاثة (آنترماريوم)، فهذا الموضوع لا يتعارض مع السعي التركي والغربي للتمدد في آسيا الوسطى. وأهم ما يمكن بحثه هو موضوع الغاز؛ فواشنطن باركت ورحّبت بمبادرة البحار الثلاثة بهدف بيع غازها المسال في أوروبا الشرقية والوسطى، كما أنّ ممر الغاز العابر للأناضول أصبح ذا أهمية كبيرة بعد توقّف الغاز الروسي. تعتبر تركمنستان من أهم منتجي الغاز، فهي تنتج حوالي 60 مليار متر مكعب سنوياً، كانت تبيع كل إنتاجها لشركة غازبروم الروسية، التي تعيد بيعه بدورها في أوروبا عبر الأنابيب الروسية، ولقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مقالات أخرى (انظر (7)).
كما أنّ أذربيجان تنتج كمياتٍ كبيرةً من الغاز، وفي 18 يوليو 2022 وقّع الاتحاد الأوروبي مع أذربيجان على مذكرة تفاهم حول الشراكة الاستراتيجية في مجال الطاقة. وقّع على هذه الوثيقة رئيس جمهورية أذربيجان إلهام علييف ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. هدفت هذه المذكرة إلى مضاعفة انتاج أذربيجان من الغاز الطبيعي بحلول عام 2027.
لذلك فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الغاية من تفجيرات بيلغورود هو الضغط على بلدان البحار الثلاثة وابتزازها بهدف استبعاد قطر من مشاريعها الطاقية في فضاء الآنترماريوم لتحلّ محلها تركمنستان وأذربيجان وباقي بلدان آسيا الوسطى المنتجة للغاز. وبهذه الحالة ستتحول تركيا إلى مركزٍ لتوزيع الغاز المتدفق إلى جنوب أوروبا، كما أن تركمنستان ستكون قادرة على تصدير إنتاجها الكبير، بعد توقف الممر الغازي الروسي.
فضلاً عن ذلك، فإنه من الممكن أن يكون الوزير بلينكن قد تطرق في جولته الأخيرة إلى موضوع ممر الغاز الجنوبي، الذي سيعبر تركيا واليونان إلى جنوب البلقان، وإلى موضوع تقوية التكامل ضمن فضاء البحار الثلاثة. تُعتبر تركيا واليونان جزءاً من هذه المبادرة، كما أن وجود تركيا ضمن هذا التكتل قد يساهم في التقليل من إلحاحها المستمر للانضمام للاتحاد الأوروبي.
تأسيساً على ما تقدم فإن هذه الصفقة أصبحت أكثر وضوحاً، فتركيا ستكتسب المنافع التالية:
-طائرات إف-16، فهي تسعى لامتلاكها منذ العام 2021.
-توسيع الممر الغازي الجنوبي العابر لتركيا باتجاه أوروبا.
-إنشاء ممر سيونيكسكي الواصل بين الجزء الأساسي من أذربيجان مع إقليم ناخيجفان.
-توسيع نفوذها في آسيا الوسطى، وتقوية تكاملها ضمن أوروبا الوسطى والشرقية عبر المشاريع الطاقية واللوجستية.
أما المنافع التي ستحصل عليها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية فهي:
-تهجير الفلسطينيين وإفراغ فلسطين من سكانها.
-حل مشاكل الطاقة في أوروبا والتخلص من الاعتماد على الغاز الروسي.
-تمديد نفوذها باتجاه آسيا الوسطى عبر تقوية الحضور التركي هناك، الأمر الذي سيعيق أي تكامل في الفضاء الأوراسي الكبير، وسيعرقل مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ثمة ملاحظة جديرة بالتعريج عليها وهي إيران؛ فإيران هي قوة إقليمية كبيرة منافسة لتركيا في منطقة الشرق الأوسط، وستبدي معارضة شديدة لمثل هذه المخططات، إلا أن علاقتها مع أذربيجان ليست على ما يرام كما أن علاقتها معقدة مع تركيا والعالم العربي. لذلك فإننا نعتقد أن التفجيرات التي حصلت في كرمان في 3 يناير الجاري هي رسالة مباشرة من الاستخبارات الغربية إلى السلطات الإيرانية لعدم التدخل في هذه الملفات.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مايكل كوريلا، قائد القيادة الأمريكية المركزية (السنتكوم)، كان قد وعد بإعادة بناء الهيكل الأمني في أفغانستان عندما كان مرشحاً لهذا المنصب في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ في بداية عام 2022. كما أن زيارة العديد من المسؤولين العسكريين الأمريكيين الكبار، كـ مارك ميلي و كريستوفر ميللر و مايكل كوريلا، كانت كثيفة جداً إلى أفغانستان و طاجكستان و باكستان في السنة الماضية. لذلك فإن واشنطن قادرة على تحريك بعض المجموعات والعناصر الإرهابية لضرب الاستقرار الداخلي في إيران.
في الختام، بعد هذه الجولة من أوروبا الوسطى والشرقية إلى آسيا الوسطى مروراً بالشرق الأوسط، قد يكون من الجدير أن نطرح السؤال الهام الآتي:
ماهي الأدوات والطرق التي تملكها تركيا لتنفيذ الجزء الأصعب في هذه الصفقة، أي دفع الفلسطينيين (طوعاً) لترك أرضهم؟
لكننا سنترك الإجابة عليه للمستقبل، وللقراء الكرام كي يشاركونا التأمل والتفكير فيه، مع ضرورة الإشارة إلى النقطتين الآتيتين:
-في المرحلة القادمة المطلوب بقاء الصراع ساخناً ومنضبطاً، وعدم السماح بانفلاته وخروجه عن السيطرة، لكيلا تمر الصفقة تحت دخان المعارك.
-توحي زيارة وزير الخارجية التركي البارحة للأردن بالكثير وبأن المساومات قد بدأت فعلاً.
لذلك سننتظر ونراقب!
المراجع
1-انظر:
https://jsmcenter.org/political-articles/great-poland-project-plan-b/
2-انظر:
https://jsmcenter.org/political-articles/opening-of-polish-front-with-ukraine-and-belarus/
3-انظر:
https://jsmcenter.org/political-articles/turkey-from-neutrality-to-alignment-in-the-ukrainian-war/
4-انظر:
https://jsmcenter.org/political-articles/nagorno-karabakh-conflict-scenarios/
5-انظر:
https://sitainstitute.com/?p=6809
6-انظر:
https://jsmcenter.org/political-articles/kazkhstan-usa-eu-relations/
7-انظر:
https://sitainstitute.com/?p=6263
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |