حصيلة الحرب وطبخة -غزة في اليوم التالي-

جيلاني الهمامي
2024 / 1 / 13

حصيلة الحرب
وطبخة "غزة في اليوم التالي"


عاد وزير الخارجية الأمريكي الى منطقة الشرق الأوسط في جولة مكوكية قادته الى عدد من البلدان العربية (السعودية وقطر والامارات والأردن ومصر) وتركيا والكيان الصهيوني وما يسمى بالسلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية. وتندرج هذه الجولة في إطار مساعي الامبريالية الامريكية الى مد يد العون للكيان الصهيوني الذي يعاني من صعوبات حقيقية في ميدان المعركة كما يعاني من مصاعب اقتصادية واجتماعية ومن تصدع حقيقي في الفريق اليميني الفاشستي الحاكم سواء في الحكومة ككل أو في "الكابينيت" أي مجلس الحرب. وإلى جانب ذلك فإن أهم نقطة في جدول أعمالها هو بداية العمل من أجل صياغة "الطبخة" المستقبلية للقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة وتصفية القضية وتامين "أمن إسرائيل" ومنع حدوث ما حدث يوم 7 أكتوبر الماضي مجددا دون أن ننسى بطبيعة الحال اقناع الجميع بضرورة الضغط على كل الأطراف المتدخلة من أجل ان لا تتسع رقعة النزاع لتستفرد "إسرائيل" بالمقاومة في غزة وتتفرغ لتصفيتها دون تشويش أو تعطيل من هذا الطرف أو ذاك وخاصة من حزب الله في الشمال.

ملامح الهزيمة العسكرية الصهيونية
بعد دخول الحرب الصهيونية على غزة شهرها الرابع أصبح الان من الممكن تقييم نتائجها ولو تقييما مؤقتا. ينبغي الاعتراف أن الكيان الصهيوني تمكن حقا من تدمير غزة في مستوى البنى الأساسية والمباني السكنية والمؤسسات الاقتصادية ومرافق الخدمات العامة. نعم لقد تمكن من قتل واصابة ما يقارب 100 ألف فلسطيني بشكل همجي قلما حصل له مثيل في التاريخ. إن المعطيات المتداولة والمنشورة حول نتائج الجرائم الصهيونية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الكيان الصهيوني، وبمشاركة أمريكية لوجستية وعسكرية واستخباراتية ومالية واقتصادية وإعلامية، لم يقم بحرب تخضع لقواعد الحرب ومقوماتها وإنما قام بجريمة انتقام شنيعة ضد المدنيين وكل مظاهر الحياة المدنية. لكن ومع ذلك تأكد بعد أكثر من ثلاثة أشهر من القصف والتفجير والاغارات والتدمير أن الآلة العسكرية الصهيونية لم تتقدم، من وجهة نظر عسكرية بحتة، خطوة واحدة باتجاه تحقيق أهدافها المعلنة وهي القضاء على حماس وعموم المقاومة المسلحة أولا والوصول الى الرهائن وتحريرهم وعودتهم الى بيوتهم ثانيا والقضاء على كل التهديدات الأمنية وتفكيك منصات إطلاق الصواريخ على فلسطين المحتلة ثالثة.

بعد ثلاثة أشهر من انطلاق العملية العسكرية لم يتقدم الكيان الصهيوني خطوة باتجاه هذه الأهداف ذلك أن فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة لا تزال تحتفظ، بشهادة الصهاينة أنفسهم وحلفائهم في امريكا والغرب عموما، بكل امكانياتها العسكرية والبشرية. وتأكد، بأكثر من دليل مادي ملموس، أن شمال قطاع غزة الذي تبجح الكيان الصهيوني بأنه "طهره من الإرهابيين" ما يعني انه سيطر عليه، مازال منطلقا لصواريخ طويلة ومتوسطة المدى تضرب يوميا تل ابيب الكبرى وتجبر الصهاينة كل مساء تقريبا على الهروب الى المخابئ. أكثر من ذلك فإن العسكر الصهيوني لم يتمكن الى حد الان من السيطرة على أي مكان من غزة فكل المواقع التي تغلغل فيها مازالت ساحة لمعارك ضارية تشنها المقاومة من حيث لم يكن الجيش الصهيوني يتوقع.

لقد تكبد الجيش الصهيوني خسائر في العتاد والجنود بقدر لم يكن يتوقعه. وحتى عندما ذهب في ظنه أنه قضى على إمكانيات المقاومة ومقدراتها في شمال القطاع مثلا فوجئ من جديد بعمليات نوعية من هناك كبدته خسائر غير مسبوقة مثلما حصل يوم 8 جانفي الجاري الذي اعتبره الصهاينة "اليوم الأكثر قساوة".
لقد أجبر الكيان على سحب خمسة ألوية من جيشه أي أكثر من عشرين ألف جندي من جنوده من القطاع بتعلة إعادة ضخهم في الاقتصاد الصهيوني الذي بات يعاني من مشاكل حقيقية وأزمة قوية. كما اجبر على الانسحاب من شمال قطاع غزة (من بيت لاهية وبيت حانون وجباليا الخ...) دون أن يحقق شيئا عدا تدمير المباني والبنى التحتية وتقتل المدنيين وتهجيرهم. وقد نشرت وسائل الاعلام الصهيونية من قنوات تلفزية واذاعية وصحف معطيات وتحاليل لخبراء سياسيين وعسكريين صهاينة قدامى اعترافات بان الكيان بقيادة حكومة اليمين المتطرف الفاشي فشلت للمرة الثانية في وجه المقاومة الفلسطينية. وقد اعترفت صحيفة هاريتس الصهيونية بأن "النظرية التي وفقها أن الضغط العسكري على حماس بغزة سيؤدي لإعادة المختطفين، فشلت فشلا ذريعا". وذهب الكثير من الخبراء العسكريين الى الإشادة بالاحترافية العسكرية والخبرة الميدانية للمقاتلين الفلسطينيين الذي سجلوا تفوقا حقيقيا في تقنيات الهجوم والدفاع على حد السواء.

إن الجيش الصهيوني يقوم بمحاولات ربما هي الأخيرة في حي الزيتون ودير البلح وشرق مدينة خان يونس وفي مدينة رفح عسى أن يحقق إنجازا يستطيع تسويقه داخل الكيان ويمسح به اثار الهزيمة والعار الذي علق به في هذه المعركة. ويجري الان اعداد الراي العام داخل الكيان لتقبل عملية الانسحاب بالترويج لما يسمى بـ"المرحلة الثالثة من الحرب" والانتقال من العملية العسكرية البرية والقصف العام والمكثف الى "العمليات النوعية والانتقائية". والى جانب ذلك فإن التصدع الذي لحق بحكومة نتنياهو وحتى بمجلس الحرب، أي الحكومة المضيقة، يجري توظيفه بأشكال عديدة للتغطية على الهزيمة ولتبرير الانسحاب دون نتائج عسكرية تذكر والقبول باللجوء الى التفاوض لتبادل الاسرى ورسم معالم التعاطي مع الوضع الأمني لما بعد الحرب. وعلى هامش زيارة بلينكن الحالية بدأ الحديث عن نية الكيان الصهيوني في الخفض من قواته العسكرية في غزة والتخفيف من الغارات الجوية والتحول الى العمليات النوعية الموجهة ضد حماس وقدراتها العسكرية.

نتنياهو واليمين الصهيوني سيدفعون ثمن الهزيمة
إن نتنياهو الذي أراد من حربه على غزة أن تكون مصدر قوة لمحو فضيحة 7 أكتوبر ومن ثمة لإحكام قبضته على الحكم داخل الكيان الصهيوني ولكنه وعلى العكس من ذلك وجد نفسه مجبرا على دفع الثمن غاليا. وهناك الان الكثير من المؤشرات على ذلك. فهو في نظر الجميع داخل الكيان أن حكومته بل انه شخصيا من يتحمل مسؤولية ما حصل يوم 7 أكتوبر الماضي. كما توجه له اليوم أصابع الاتهام كمسؤول عن الهزيمة التي بدأت ملامحها ترتسم في الأفق. وحتى عندما أراد أن يبعد عن نفسه هذه التهم ويرمي بها الى قادة الجيش (وزير الدفاع وخاصة رئيس الأركان) ارتد عليه ذلك وأصبح عرضة لحملة شعواء في الأوساط السياسية والإعلامية الصهيونية التي رأت في موقفه إساءة للجيش. وبات من شبه المتفق فيه على أوسع نطاق في الكيان الصهيوني أن نتنياهو إنما يستمر في الحرب لتأخير أجل ازاحته من الحكم واقتياده الى السجن لا فقط لأسباب سياسية وإنما أيضا بسبب ملفات الفساد العالقة به. إن حكومته مهددة بالانهيار ربما في أول منعرج ولولا استمرار الحرب لكانت قد انفجرت ولتم الإطاحة به من مدة. علما وان التحالف اليميني الذي بموجبه يستمر نتنياهو على راس الحكومة لم يعد يحظى بما كان يحظى به من تأثير باعتباره في نظر عموم سكان الكيان شريك في الفشل يوم 7 أكتوبر ويتحمل اليوم مسؤولية "ضحايا الحرب" من قتلى ومصابين تحت ضربات المقاومة الفلسطينية كما يتحمل مسؤولية استدامة مدة الاسر للمخطوفين لدى المقاومة الفلسطينية. ولهذه الأسباب أصبح هذا التحالف هدفا لكل الانتقادات والضغوط بما في ذلك بعض "الضغوط" الامريكية. وتفيد أخر المعطيات أن نتنياهو بات يخشى من انقلاب كتلة حزبه اليميني الفاشستي الليكود في الكينيست وإمكانية وسحب تزكيتها لحكومته للخروج من الورطة التي غرق فيها الكيان. لقد أصبحت غزة بالنسبة لنتنياهو ولغلاة اليمين الصهيوني اللعنة التي ستظل تلاحقهم الى أن يقع ابعادهم تماما عن الساحة السياسية في الكيان. ويشتم اليوم من الخطة الامريكية الجاري طبخها والذي جاء وزير الخارجية الى منطقة الشرق الأوسط للترويج لها (في مستوى المبادئ العامة ريثما يبتلع العملاء العرب في الخليج وفي تركيا حربوشتها) لا تعول على نتنياهو وحلفائه سموتريتش وبن غفير في تمريرها بل الأكيد أن ذلك سيتم بإزاحة هؤلاء من المشهد خصوصا وأن كل تحركات إدارة بايدن من الان فصاعدا ستجري تحت أضواء الحملة الانتخابية والسباق نحو البيت الأبيض. إن بايدن الذي تكبد خسائر كبيرة جراء انجراره الذليل وراء الكيان الصهيوني ابان اندلاع الحرب في غزة في حاجة الى ترقيع صورته التي اهترأت وتدارك امره مع جمهوره – وخاصة جمهور الشباب الامريكي – لتحسين حظوظه في الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومثلما هو في حاجة لدعم منظمة "الايباك" وعموم اللوبي الصهيوني في أمريكا فهو في حاجة للجمهور الذي برهن عن ميل واضح لصالح الشعب الفلسطيني وضد "إسرائيل". وتمارس هذه المفارقة الصعبة ضغوطا جدية على إدارة بايدن الذي يود انهاء الحرب والعودة الى الترتيبات القديمة التي بموجبها تريد الامبريالية الامريكية استكمال مشوار التطبيع وإدماج الكيان الصهيوني في المنطقة.

الخطة الاستعمارية الجديدة
سبق للمسؤولين الأمريكيين أن كشفوا بشكل غير دقيق عن تصورهم كما بات يعرف بـ"غزة في اليوم التالي"، أي غزة ما بعد الحرب. وقد جاء بلينكن هذه المرة أيضا ليحشد الدعم لهذا المخطط الذي يقوم على جملة من "المبادئ" الثابتة لدى الإدارة الامريكية والمتفق فيها مع بعض الأطراف العربية والذي، أي المخطط، الذي يحتاج لبعض الوقت لإقناع الصهاينة ببعض بنوده وهي
- القضاء على حماس وتجريد غزة من السلاح
- تمكين الكيان الصهيوني بصيغة من الصيغ من البقاء في غزة بما يسمح له بحماية أمنه. وتتراوح هذه الصيغ من إعادة احتلال غزة وهي الصيغة التي ينادي بها غلاة اليمين المتطرف (سموتريتش وبن غفير الخ...) الى اقتطاع شريط عازل تحت حضور وحراسة الجيش الإسرائيلي.
- وضع غزة لفترة من الزمن تحت إدارة الأمم المتحدة في انتظار إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية لتحل محلها. ويلاقي هذا الحل معارضة من قبل نتتنياهو واليمين الصهيوني. ومع ذلك مازالت الإدارة الامريكية تصر على اقناع قيادة دولة الصهاينة به في إطار سعيها من أجل توحيد الضفة والقطاع كصيغة لدولة فلسطين في إطار حل الدولتين من وجهة نظر أمريكية.
- التعويل على دول الخليج (خاصة الامارات) في إعادة إعمار غزة ويبدو انه يجري بحث وضع خطة في ذلك لتفكيك منظومة الانفاق والقضاء عليها.
- في الاثناء "تحولت" لغة إدارة بايدن إلى التركيز على ضرورة تكثيف المساعدة لفائدة المدنيين والزيادة فيها الى جانب وضع خطة لعودة النازحين الى ديارهم. وقد ذهب بلينكن الى حد اقتراح دعوة الأمم المتحدة إلى بعث وفد أممي يتولى تقييم حجم الخسائر في شمال القطاع وضبط ما يلزم لإعادة إعماره. لكن هذا الحديث يتعلق الان بالشمال فقط أما الوسط والجنوب فمازالا يحتاجان الى مزيد من التدمير من قبل الالة العسكرية الصهيونية عسى أن يقع وضع اليد على قيادة المقاومة وتفكيك قدراتها العسكرية. ولهذا السبب مازالت الإدارة الامريكية ترفض وقف إطلاق النار والاكتفاء ببعض الهدن الوقتية لتبادل الاسرى.
غير ان هذه الخطوط العريضة للمخطط الأمريكي مازالت في حاجة لمزيد التدقيق مع الكيان الصهيوني والاتفاق حولها من جهة ولمزيد الدرس مع العديد من الأطراف الأخرى، السطلة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وشيوخ الخليج والأردن مصر وتركيا وربما أيضا الاتحاد الأوروبي حتى يحوز المخطط على رضا الجميع ويلقى بالتالي طريقه الى المرور والتنفيذ.

ومما لا شك فيه ان المواجهة العسكرية التي ستشهد تطورات هامة في الأيام وعلى اقصى تقدير الأسابيع القادمة سيوفر مساحات أكبر فأكبر للتفاوض والمفاهمات لا فقط للقيام بصفقات في مجال تبادل الاسرى وإنما أيضا لبداية رسم أوضاع المستقبل. وتروج معطيات حول مقترحات تقدمت بها حكومة نتنياهو للوسيط القطري لوقف الحرب وحل مشكلة الرهائن. وتصطدم كل مشاريع الصفقات الجاري بحثها في الكواليس برفض المقاومة التي تتمتع بعناصر "تفوق" عسكرية ومعنوية تسمح لها باشتراط وقف الحرب تماما وانسحاب العدو كليا وهو ما لم لرضخ له بعد. إن عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر والنتائج المسجلة الان (على الصعيد العسكري) بعد حوالي أربعة أشهر من الحرب تركت اثارا مهمة في ملامح حالة موازين القوى الجديدة بين الكيان المحتل والبندقية الفلسطينية. وقد بدأت المقاومة تتعاطى مع كل التطورات في ضوء هذه الملامح. فمما لا شك فيه أيضا أن ترتيبات أوسلو التي اسفرت عن حل التسوية على حساب حركة التحرير الوطنية المكافحة وتمدد الكيان في المنطقة عبر سلسلة اتفاقيات التطبيع ستستمر بشكل ما ولكن القضية الفلسطينية ستعود في وضعية أفضل بكثير وربما أفضل مما بدأت به في جانفي 1065.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي