ثلاث روايات قصيرة للأطفال طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن
2024 / 1 / 17

ثلاث روايات قصيرة للأطفال




طلال حسن





الملك

" 1 "
ـــــــــــــــــــ
أفاق الدب العجوز " تويوك " ، على أصوات الربيع وأنفاسه الدافئة ، التي تتسلل إليه عبر مدخل الوكر ، بعد انتهاء أشهر الشتاء الباردة ، التي استغرقت ستة أشهر طويلة قاسية .
ونهض ببطء متكاسلاً ، بجسمه النحيل الشائخ ، الذي أذابت شحومه وقوته ، أشهر سباته الشتوي ، التي استغرقت خمسة أشهر تقريباً .
وتوقف عند المدخل ، يكاد يترنح ، وراح يتلف حوله ، ويتأمل ما أحياه الربيع من النباتات والحشرات الكثيرة المختلفة والأنهار والشلالات ، في السهول والوديان والجبال العالية .
ومن بعيد ، لاحت له دبة ، ربما كانت إحدى إناثه ، في يوم من الأيام ، ترعى العشب النديّ ، وعلى مقربة منها ، يلهو ديسمان ، تجاوزا الثانية من عمرهما .
ودقق النظر في الدبة جيداً ، نعم إنها الدبة " أناك " ، صحيح إنها لم تعد فتية ، لكنها مازالت نشيطة وقوية وجميلة ، كما عرفها دائماً ، ويمكن أن تكون أماً لأكثر من ديسم من نسله .
وخرج " تويوك " من وكره ، الذي قضى فيه الشتاء بطوله ، وسار بقدميه الثقيلتين غير الثابتتين تماماً ، على أرض عشبية ندية ، وتوقف عند حافة جدول رقراق ، وحدق فيه جيداً ، ولم يرَ غير حصا القاع ورماله الناعمة ، وبعض النباتات المائية الزاهية .
وهزّ رأسه ، لا أسماك بعد ، والأسماك عند " تويوك " ، هي أسماك السلمون ، لكن موسم هذا النوع اللذيذ من الأسماك لم يحن بعد ، وعليه أن ينتظر بعض الوقت ، ويكتفي الآن بالأعشاب الندية والمحار ، الذي يتواجد في رمال شاطىء البحر ، إذ ينسحب الماء .
وتناهى إليه من ورائه وقع أقدام ثقيلة وقوية ، فاستدار ببطء وتوجس ، آه هذا " كيسين " الدب الوحيد ، وحدق فيه غاضباً ، فتوقف " كيسين " ، وحدق فيه بعينين ثابتتين تشعان قوة وعزماً وإصراراً ، وقال : لم أتوقع أن أراك هذا الربيع .
ورفع " تويوك " رأسه الثقيل المتعب قائلاً : هذا ما كنت تتمناه ، ولكن هيهات .
وابتسم " كيسين " ساخراً ، وقال : مهما يكن ، فأنت تسير حثيثاً نحو الشيخوخة .
وتقدم " تويوك " منه ، وقد كشر عن أنيابه ، وأبرز مخالبه ، وهو يقول بغضب وانفعال شديدين : أيها اللعين ، انتظر ، سأريك أن تويوك سيبقى تويوك ، وأنني لن أشيخ أبداً ، مهما مرت السنون .
واستدار " كيسين " ببطء ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : لست مستعجلاً ، إنني أنتظر .
وتوقف " تويوك " لاهثاً ، نعم ، إن " كيسين " اللعين على حق ، فقواه لم تعد كالماضي ، وجسمه غدا شائخاً هزيلاً ، ومخالبه ضعيفة ، وحتى أسنانه وأنيابه ، التي كانت كالخناجر ، بدأت تتلف ، وتفقد قوتها وبريقها ، اللذين كانتا تتسمان به في الأيام السالفة .

" 2 "
ـــــــــــــــــــ
انهمك الدب العجوز " تويوك " ، رغم شعوره بالوهن ، في التهام العشب الندي ، الذي يغطي البراري الخصبة على مدّ البصر ، فعليه بأسرع وقت ممكن ، أن يستعيد بعض وزنه ، الذي خسره في فترة سباته الشتوي ، والذي استغرق خمسة أشهر من أشهر الشتاء الطويل القارص البرودة .
وهو يريد أيضاً ، أن يستعيد عاجلاً وليس آجلاً ، قوته التي كان يعتد بها ، وجعلت منه الملك القويّ المهاب ، والتي يشعر بأنها تضعف سنة بعد سنة ، مما قد يغري بعض الدببة الصاعدة ، بالتصدي له ، وتحدي مكانته ، ومحاولة إزاحته عن قمة الهرم ، التي يتربع عليها عن جدارة ، منذ سنين عديدة .
وفي مكان آخر ، من السهل المعشب ، الغني بالجداول والأنهار والشلالات ، الذي يرعى " تويوك " فيه ، كان الدب الوحيد " كيسين " ، منهمكاً هو الآخر ، في التهام العشب الطري ، فهو رغم فتوته وقوته المتزايدة وضخامة جسمه ، يطمح إلى المزيد والمزيد ، ليتصدى للدب العجوز " تويوك " ، ويلحق الهزيمة به ، ويزيحه عن مكانته ، ويصير هو .. الملك .
وتناهت إليه من بعيد ، أصوات ضاجة لاهية ، فرفع رأسه ، وعلى البعد ، خلف الجدول الضحل المياه ، رأى الدبة " أناك " منهمكة في تناول العشب الطري ، وديسماها اللذان تجاوزا السنتين من عمرهما ، يلهوان ويتعاركان على مقربة منها .
وكف عن تناول الأعشاب ، فبطنه تكاد تمتلىء ، و .. و" أناك " هذه ، أنثى مازالت جميلة ، رغم أنها لم تعد فتية ، وتوجه نحوها بخطى متسارعة ، وهو يتشمم روائح الربيع بدفئه وروائحه المسكرة .
ورمق الديسمين بنظرة قاتمة ، إنه يعرف أن الوصول إلى " أناك " غير ممكن ، مادام هذان الديسمان معها ، فليقدم على ما كان يقدم عليه " تويوك " نفسه ، عندما يريد أن يتودد إلى أنثى من الإناث ، نعم ، ما عليه إلا أن يقتل الديسمين ، وبذلك تكون " أناك " له .
ويبدو أنّ " أناك " ، اشتمت رائحة الخطر ، فرفعت رأسها ، وهي مازالت تلوك في فمها كمية من العشب الطري ، وما إن رأته متوجهاً نحوها ، حتى تراجعت خائفة ، ودفعت ديسميها بعيداً عن الخطر .
وأسرع " كيسين " نحوهم ، لعله يصل إلى الديسمين ، ويجهز عليهما ، فيخلو له الطريق إلى " أناك " ، لكن الديسمين ، اللذين شعرا بالخطر الداهم ، أطلقا أرجلهم للريح ، ولاذا بالفرار ، مع أمهما " أناك " .
وتوقف " كيسين " ، دون مبالاة ، فالأيام أمامه ليست قليلة ، فلمَ العجلة ؟ ولابدّ أنهما ، في يوم قريب ، أن يقعا بين أنيابه ومخالبه ، التي لن ترحمهما ، و .. وعاد يرعى العشب بحماس ، ليزيد من حجمه وقوته ، فيوم الحسم قادم لا ريب فيه .
وواصلت الدبة الأم " أناك " الهرب من " الدب الوحيد " كيسين " ، هي وديسماها المذعورين ، وتلفتت وراءها ، ولما لم تجد للدب " كيسين " أثراً ، أبطأت بالتدريج حتى توقفت ، وتنفست الصعداء .
تناهت إليهم أصوات أمواج البحر ، فالتفتت إلى الديسمين ، وقالت : على الشاطىء ، تحت الرمال الرمال الرطبة ، يوجد محار لذيذ ، هيا نذهب إلى هناك ، ونأكل حتى نشبع .

" 3 "
ـــــــــــــــــــ
يوماً بعد يوم ، ومع اقتراب شهر تموز ، راحت الدببة البنية ، ذكوراً وإناثاً وحتى دياسم من كلّ الأعمار ، يتجهون نحو الأنهر والشلالات .
لا عجب ، فموسم أسماك السلمون يقترب ، وستأتي ملايين أسماك السلمون ، من المحيط الهادي ، إلى أعالي الأنهار والبحيرات ، حيث ولدت ، لتضع بيوضها ، ثم تستسلم وترقد في القيعان جثثاً هامدة .
وحاول الدب العجوز " تويوك " ، أن يتجنب الدب الوحيد " كيسين " ، دون أن يُشعره بذلك ، فهو وإن قهره مرات ومرات ، في السنين الماضية ، إلا أنه يشعر أنه ليس على ما يرام هذا العام ، وهو يخشى أن تخونه قواه هذه المرة ، ويحدث ما لا تحمد عقباه .
وفي الأثناء ، راح الدب الوحيد " كيسين " ، وقد امتلأ جسمه ، وبلغت قوته ذروتها ، يجوب المنطقة ، في طريقه إلى الشلالات ، يتغذى على الأعشاب والمحار ، ويراقب في نفس الوقت ، الدب العجوز " تويوك " والدبة " أناك " وديسميها الفتيين .
وهلت طلائع أسماك السلمون الحمراء ، وراح الدببة يتخذون أماكنهم في مواقع الصيد ، وخاصة في أعلى الشلالات ، بحسب أعمارهم وقوتهم وتاريخهم في المعارك الحاسمة .
وأقبل الدب العجوز " تويوك " ، وتقدم إلى صخرة وسط الشلال ، وهي الصخرة التي انتزعها لنفسه ، وظل فيها على مدى العشر سنوات الماضية ، وهي أفضل مكان لاصطياد السمك .
ورغم تقدمه الواضح في العمر ، وجسمه الذي لم يمتلىء تماماً ، وقوته التي لم تعد كالسابق ، إلا أن أحداً من الدببة ، لم يزاحمه على هذه الصخرة ، وعلى ذلك اصطاد أكثر من سمكة سلمون ، وراح يأكلها بنهم ، لعله يسترد بها ما لم يسترده بالتهامه للأعشاب الطرية .
وبعد منتصف النهار ، صعد " تويوك " إلى ضفة النهر ، الكثيفة الأشجار ، وقد اصطاد سمكة سلمون ضخمة ، وإذا دبة فتية جميلة ، تتوقف متطلعة إليه ، فاقترب منها ، ووضع السمكة أمامها ، وقال لها متودداً : تعالي يا جميلتي ، لنأكل هذه السمكة معاً .
وحدقت الدبة الفتية فيه ملياً ، دون أن تعير للسمكة أي اهتمام ، فدفع السمكة إليها ، وقال : خذي السمكة ، وكليها أنت وحدكِ .
لكن الدبة الفتية ، أشاحت عنه ، واستدارت ببطء ، دون أن ترد عليه ، ومضت مبتعدة ، فأمسك الدب العجوز " تويوك " السمكة منزعجاً وألقاها على الأرض المعشبة ، وتوغل بعيداً بين الأشجار الكثيفة ، فهذه ليست الدبة الفتية الأولى التي ترفضه ، هو الدب الملك ، الذي لم ترفضه دبة من قبل .
وتوقف بين الأشجار ، يحاول تهدئة نفسه ، فما تلك الدبة وأضرابها ، إلا دبات غريرات ، ومهما يكن ، فلديه من هي أفضل وأجمل منهنّ جميعا ، نعم لديه أم ديسميه ، لديه الدبة " أناك " .
وقبيل المساء ، عاد الدب العجوز " تويوك " إلى الشلال ، ليتناول بضعة سمكات ، قبل أن يعود إلى مأواه ، لكنه فوجىء بالدب الوحيد " كيسين " يقف على صخرته وسط الشلال ، ويصطاد الأسماك ، ويأكلها بنهم ، وهو واقف في مكانه .
وحدق " تويوك " في كيسين " ، لكن الأخير لم يلتفت إليه ، رغم أنه عرف بوجوده على مقربة منه ، وعندئذ تقدم " تويوك " منه ، وصاح به : ابتعد ، أيها اللعين ، هذه الصخرة لي .
والتفت " كيسين " إليه ، وقال : كانت الصخرة صخرتك ، عندما كنت الملك .
ومن بين أسنانه ، التي أتلفت السنون بعضها ، قال : مازلتُ وسأبقى أنا الملك .
وانقض بجسمه النحيل المرتعش على " كيسين " ، ورفع كلتا يديه بمخالبهما العتيقة المتآكلة ، وحاول أن يضربه ، لكن " كيسين " لم يتجنبه ، وإنما عاجله بضربة قوية من يده المدججة بمخالب كالخناجر الحادة ، وألقاه من أعلى الشلال ، وغاص في المياه العميقة المظلمة ، وتهاوى إلى القاع جثة هامدة .

" 4 "
ـــــــــــــــــــــ
ترددت الدبة " أناك " كثيراً ، قبل أن تأتي بديسميها الفتيين إلى منطقة الشلالات ، التي يكثر فيها سمك السلمون الأحمر ، في هذا الوقت .
لقد طافت وديسماها ، في محيط الشلالات ، تصطاد بعض أسماك السلمون الحمراء ، في الجداول الصغيرة الضحلة ، بل وعلمت ديسميها الفتيين ، كيف يلاحقان أسماك السلمون الحمراء ، ويصطادانها .
وعندما رأى الديسمان الفتيان ، الدببة الفتية وغير الفتية ، يتجهون نحو الشلالات ، حيث أسماك السلمون الحمراء ، تتواجد بكثرة ، طلبا من أمهما أن تأخذهما إلى هناك ، لكن الدبة " أناك " ترددت قائلة : لا ، لنصطد هنا ، فالدببة هناك كثيرة .
وضحك أحد الديسمين ، وقال : نحن أيضاً دببة .
وكتمت الدبة " أناك " ضحكتها ، فقال الديسم الآخر لأخيه وكأنه يسرّه : لا عليك ، سنذهب أنا وأنت ، عندما ترقد أمنا ، وتغط في النوم .
وهزت الأم رأسها مبتسمة ، وقالت : تفعلانها ، حسناً ، غداً نذهب إلى الشلالات .
وصمتت الدبة " أناك " ، وانطفأت ابتسامتها ، عندما تراءى لها الدب الوحيد " كيسين " يقف على الصخرة ، التي كان يقف عليها الدب الملك " تويوك " وسط الشلال ، وهو يلتقط أسماك السلمون المتطايرة .
وفي اليوم الأول ، لتواجد الديسمين الفتيين ، ومعهما أمهما " أناك " ، لمحهما الدب الوحيد " كيسين " ، كما لمح أمهما " أناك " معهما ، لكنه استمر في صيد سمك السلمون الأحمر ، متظاهراً بأنه لم يرهم .
وعند حوالي منتصف النهار ، من اليوم التالي ، اصطاد الدب الوحيد " كيسين " ، سمكة سلمون حمراء كبيرة ، ونهش رأسها بأسنانه الحادة القوية ، ثم سار على امتداد الشلال ، وأطل على الدبة " أناك " وديسميها الفتيين ، وألقى إليهما سمكة السلمون الحمراء ، وقال : هذه مملكتي ، وأنا الملك هنا الآن ، خذوا هذه السمكة .
وتراجعت الدبة " أناك " قليلاً ، ولم يلتفت أيّ من الديسمين ، إلى السمكة التي ألقاها " كيسين " ، فاستشاط " كيسين " غضباً ، وانحدر مع الماء من أعلى الشلال ،
إلى حيث تقف " أناك " وديسماها الفتيان .
وخاطب " كيسين " بغضب شديد الديسمين ، وعيناه المشتعلتان تصليان الدبة " أناك " ، قائلاً : رميت لكما سمكة سلمون ، وأنا الملك هنا ، ولم تأخذاها ..
ولاذ الديسمان الفتيان بالصمت ، دون أن يتحركا من مكانيهما ، أو يردا عليه بكلمة واحدة ، وانقض " كيسين " على أحد الديسمين الفتيين ، وغرز فيه أنيابه ومخالبه الحادة القوية القاطعة .
وصرخ الديسم متألماً ، والدماء تتدفق منه ، وجنّ جنون الدبة " أناك " ، وتناست حجم " كيسين " وقوته ووحشيته ، فاندفعت نحوه ، ودفعته بكل قوتها عن ديسمها الفتيّ ، الذي سقط في مياه الشلال ، والدماء تنزف من جروحه الغائرة .
ودارت معركة ضارية ، بين " كيسين " والدبة الأم " أناك " ، ورغم أن " أناك " قاومت مقاومة شديدة ، وألحقت بالدب " كيسين " جروحاً وكدمات كثيرة ، إلا أن " كيسين " أصابها بجروح قاتلة .
وتدخل الديسم الثاني ، واستطاع أن يسحب أمه " أناك " من بين مخالب وأنياب الدب المتوحش " كيسين " ، وخرج بها من النهر ، وسار بها إلى الوكر .

" 5 "
ـــــــــــــــــــ
تمددت الدبة الأم " أناك في مضجعها ، داخل الوكر الذي يقضون فيه أشهر الشتاء الطويلة القارصة البرد ، وجسمها مضرج بالدماء ، وهي متشبثة بكلتا يديها بديسمها الفتيّ ، وكأنها تخشى أن تفقده ، كما فقدت ديسمها الآخر عند الشلال .
ولم يحاول الديسم أن ينسحب من بين يديها ، وحدق فيها ، وفي جراحها الغائرة النازفة ، وقال : أنتِ بخير ، يا أمي ، وستتعافين .
ونظرت " أناك " إليه مشفقة ، وقالت : نعم ، يا بنيّ ، أنا بخير ، وسأتعافى من أجلك ، فأنا لا أريد أن أتركك وحدك ، في هذه الغابة .
وشدّ الديسم على يدها بحنان ، وقال : لن أكون وحدي ، ستتعافين ، ونكون معاً على الدوام .
وصمت لحظة ، ثم قال بنبرة حازمة متوعدة : سنبقى معاً ، وسأكبر وأنت إلى جانبي ، وسيدفع كيسين الثمن غالياً ، مهما طال الزمن .
ونظرت " أناك " إليه ، وقالت : دعك منه ، إنه دب أرعن متوحش .
وتابع الديسم كلامه قائلاً : لقد قتل الدب العجوز " تويوك " ، وكذلك قتل أخي ، وكاد أن يقتلك أنت أيضاً ، سأنتظر ، وأنتظر ، وكما هرم الدب العجوز ، سيهرم كيسين هو الآخر ، القاتل يجب أن يُقتل .
وأمسكت " أناك " يديْ ديسمها ، وقالت بصوت واهن : بنيّ ، جراحي عميقة ، وأخشى أن لا أبقى طويلاً معك ، لا تفكر في كيسين ، ولا تكن كيسين آخر .
وصمتت " أناك " لاهثة ، وبدت حزينة متعبة ، فقال الديسم ، وهو يشدّ على يديها : لا تتكلمي ، يا أمي ، أنت متعبة ، اهدئي قليلاً ، وسترتاحين .
لكن " أناك " لم تهدأ ، وإنما تابعت كلامها قائلة : مهما حدث ، يا بنيّ ، أريد أن تعيش بسلام ، وتتمتع بحياتك في الغابة ، فأيّ منّا لن يعيش إلا مرة واحدة ، وأتمنى أن تعيش هذه الحياة بعيداً عن المعارك والدماء .
وصمتت " أناك " ثانية ، وأغمضت عينيها المتعبتين الطافحتين بالدموع ، فمال الديسم عليها ، وقال بصوت هادىء : أمي ، اسمعيني ..
وردت " أناك " دون أن تفتح عينها ، وبصوت واهن : إنني أسمعك .. يا بنيّ .
وحدق الديسم فيها ملياً ، ثم قال : أخشى أن تكوني جائعة ، سأذهب إلى النهر ..
وقاطعته " أناك " بصوت واهن : لا تذهب إلى أي مكان ، لا أريد إلا أن تبقى إلى جانبي .
وضمّ الديسم يدي أمه بيديه الدافئتين ، وتمدد إلى جانبها ، وهو يقول : إنني إلى جانبك ، وسأبقى إلى جانبك ، ولن ابتعد عنك لحظة واحدة .
وتنهدت " أناك " ، وقالت بصوت منطفىء : سأتعافى .. يا بنيّ .. سأتعافى ..
وانطفأ صوتها ، كما تنطفىء شمعة ، أضاءت الليل فترة طويلة ، وساد الصمت في الوكر ، ولم يعد يُسمع فيه غير تنفس الديسم الفتيّ .











الصرخة

رآها تحلق عالياً ، بجسمها الرشيق ، وجناحيها المتسعين ، تستعرض نفسها ، في سماء زرقاء صافية ، وأشعة الشمس تغمرها بالدفء والذهب .
أهي دعوة منها ؟
وهل يحتاج نسر ذهبيّ مثله إلى دعوة كهذه ؟
إنه يراقبها منذ أيام وأيام ، وينتظر اللحظة المناسبة ، ليقول لها فعلاً ها أنذا ، وهبّ من مكانه ، فوق مرتفع صخري يشرف على الوادي ، وفتح جناحيه المتسعين ، فهذه هي اللحظة المنتظرة .
وبزاوية عينيها الفتيتين ، القويتي البصر ، لمحته ينطلق نحوها ، وخفق قلبها بشدة ، غير أنها لم تلتفت إليه ، وتظاهرت بأنها لا تراه ، لكنها في نفس الوقت ، لم تحاول تجنبه ، أو الابتعاد عنه .
وحام النسر الذهبيّ حولها ، في دوائر راحت تصغر شيئاً فشيئاً ، وكاد يلامسها أكثر من مرة ، وهو يتقلب في الجو على مقربة منها .
وتوقف عن تقلبه ، حين سمعها تتنهد ، وتقول : آه لقد تعبت ، إنني أحلق منذ فترة طويلة .
وأشار النسر الذهبيّ بأحد جناحيه ، إلى شجرة كثيفة الأغصان ، نمت في منخفض ضيق ، وسط الجبل الأجرد ، وقال : تلك شجرة كثيفة الأغصان ، لننزل ، ونرتح فيها قليلاً .
وعلى الفور ، ضمت الأنثى جناحيها المتسعين ، وانحدرت كالسهم من أعالي السماء نحو الشجرة ، وفي أثرها ، انحدر النسر الذهبيّ ، وقد ضمّ جناحيه المتسعين ، وحطا معاً على غصنين متقاربين من الشجرة الكثيفة الأغصان ، حتى كاد أحدهما يلامس الآخر .
وتلفت النسر الذهبيّ حوله ، وقال : هذا الوادي هادىء ، ومنعزل ، وتتوفر فيه شتى أنواع الطرائد .
وقالت الأنثى : فيه أفاع كثيرة .
وعلق النسر مبتسماً : لا ألذّ من الأفاعي .
وتابعت الأنثى قائلة : لكن إحدى الأفاعي الموجودة هنا كبيرة ، وقد تشكل خطراً على .. صغيرنا .
وحدق النسر الذهبيّ فيها ، وقلبه يخفق فرحاً ، وقال : لا خوف عل صغيرنا ، مهما كانت الأخطار ، مادام له أبوان مثلنا أنا وأنتِ .
ولاذت الأنثى بالصمت ، فمال النسر الذهبيّ عليها ، وقال بصوت دافىء : لنبن ِ عشنا هنا ، بين أغصان هذه الشجرة .
وأطرقت الأنثى رأسها ، وردت قائلة : كما تشاء ، إنها شجرة مناسبة ، لنبن عشنا فيها .

" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
بعد شروق الشمس بقليل ، أطلت السحلية برأسها من مدخل وكرها ، فهي لا تستطيع أن تمشي أو تركض ، أو تسعى للبحث عما تأكله ، إن لم يسخن دماغها أولاً ، وتسري الحرارة في جسمها كله .
وحالما دفأتها حرارة الشمس ، وشعرت بالحياة تضج في عروقها ، تقدمت ببطء خارج الوكر ، كانت حركتها مازالت بطيئة ، لكنها ستزداد أكثر فأكثر مع ارتفاع الشمس في السماء ، وتقدم النهار .
وتوقفت حذرة ، حين رأت الأفعى الضخمة ، تزحف على الأرض ، وحين لمحتها الأفعى أبطأت قليلاً ، وقالت : لم أرَ جارتنا العقرب يوم أمس .
وردت السحلية ، وهي تتأهب للفرار ، عند أي بادرة خطرة من الأفعى : أنا أيضاً لم أرها .
وقالت الأفعى ساخرة : من يدري ، لعل حماراً عجوزاً سحقها بحوافره .
وفكرت السحلية لحظة ، ثم قالت مترددة : لكن لا تمر حمير من هنا .
ورفعت الأفعى رأسها ، ونظرت إلى النسرين ، الذكر والأنثى ، وهما يتلاعبان في أعالي السماء ، وقالت : لا توجد حمير ، لكن يوجد نسران ذهبيان .
وتراجعت السحلية قليلاً باتجاه وكرها ، وقالت : إنهما بعيدان ، في أعالي السماء .
وتطلعت الأفعى إليها ، وقالت بنبرة وعيد : سيحتاجان إلى ما يأكلانه ، فهما يبنيان عشاً فوق تلك الشجرة ، الكثيفة الأغصان .
وقالت السحلية : الطيور كلها تبني الأعشاش الآن ، فهذا أوان وضع البيض .
وعلقت الأفعى ، وكأنما تحدث نفسها : أنثى النسر الذهبي ، تضع بيضة واحدة في السنة .
وتوقفت السحلية ، وقالت : ملكة النمل تضع مئات البيوض في المرة الواحدة .
ونظرت الأفعى إلى النسرين ، وهما مازالا يحلقان في أعالي السماء : نعم ، أنثى النسر تضع بيضة واحدة في السنة ، لكنها حين تفقس ، تفقس .. نسراً .
ولاح ابن آوى من بعيد ، يهرول بجسمه النحيل ، وقوائمه الطويلة ، فاستدارت السحلية ، وانطلقت كالبرق إلى وكرها ، وهي تقول : جاء ابن آوى .
وقالت الأفعى ساخرة : أهلاً به .
وما إن رأى ابن آوى الأفعى ، تزحف على الأرض ، وهي تحدق فيه ، حتى توقف متحفزاً للفرار ، ثم استدار ببطء ، ومضى لا يلوي على شيء .

" 3 "
ــــــــــــــــــــ
خرجت العقرب من وكرها ، وتوقفت على مقربة من المدخل ، وتلفتت حولها ، لا أحد من الكائنات الحية في مدى نظرها ، لا السحلية ، ولا الأفعى ولا الأرنب ، ولا حتى ابن آوى .
وركضت فوق الأرض ، التي تكاد تخلو من النباتات ، وأزعجتها في سيرها كثرة الحجارة والحصا ، ومضت دون أن تبالي بمن يمكن أن يظهر أمامها ، فزبانيتها السامة ، التي تعلو ذنبها المعقوف ، سلاح فتاك مخيف ، يرهبه كلّ من يعرفها ويراها .
وتباطأت قليلاً ، حين مرّ فوقها ظلّ جناحين كبيرين ، إنه النسر الذهبيّ أو أنثاه ، أو كلاهما معاً ، الويل لهما ، لقد أخبرها ضبّ ، حرص أن لا يقترب منها ، بأن الأنثى قد وضعت بيضة في العش ، وأنها ترقد فوقها .
وسارت بسرعة ، زاحفة إلى الأعلى ، تريد أن تقترب من الشجرة الكثيفة الأغصان ، التي تضم العش ، لتلقي نظرة عن كثب ، وتتأكد من وجود البيضة .
وتوقفت لاهثة ، متقطعة الأنفاس ، فصعود مرتفع بالنسبة لها ، ليس كالسير على أرض مستوية ، وتطلعت إلى الشجرة الكثيفة الأغصان ، وقد صارت على مرمى بصرها ، ولمحت أنثى النسر ترقد في العش ، الضب صادق إذن ، لها بيضة ، بيضة واحدة ، وستفقس بعد حين ، ويكون لها فرخ ، آه لن أدع هذا الفرخ يطير مثل أبويه ، ويكون مصدر خطر لأمثالي من العقارب .
وتلفتت أنثى النسر حولها بحذر ، وهي ترقد على البيضة في عشها ، وكأنها شعرت بأن أحدهم يراقبها من مكان ما ، وربما يشكل هذا خطراً على البيضة ، أو على الفرخ بعد أن تفقس البيضة .
وتراجعت العقرب بحذر شديد ، ثم استدارت ، ومضت تبحث عما تأكله ، فالبيضة في العش ، والعش بين أغصان الشجرة ، ولن يغيرا مكانهما ، وحتى لو فقست البيضة ، وخرج منها الفرخ ، فإنه لن يهرب من زبانتها المسمومة ، الويل للنسر ، لقد حاول ذات مرة ، أن يطعنها بمنقاره القوي الحاد ، ولو لم تلذ بوكرها في الوقت المناسب لهلكت ، وفارقت الحياة .




" 4 "
ــــــــــــــــــــــ
توقف ابن آوى متعباً ، وتلفت حوله ، ستغيب الشمس بعد قليل ، ويحلّ الليل ، ويعود إلى وكره ، وهو لم يحظ َ اليوم أيضاً بما يأكله .
وتنهد من أعماقه الجائعة ، لعل المشكلة ليست أن للطيور أجنحة ، تحلق بها بعيداً عنه ، ولا أن للأرانب أرجلاً سريعة كالريح ، فلا يلحق بها ، ولا أن السحالي سريعة ، و و و .. فهو ، وليعترف بالأمر الواقع ، لم يعد فتياً ، وقوياً ، وسريعاً ، كما كان في الماضي .
ورفع رأسه ، ونظر بحسرة إلى الشجرة البعيدة الكثيفة الأغصان ، من يدري ، ربما تكون بيضة النسر الذهبي قد فقست ، وخرج منها فرخ ، آه ما ألذ ّ الفرخ ، يمكن أن يسكت جوعه لو .. و .. ورغم شعوره بالخوف الشديد ، تسلل نحو الشجرة الكثيفة الأغصان .
وتوقف حين واجهه وكر للنمل ، يتزاحم النمل عند مدخله ، يا له من رعديد ، إنه يخاف حتى من النمل ، وتراجع قليلاً ، حين تقدمت منه عدة نملات صغيرات غاضبات ، وقالت له إحداهن : هل أنت أعمى ؟ ابتعد عن وكرنا ، ففيه بيضنا وصغارنا .
وتراجع ابن آوى ، وعيناه تتطلعان إلى الشجرة الكثيفة الأغصان ، فصاحت به نملة تحذره : إياك أن تقرب عش النسر الذهبيّ ، لقد فقست بيضته ، وسيمزقك النسران ، إذا فكرت في الاقتراب من الفرخ .
واستدار ابن آوى ، ومضى متحاملاً على نفسه ، وبطنه تقرقر من الجوع ، بينما كانت الشمس تأوي متعبة إلى ما وراء الأفق .

" 5 "
ــــــــــــــــــــــ
كادت الشمس تغرب ، وتنحدر وراء الأفق ، ولم يحظ َ النسر الذهبي بما تمنته أنثاه ، وهي ترقد في العش محتضنة فرخهما الصغير .
ومن مكانه في أعالي السماء ، وبعينيه الحادتي النظر ، أبصر أفعى ، لم تكن كبيرة ، لكنها أيضاً ليست صغيرة الحجم ، وكالسهم انقض عليها ، فليأخذها إلى أنثاه ، ويؤجل الأرنب إلى يوم آخر .
وحط ّ النسر على طرف العش ، ووضع الأفعى أمام أنثاه ، فالتفتت الأنثى ، وحدقت في الأفعى ، وقالت مبتسمة : هذا أرنب نحيل ، وطويل بعض الشيء .
وقال النسر : غداً تأكلين أرنباً مكتنزاً .
واقتطعت الأنثى جزء من الأفعى ، وازدردتها على مهل
، وقالت : غداً سأخرج بنفسي ، وأصطاد أرنباً ، فأنا خبيرة بصيد الأرانب .
وقال النسر مازحاً : لا تنسي الأرانب ، التي اصطدتها لكِ ، ونحن نبني العش ّ .
فقالت الأنثى ، وهي مازالت تقطع الأفعى ، وتزدردها : ولهذا أريد أن أصطاد أرنباً ، وأطعم فرخنا منه .
وراح النسر يشاركها الطعام من بقايا الأفعى ، وهو يقول : حسن ، فليأت ِ الغد ، وسنرى من منّا سيصطاد الأرنب أولاً .

" 6 "
ـــــــــــــــــــــ
مع الفجر أفاق النسر الذهبيّ ، ومعه وفي نفس الوقتِ ، أفاقت أنثاه ، فتطلع إليها مبتسماً ، وقال : مازلتُ على وعدي لكِ ، اليوم ستأكلين أرنباً .
وابتسمت الأنثى بدورها ، وقالت : سآكل اليوم أرنباً ، سواء من صيدك أو من صيدي .
وهبّ النسر الذهبيّ ، فاتحاً جناحيه المتسعين ، يريد الانطلاق إلى الفضاء ، وهو يقول : لا ، ابقي أنتِ هنا ، وسآتيك بالأرنب الذي تريدينه .
لم تصغي الأنثى إليه ، وإنما هبت من مكانها ، فاتحة جناحيها على سعتهما ، وقالت : سأرافقك حتى أضمن صيد الأرنب .
وحاول النسر الذهبيّ أن يثنيها ، وهو ينطلق إلى أعالي السماء ، وقال : ابقي مع فرخنا ، إنه مازال صغيراً ، لا تدعيه وحده في العش .
وردت الأنثى قائلة ، وهي تنطلق بدورها إلى أعالي السماء : المكان هنا آمن ، ولن أتأخر عليه ، فأنا أريده أن يأكل اليوم أرنباً دسماً .
وانطلقا معاً أحدهما إلى جانب الآخر ، وسرعان ما مالت الأنثى عنه ، ومضت مسرعة ، وهي تقول : لا فائدة من الطيران معاً ، اذهب أنت في هذا الاتجاه ، وسأذهب أنا في الاتجاه الآخر .
وصاح النسر ، وهو يمضي في طريقه : سأنتظركِ في العش بعد قليل ، ومعي الأرنب .
ومضت الأنثى مبتعدة ، وهي تقول : سنرى من منّا سينتظر الآخر ، ومعه الأرنب .
وقد حالفها الحظ ، بعد قليل ، إذا وقعت عيناها الحادتا النظر ، على أرنب صغير ، يركض في الحقل بعيداً عن أمه ، وانتبهت أمه إليه ، وحاولت أن تلحق به ، لكن بعد فوات الأوان ، فقد انقضت الأنثى عليه من أعالي السماء ، وأنشبت فيه مخالبها ، وطارت به .
وتراءى لها صغيرها ، يستقبلها في العش فرحاً ، فتضع الأرنب الصغير أمامه ، وتقول له : بنيّ ، كل هذا الأرنب الصغير ، وستذكر مذاقه طول حياتك .

" 7 "
ـــــــــــــــــــــــ
دوّت صرخة أنثى النسر الذهبي : فرخي ..
وتردد صدى الصرخة في الوادي كله .. فرخي .. فرخي .. فرخي ..
وتوقف ابن آوى العجوز ، وكان منهمكاً في التهام بقايا جثة غراب عجوز ، مات قبل أيام بسبب الشيخوخة والجوع الشديد .
وأفاقت الأفعى الضخمة من نومها في ظل شجرة جافة ، على صدى صرخة أنثى النسر الذهبي ، يتردد في جنبات الوادي ، فهبت من مكانها ، ومضت تزحف مسرعة نحو وكرها .
وارتج النسر الذهبي ، وخفق قلبه بشدة ، وهو يحلق عالياً في الجو ، باحثاً عن أرنب يصطاده لأنثاه ، ويفي بذلك وعده لها .
وانطلق النسر الذهبي إلى العش ، وقلبه مازال يخفق بشدة ، ترى ماذا جرى ؟ لابد أنه الفرخ الصغير ، وإلا ما أطلقت هذه الصرخة المدوية .
وقبل أن يحط على طرف العش ، عرف الحقيقة ، نعم إنه الفرخ الصغير ، ورأى أنثاه تقف وسط العش ، وأمامه يرقد الفرخ جثة هامدة .
وتمتم النسر : ترى من فعل هذا !
ولاذت الأنثى بالصمت ، لعل الدموع كانت تخنق صوتها ، فتابع النسر قائلاً : لعلها الأفعى ..
وهزت الأنثى رأسها ، وقالت بصوت دامع : كلا ، ليست الأفعى ، لو كانت الأفعى لكانت أكلته ..
ورفع النسر رأسه ، وتلفت حوله ، وقال : ليست الأفعى ، ولا أظنّ أنه ابن آوى ..
وقاطعته الأنثى ، دون أن تنظر إليه : كلا ، ليس ابن آوى ، إنه ما كان ليجرؤ حتى على الاقتراب من الشجرة ، التي فيها العش .
وصمت النسر ملياً ، ثم تساءل : من الفاعل إذن ؟
فقالت الأنثى ، وهي تمسح الدموع من عينيها : سأعرف الفاعل ، سأعرفه وسأجعله يدفع الثمن غالياً ، حتى لو كان هذا آخر عمل أقوم به في حياتي .

" 8 "
ــــــــــــــــــــ
ما إن سمعت العقرب الصرخة : فرخي ..
وقبل أن يتردد صدى الصرخة في الوادي كله : فرخي .. فرخي .. فرخي ..
حتى انزوت في أقصى زاوية من وكرها ، الذي يسوده الظلام ، وقد أرخت زبانيتها ، وقلبها يخفق بشدة ، ويتردد بين الفرح والرعب .
وتراءى لها فرخ النسر الذهبيّ ، ملقى في قاع العش جثة هامدة ، وأبواه النسران يقفان حائرين ، يتأكلهما الحزن والغضب ، يحدقان فيه ، ولابدّ أنهما يتساءلان ، ترى من قتله ؟ وأشعتُ في كلّ مكان ، بأن النمل هو من قتله ، وقد لا يصدقان هذا ، وسيبحثان في كلّ مكان عن القاتل .. القاتل الحقيقي .. سيبحثان .. ويبحثان طول عمرهما .. ولن يعرفا الحقيقة .. مهما حاولا .. ومهما امتد بهما العمر .
وران الصمت والظلام على الوادي ، بعد أن أوت الشمس إلى ما وراء الأفق ، ورقد الكثير من أحياء الوادي في أوكارهم ، وسرعان ما استغرقوا في نوم عميق ، عدا النسران وكذلك العقرب .
لم يحاول النسران أن يناما ، وجثة فرخهما الصغير ، ملقاة أمامهما في قاع العش ، أما العقرب فقد أغمضت عينيها ، وقد هدأت أنفاسها ونبضات قلبها ، فما تمنته وتمناه معها العديد من أحياء الوادي ، قد حدث ، نعم ، لقد طعن النسران الذهبيان في أعزّ ما يملكان ، طعنا في فرخها الوحيد الصغير .
وفتح العقرب عيناه على سعتهما في الظلام ، وقد امتلآ بالرعب ، وراح قلبه يخفق بشدة من جديد ، فقد شعرت بمئات الأقدام والفكوك الصغيرة تتدافع فوق جسمها ، وتنهشه من كلّ مكان ، يا للويل .. إنه النمل .
وهبت من مكانها كالمجنونة ، وزبانيتها السامة تعلو ذنبها المعقوف ، وهي تضرب يميناً ويساراً ، وتصرخ : دعوني .. دعوني .. وإلا قتلتكم جميعاً .
لم يدعها النمل ، وراحوا يعملون في جسمها المرعوب فكوكهم القوية ، وسمعت إحدى النملات تصيح : أيتها الجبانة ، أنت قتلت فرخ النسر ، وتشيعين في كل مكان ، بأننا نحن النمل من قتله .
وصاحت العقرب ، وهي تحاول عبثاً ، أن تبعد النمل عنها : دعوني .. لقد انتقمت من النسرين .. لكل من في الوادي .. انتقمت للطيور والأرانب والسحالي و .. و دعوني .. إنني أموت .. اخرجوا .. اخرجوا ..
وخرج النمل بعد حين ، ومضوا إلى بيتهم تحت جنح الظلام ، وفي داخل المغارة ، كانت العقرب مرمية على الأرض جثة هامدة .





عندما فاض النهر

" 1 "
ـــــــــــــــــــ
تساقطت الثلوج ، طوال أشهر الشتاء ، فوق الجبال والغابات والسهول الممتدة حول النهر ، الذي تجمدت مياهه بفعل البرد الشديد .
واستمرت الحياة ، وإن بدرجات متفاوتة ، تحت المياه المتجمدة ، وفوق الثلوج التي غطت كلّ شيء ، بما فيها الغابات ، التي تمتد على امتداد النهر .
وعانت الحيوانات ، التي لا تسبت شتاء ، طوال أشهر الشتاء ، مثل الطيور والثعالب والأرانب ، وحتى الإنسان نفسه ، من تساقط الثلوج والأمطار ، وقسوة البرد ، وشدة العواصف ، وشحة المواد الغذائية ، وصعوبة الحصول عليها ، عدا الأسماك ، والكائنات المائية ، التي ظلت تعيش حياة طبيعية ، تحت سطح ماء النهر المتجلد بفعل برودة الشتاء الشديدة .
ومرت أشهر الشتاء ببطء ، لكنها أخيراً اقتربت من النهاية ، وراحت الشمس تطل من وراء الغيوم ، بين حين وآخر ، مشيعة الدفء المتزايد في أرجاء المنطقة ، فبدأت الثلوج بالذوبان ، وراحت تباشير الربيع تلوح قادمة يوماً بعد يوم ..

" 2 "
ــــــــــــــــــ
توقف المطر قبيل الفجر ، ومع الإطلالة الأولى للشمس ، خرج الصياد الخمسيني من الكوخ ، وأغلق بابه بإحكام ، ومضى يسير على الثلوج ، التي بدأت تذوب ، وبندقيته بين يديه .
لقد أفاق عند منتصف الليل ، على عواء ذئب صادر من بعيد ، لابد أن هذا الذئب اللعين ، انحدر من التلال البعيدة ، التي تغطيها الثلوج ، والتي تكاد تخلو مما يمكن أن يسكت بها جوعه .
من الأعالي ، محلقاً فوق الأشجار الشامخة ، رآه النسر ، يسير متوغلاً بين الأشجار ، بعيداً عن النهر ، الذي مازال متجمداً ، وإن كان الجليد في بعض جوانبه ، قد راح يتصدع ، بفعل الربيع ، الذي بدأت بشائره تلوح قادمة من بعيد .
لكن ما لم يره النسر ، وهذا يهمه جدا ، في هذا الوقت بالذات ، الذي تستعد فيه أنثاه لوضع البيض ، أفعى كبيرة ، جائعة ، تجوب الأشجار القريبة ، تبحث عما تسكت به جوعها .

وخرج القندس من مدخل بيته تحت الماء ، وشق طريقه سابحاً إلى الأعلى ، وأطل برأسه على الغابة ، من صدع صغير في الجليد ، الذي يغطي النهر .
ومن بعيد ، لمحته الغزالة ، وهي تقف على حافة النهر المتجمد ، واستدارت ببطء ، ومضت عائدة إلى وكرها ، بعد أن تناهت إليها حركة مريبة بين الأشجار ، وخشيت أن يكون الذئب في الجوار .
ويبدو أن خشية الغزالة كان في محلها ، فقد كان الذئب ، الذي انحدر من التلال البعيدة ، التي تغطيها الثلوج طوال الشتاء ، يتسلل بين الأشجار ، باحثاً عما يسكت به جوعه ، لكن دون جدوى .

" 3 "
ــــــــــــــــــــ
حطّ النسر وسط النهر ، الذي مازال الجليد يغطي أجزاء كثيرة منه ، واقترب من صدع كان ماء النهر يتلامع فيه ، تحت أشعة الشمس الدافئة .
وراح يراقب بعينيه الحادتين الماء ، ولمح سمكة متوسطة الحجم ، تسبح ببطء ، قريباً من السطح ، وبسرعة البرق ، مدّ إحدى رجليه ، المدججة بمخالب حادة قوية ، وأنشب مخالب بالسمكة ، وسحبها بسرعة خارج الصدع .
وطار عالياً والسمكة بين مخالبه ، وحط فوق عشه ، حيث كانت أنثاه تنتظر ، ووضع السمكة أمامها ، وقال مازحاً : كلي ، أنتِ بحاجة إلى غذاء .
وبدأت تأكل ، وهي تقول : سأحتاج بعد أيام إلى غذاء أكثر بكثير من هذه السمكة .
وتوقف النسر عن تناول الطعام ، وقال : ضعي البيض ، وارقدي عليه ، وأنا سأتكفل بالطعام .
ونظرت أنثاه إليه ، وقالت : كل الآن ، فلن أضع البيض قبل مرور عدة أيام .

" 4 "
ـــــــــــــــــــــ
توقف الذئب عند شجرة منخورة الجذع ، أسقطتها عاصفة هوجاء قبل أكثر من سنتين ، وأصابتا الأمطار والثلوج وحرارة الصيف بتشققات عديدة ، وقامت الفئران بحفر أنفاق فيها ، تلوذ بجنباتها من الثعالب والهررة البرية والأفاعي .
وتلفت الذئب متشمماً ، ومع رائحة العفن ، التقط رائحة فأرة ، هناك إذن فأرة وربما أكثر ، ومدّ خطمه في الشقوق ، لعلّه يعثر على فأرة ، يسكت بها جوعه ، لكنه لم يعثر على شيء .
إن رائحة الفأرة ، أو الفئران ، مازالت تفوح من داخل الجذع المتشقق المنخور ، فدفع الذئب خطمه في الشق الضيق ، وراح يفتت أجزاء من الجذع بمخالبه وأسنانه الحادة ، دون جدوى أيضاً ، وبغضب مدّ قائمتيه الأماميتين القويتين ، وأمسك بالجذع المنخور ، وقلبه ، فتساقطت منه ثلاث فأرات مذعورات ، ركضت كلّ منها باتجاه ، ووقف الذئب متردداً حائراً ، ثم حسم أمره ، وطارد إحدى الفأرات الثلاث ، وأمسك بها بين مخالبه ، وسرعان ما دفعها إلى فمه ، وازدردها .
واستدار بسرعة ، وراح يبحث عن الفأرتين الهاربتين ، فتلك الفأرة اللعينة لم تشبعه ، خاصة وأنه لم يحظّ بما يأكله منذ أيام عديدة ، لكنه توقف منتبهاً ، وأرهف سمعه ، وسرعان ما انطلق مبتعداً ، حين خيل إليه أن إنساناً ، ولعله الصياد ، يجوس في الجوار .

" 5 "
ــــــــــــــــــــ
توقفت الغزالة لحظة عند حافة الغابة ، القريبة من النهر ، وقبل أن تستدير على عقبيها ، وتمضي متوغلة بين الأشجار المتشامخة ، لمحت كركيين فتيين ، ذكراً وأنثى ، يقفان على بقعة قريبة ، وبدا لها أنهما ـ ربما ـ يلتقيان للمرة الأولى .
ورمق الكركي الأنثى الفتية بنظرة سريعة ، وقال : هذه بقعة جميلة ، ومرتفعة بعض الشيء .
ورمقته بنظرة خاطفة ، وقالت : لا أظن أن الماء يمكن أن يصل إليها ، إذا ذابت الثلوج ، وفاض النهر .
وهزّ الكركي رأسه ، وقال : هذا المكان مناسب لبناء عشّ ، وخاصة للكراكي .
وقالت الأنثى : سيكون عشاً مريحاً .
وحدق الكركي فيها ، وقال : ماذا لو تعاونا أنا وأنتِ على بناء عش هنا .
فقالت الأنثى : سيكون صغارنا ، في هذا العش ، مرتاحين وآمنين .
في الأيام التالية ، ولما مرّ النسر في طريقه إلى النهر ، لمح من مكانه في أعالي الجو ، الكركيين ، الذكر والأنثى ، منهمكين في بناء العش .

" 6 "
ـــــــــــــــــــ
أقبل الربيع ، وارتفعت حرارة الشمس ، وراحت الثلوج تذوب أسرع فأسرع ، وتدفقت المياه في النهر أكثر فأكثر ، حتى بدأت تزحف على الضفاف ، وتتوغل بين أشجار الغابة .
وحلق النسر متجهاً نحو النهر ، تاركاً أنثاه راقدة في العش فوق البيض ، وقبل أن يصل إلى النهر ، لمح الكركي وأنثاه في عشهما ، وأسرع إلى النهر ، فعليه أن يصطاد سمكة ، ولتكن كبيرة ، فأنثاه تحتاج إلى الطعام ، خاصة وأن البيض سيفقس قريباً .
وتطلعت أنثى الكركي ، وهي ترقد فوق بيضاتها الثلاث ، إلى ماء النهر ، الذي بدا لها أنه يزحف نحو العش ، وقالت : انظر إلى النهر ، إنه يقترب منّا .
ولكي يطمئنها ، وربما يطمئن نفسه أيضاً ، قال لها : لا تخافي ، عشنا في مكان آمن ، ولن يصل ماء النهر إليه مهما ارتفع .
وصمت لحظة ، ثم فتح جناحيه ، وحلق مبتعداً عن العش ، وهو يقول : أنتِ جائعة الآن ، سأذهب وآتيك ببعض الطعام .
وفي طريق عودته إلى عشه ، وهو يحمل بين مخالب قدمية سمكة كبيرة ، ألقى النسر نظرة خاطفة إلى عش الكركي ، لكنه لم يلمح فيه إلا الأنثى وحدها ، وهي راقدة ـ مثل أنثاه ـ على البيض .


" 7 "
ــــــــــــــــــــ
توقفت الغزالة عن تناول الأعشاب الغضة ، التي نمت بعد انحسار الثلوج عن التربة ، عندما تناهت إليها حركة من مكان قريب من شاطىء النهر ، الذي غمرته المياه العكرة ، وسارعت بالتوغل بين الشجيرات الكثيفة ، من يدري ، لعله الذئب ، الذي يجول في الجوار منذ أيام ، وربما يكون قد شمّ رائحة خشفها الصغير .
لكن الحركة ، التي تناهت إلى الغزالة ، لم تكن صادرة عن الذئب ، وإنما عن القندس ، الذي غادر بيته منذ الصباح ، وراح يبحث عن طعام له ولصغاره ، الذين أبقاهم في بيته تحت الماء ، وطلب منهم أن لا يغادروه ، حتى يعود إليهم بالطعام .
وجمع القندس ما يستطيع حمله من الطعام ، وغاص في ماء النهر ، متوجهاً إلى بيته ، ولاحظ بقلق أن مياه النهر ترتفع شيئاً فشيئاً ، وأن التيارات المائية تزداد قوة ، وربما إذا استمرت بالارتفاع ، والاندفاع بقوة أشد ، فأنها قد تجرف سدود القنادس ، وبيوتها ، التي كدحت ببنائها طوال أشهر الصيف .
وما إن دخل القندس بيته ، حتى تحلق الصغار حوله ، وراحوا يلتهمون ما جلبه لهم من طعام ، ووقف القندس وأنثاه ينظران قلقين إلى الصغار ، دون أن يمدّ أحدهما يده إلى الطعام .

" 8 "
ــــــــــــــــــــ
أسرعت الغزالة ، وقد ازداد خوفها عما كان عليه من قبل ، فهي الآن لا تخاف الذئب على نفسها فقط ، فهي لديها الآن خشف صغير ، ولد قبل أيام ، تتركه في وكرها بين الشجيرات الخفيضة ، وتعود إليه ، بعد أن تكون قد شبعت ، وامتلأت ضروعها بالحليب .
وما إن اقتربت الغزالة من الوكر ، حتى اندفع خشفها الصغير إليها فرحاً ، ثم اندس بين ضروعها الممتلئة بالحليب الدافىء ، وراح يرضع منها بنهم .
واستسلمت له فرحة ، وإن شاب فرحها شيء من القلق والخوف ، فقد تناهى إليها ليلة البارحة عواء الذئب ، يصدر من بعيد ، وخشيت أن يعرف وكرها ، ويهاجمها ، ويختطف منها خشفها الصغير .
وندت حركة خارج الشجيرات الخفيضة ، وخفق قلبها بشدة ، إنه الذئب ، وأبعدت خشفها الصغير عن ضروعها ، ورغم احتجاجه دفعته برفق إلى داخل الوكر ، ونظرت إليه ، هذا الأحمق الصغير ، لا يمل من الرضاعة ، ولا يشبع منها ، وهو فوق ذلك ، لا يعرف معنى الذئب ، ولا خطره .
وعلى حين غرة ، انشقت الشجيرات الخفيضة ، وبرز من خلالها الذئب ، وقد كشر عن أنيابه المخيفة القاتلة ، لم تفكر الغزالة بالهرب ، فخشفها بعد صغير ، لا يقوى على الركض السريع ، فدفعته وراءها ، ووقفت لاهثة في مواجهة الذئب .
واندفع الذئب المفترس نحوها ، وقد كشر عن أنيابه ، وقبل أن ينشب فيها ، أو في خشفها الصغير ، مخالبه القاتلة ، لاح الصياد مقبلاً ، وقد سدد بندقيته نحو الذئب ، وضغط على الزناد .
دوت الإطلاقة عالياً ، وتردد صداها في أرجاء الغابة كلها ، وفزت الطيور ، وحلقت مرعوبة بعيداً عن أعشاشها ، وعندما عاد النسر إلى عشه ، حاملاً سمكة كبيرة ليأكلها هو وأنثاه ، لمح الصياد يحمل خشفاً صغيراً ، تتبعه مهرولة الغزالة الأم .
وفزّ النسر ، عندما سمع دويّ الإطلاقة ، وقفل مسرعاً إلى العش ، رغم أنه لم يصطد لأنثاه سمكة واحدة ، وخفق قلبه بشدة ، وهو يرى من بعيد ، الأفعى الضخمة تزحف على الشجرة ، متجهة إلى عشه ، وبدا له أن أنثاه لم تنتبه إليها ، فانطلق نحوها كالسهم ، وطعنها بمنقاره القوي ، وألقاها جثة هامدة على الأرض .

" 9 "
ـــــــــــــــــــــ
فقست البيضة الأولى للكركي وأنثاه ، وخرج الفرخ من البيضة مبللاً يوصوص ، كأنه ينادي والديه ، ويقول لهما : ها أنذا ، أنا صغيركما .
وفرح الكركيان به فرحاً غامراً ، لكن فرحهما هذا لم ينسيهما القلق والخوف من ارتفاع ماء النهر المستمر ، واقترابه الحثيث من عشهما ، رغم أنهما بنياه على مرتفع بعيداً عن النهر .
وغالب الكركي قلقه ، وقال فرحاً : عزيزتي ، لقد فقست بيضتنا الأولى .
وردت الأنثى ، وعيناها تحيطان فرخها الأول ، وكأنها تذود عنه كلّ خطر : لكن ماء النهر ..
وتأتأ الكركي ، يرد مخاوفه أكثر من رده لمخاوفها : انظري كم هو جميل .
وتابعت الأنثى قائلة ، وعيناها مازالتا تحيطان بفرخها الصغير : آه ليت ماء النهر يتوقف عند هذا الحد .
وتنهد الكركي ، وقال : سيتوقف ، سيتوقف ، يا عزيزتي ، وستفقس البيضتان الأخرتان .
ولاذت الأنثى بالصمت ، ثم فتحت جناحيها ، وضمت الفرخ الصغير إلى صدرها ، ولاذ الكركي بدوره بالصمت حائراً ، لا يدري ماذا يفعل ، والشمس تنحدر شيئاً فشيئاً وراء الأفق .
وأفاق الكركيان ، في صباح اليوم التالي ، والشمس تطل من الأفق ، وفوجئا بمياه النهر ، وقد ارتفعت خلال الليل ، وتكاد تحيط بالعش .
وبدا الجزع الشديد على الأنثى ، فنظر الكركي إليها مشفقاً ، وقال : الشمس أشرقت ، اذهبي وتناولي بعض الطعام ، سأبقى أنا في العش .
لكن الأنثى لم تتحرك من مكانها ، وهي تحضن الفرخ والبيضتين اللتين قد تفقسان في أية لحظة ، وقالت للكركي : اذهب أنت ، اذهب وتناول طعامك ، فأنت لم تأكل أي شيء منذ البارحة .
وقبل أن يحلق الكركي ، ويبتعد عن العش ، الذي كانت المياه تزحف نحوه ، قال للأنثى بصوت حاول أن يكتم فيه قلقه : سأذهب ، وأعود سريعاً ، وسآتيك ببعض الطعام ، فلابدّ أنكِ أنتِ أيضاً جائعة .

" 10 "
ـــــــــــــــــــــــ
عاد الكركي ، بعد فترة قصيرة ، وقد حمل بعض الطعام لأنثاه ، لكنه لم يجد أثراً ، لا لأنثاه ولا للعش نفسه ، الذي يضم البيضتين وفرخه الصغير ، وكان الماء قد تجاوز مكان العش ، وراح يتوغل في الغابة .
وتلفت حوله ، وقلبه يخفق بشدة ، لابدّ أن المياه جرفت العش ، كما جرفت الكثير من الأشجار والشجيرات والأعشاش ، وأخذته معها بعيداً ، أو ـ وهذا أسوأ ـ أغرقته ، وغاصت به إلى الأعماق .
كلا ، العش موجود ، ولو كان قد غرق ، لكانت زوجته موجودة في مكان قريب ، فألقى الطعام جانباً ، وفتح جناحيه ، وحلق مع مجرى النهر .
وراحت عيناه الغارقتان بالدموع ، تسبقه بالطيران فوق سطح الماء ، باحثة والنهار في أوجه ، عن عشه وأنثاه ، لكن دون جدوى .
وظل يحلق مع النهر ، حتى مالت الشمس إلى الغروب ، وبدأت مياه النهر ، وما تجرفه معها يتلاشى ويختفي شيئاً فشيئاً ، فأبطأ في طيرانه ، وابتعد عن مجرى النهر ، وأوى إلى شجرة ، قضى فيها الليل .
وعند الفجر ، حلق عائداً إلى غابته ، وبعد منتصف النهار ، لاحت الغابة من بعيد ، وعلى مقربة من المكان الذي كان فيه عشه ، رأى أنثاه تقف جامدة ، وقد خيم عليها الحزن والألم .
وحط إلى جانبها ، دون أن ينبس بكلمة ، وظلت هي جامدة لا تتفوه بكلمة واحدة ، وأخيراً رفع عينيه إليها ، وقال : منذ البارحة ، وأنا أبحث عنكِ ، وعن العش وما فيه ، على امتداد النهر .
وسكت الكركي ، وبقيت الأنثى صامتة لفترة ، ثم قالت بصوت تغرقه الدموع : عدت مساء أمس ، ولبثتُ هنا منذ ذلك الوقت .
ولاذ الكركي بالصمت ، فتابعت الأنثى قائلة : بعد أن ذهبت أمس ، لتجلب بعض الطعام ، ارتفع ماء النهر بسرعة ، حتى طفا العش بما فيه ، وابتعد شيئاً فشيئاً عن هذا المكان ، لم أغادره ، وعيناي الملتاعتان لم تغادر البيضتين وفرخنا الصغير ، ومضى العش تتقاذفه الأمواج ، فتفككت عيدانه ، وتساقط قشه ، وهوى ما تبقى منه ، ومعه البيضتان والفرخ الصغير ، وهوى إلى القاع ، حتى اختفى كل شيء تماماً .

" 11 "
ــــــــــــــــــــــ
قبيل المساء ، حلق الكركي وحده ، وظلت الأنثى جامدة في مكانها ، وبصعوبة بالغة ، اصطاد سمكة متوسطة الحجم ، بعد أن أفلتت منه ـ وهذا نادراً ما كان يحدث له ـ أكثر من سمكة .
ومع غروب الشمس ، عاد الكركي إلى أنثاه ، حاملاً السمكة بمنقاره ، ووضع السمكة أمامها ، وقال : لابد أنكِ جائعة ، فأنت لم تأكلي شيئاً منذ البارحة .
وردت الأنثى قائلة ، دون أن تلتفت إليه : كلْ أنت ، أنا لا أستطيع أن آكل أي شيء .
وعند منتصف الليل ، أطل القمر من بين الغيوم ، ورأى كركيين ، ذكراً وأنثى ، يقفان جامدين جنباً إلى جنب ، وأمامهما على الأرض سمكة متوسطة الحجم .
وأطلّ الفجر ، والكركيان مازالا على حالهما ، وهبت نسمة عذبة ، تحمل أشذاء الربيع وحيويته الدافقة ، ففرد الكركي جناحه ، وطوق به أنثاه ، وقال : أنتِ مازلت فتية ، وأنا كذلك ، وأمامنا العمر بحلوه ومره ، فلننهض في أسرع وقت من كبوتنا ، ونبني عشاً جديداً وحياة جديدة ، لا يقهرها النهر مهما فاض .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي