عن سؤال العلمانية في العالم العربي حسب عزمي بشارة.

عجمية الحاج ابراهيم
2024 / 1 / 12

"عن سؤال العلمانية في العالم العربي حسب عزمي بشارة"

«Dieu voulait que l’islam fut une religion ,
Mais les hommes ont voulu en faire une politique »
Mohamed said al-ashmawy

في فاعلية نموذج العلمنة الاوروبية( صيرورة فكرية وتجربة اجتماعية). في اختبار قدرته التفسيرية لفهم ظاهرة العلمانية، باعتبارها ظاهرة اخلالقية ثقافية قيمية، في العلم العربي وفهم مشكل الفكر الاسلامي والعربي المعاصر. في مسألة "الديني" في القرن الحادي والعشرين.
في ميتا-نمذجة بشارة لعملية العلمنة الاوروبية. في رهاناته الهووية للنمذجة. في انّ المؤرخ مهما كان عظيما لا ينجح في فصل مواقفه الفكرية والسياسية عن عملية التأريخ. سواء كان المؤرخ متدين او علماني، فإنه يعمق الوعي التاريخي في محاولة اثبات وجهة نظره مستندا في ذلك على أدلة تاريخية. في ان لا يوجد تاريخ غير علماني( ). في ان مسار العلمة مر على قلم المؤرخ ايضا.
في السؤال الهووي المسكوت عنه في مشروع "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" لعزمي بشارة. في سؤال العلمانية في العالم العربي. في ان السياقات العربية الاسلامية للعلمنة هي اصل البحث لدى عزمي بشارة في الاقرار بملامح صيرورة العلمنة في العالم العربي و"التوتر الاجتماعي" راهنا اهم الملامحه.
في عدم توافق بين علمنة الدولة وتدين مجتمعات العالم الاسلامي عامة والعالم العربي خاصة (تركيا، تونس نماذج). في ان التوتر الاجتماعي العربي ناجم عن عدم التوافق بين نموذج العلمانية والوعي الاجتماعي. في العلمانية الصلبة و المجتمعات شديدة التدين( ). في مظاهر الثورة عندما لا يتوافق نصيب الشعب من الحكم مع تصورهم المسبق عنه( ).
في ديكور العلمانية لتدبير سياقات العالم العربي المتدين. في الجيوبوليتيك. في استغلال الديني لصناعة الحضارية المزيفة. في العلمانية العربية الصلبة وافرازاتها، العنف الديني الموجه اجتماعيا. في "اللاشعور السياسي"( ). في اللادين والقشور الدينية. في ظاهرة اليهودوية او المسيحوية او الاسلاموية. في العلمانوية المقصودة. في الارهاب المصنع والعابر للقارات والعابر للقوميات( ).

ان سؤال العلمانية في الفكر والمجتمعات الاسلامي والعربية هنا، هو الاشكال الجدي والمسكوت عنه في مشروع عزمي بشارة "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" بمجلداته الثلاث. بل هو السؤال الذي ينفتح عليه موضوع هذا البحث من بدايته الى نهايته( ). وان التناول المعلن لصيرورة العلمنة الفكرية(ج2، مج1) والاجتماعية (ج2، مج2) في العالم الغربي(اوروبا، وأمريكا)، لا يدّعي من خلاله صاحبُه شيئا، سوى انّه محاولة في توفير نموذج نظري قادر على تفسير الوضع الراهن للعالم العربي، بل وقادر على توفير اجابة عن السؤال التاريخي المعلن "ماذا حدث فعلا"( ).
انّ سؤال "ماذا حدث فعلا؟" في كلّيته يفكّر في مسألة ال"نحن". نحن، بمعنى النوع البشري في كليته اي انّه يسأل عن ماذا حدث في تاريخي الانسانية جمعاء وعن مسار التطور البشري. هذا للمبصر على المدى البعيد. ويمكن ان يتحول الي سؤال هووي على مداه القصير. كسؤال نموذجي يطرحه المفكر الكندي "تشارلز تايلور" نحن المقصود بها "الغرب"، فيكون الطرح هنا "ماذا حدث فعلا، في الفكر الغربي؟"().
من هنا، يستم بشارة شرعية طرحه للسؤال الهووي. "ماذا حدث فعلا، في الفكر الاسلامي العربي"(). وهو تساؤل يسع صاحبه جاهدا لتحويله الى مشكل فلسفي جدي حان وقت التفكير فيه. لكن امام الطرح الغربي الطاغي للنحن الغربية، هل يمكن التفكير في "نحن ما" خارجها؟ اي هل يمكن التفكير خارج مسألة نحن غربية مسيحية؟ بل هل ثمة مكان لنحن هووية عربية بين رفوف تاريخية عُجت بالنماذج الغربية كنماذج عالمية بلا منازع؟ نماذج لا تعترف بغيرها الا مرغمة.
يصبح، اذن، مشروع بشارة هنا امكانية فكرية جريئة، يبحث من خلالها، اولا، عن امكان لسؤال "النحن العربية" وثانيا عن اجابة فلسفية له قد لا تتكون الا خارج رحم الفكر المعاصر. اذا ما سلمنا جدلا ان هذا الاخير هو فكرا غربيا لا منافس له.
يحاول بشارة في كل مناسبة توفيّ تفسيرا نظريا ومعرفيا لإمكانية التديّن المعاصر، يحفظ لها أصالتها الأخلاقية بواسطة بحث تاريخي "علمي"، ينجح في بلورة أنموذج مرن وملائم عن العلمنة في المجتمع الحديث بعامة، والمجتمعات العربية بخاصة( ). ونفهم انّ رهانات بشارة من هذا البحث التاريخي لها من الخصوصية الفكرية التي تجعله لا يحاذي القول أن المؤرخ مهما كان عظيما لا ينجح في فصل مواقفه الفكرية والسياسية عن عملية التأريخ( ).
ولئن تناول عزمي بشارة السؤال الغربي طيلة صفحات مشروعه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، فإنه لم يغضّ الطرف عن "السؤال الهووي" الذي يرد له رهان البحث وبعمق. اي انّه لم يتحرر من هذا الأنا بمعنى الارتماء في أحضان الكوني بقدر ما حاول تحقيق هذا التحرر من خلال الذهاب فيما اعمق من ذلك مراهنا عنه (السؤال العربي). فيذكرنا في كل مرة وكلما سنحت له الفرصة انّ للفكر العربي مساره التقدمي الذي يحل بصمته الخاصة والخالص. ويكتسب تطور للعلوم وذلك مع ابن تيمية الذي تفطن منذ البداية الى ضرورة تمييز السحر عن العلم( ). وان مسار العلمنة بماهي تمييز الديني عن مجالات الحياة الفكرية والاجتماعية شملت المجتمعات والفكر العربي ولكن الى حد ما. وقياسا للنماذج الاوروبية والامريكية لانماط العلمنة، يخلص بشارة الى ان ثمة انماط اخرى خلافا لنمط العلمانية الصلب الذي توافق مع علمنة المجتمع الاوروبي، ولنمط العلمانية الرخوة التي توافق حيادها في الشأن الديني مع تدين المجتمع الامريكي، وان هذا النمط المختلف، هو ما تجتمع ضمنه الاضداد وتتصادم، فتقوم سياسته على العلمانية الصلبة للدولة في مقابل تدين المجتمع بدرجة عالية، مثل تركيا وتونس في عهد بورقيبة( ). ويرى بشارة ان هذا التقابل، هو سبب توتر الوعي الاجتماعي بل والوعي الفردي في هذه المجتمعات. ذلك انّها مجتمعات لا تعد فيها العلمانية، ذات أصل باعتبارها "مستعمرات" لدول اخرى.
يعد الاستعمار نشاطا عمانيا( )، اي انه يساهم والى حد ما في تغير الوعي الاجتماعي (والوعي الفردي بنسبة اكبر) للدول المستعمَرة، من خلال تطويعه سياقيا واجرائيا نحو سياسات الدول المستعمِرة. ففاعلية الاستعمار في الدول العربية مثلا، تتمظهر في سياساتها المغربنة وتنظيمها الاداري المغربن داخل مجتمع وعى على ثقافة متصاعدة دينيا تونس نموذجا. ويرى بشارة ان "البشير" الاستعماري لا يتقدم بماهو نشاطا علمانيا صرفا كما تشيع الادعآت في ذلك، وان دوافعه لم تكن على شؤون الدنيوية، بل تتجاوز الى دوافع ونزعات دينية ايضا( ) اي في محاولة توسيع أفق الهوية الدينية للدولة المستعمِرة وبسط نفوذها لا الاقتصادي والاستراتيجي فحسب، بل كذلك الدينية على مستعمراتها من خلال ضخ سياسات الدين السياسي او الدين المدني(فرنسا دولة مُسْتَعْمِرَة نموذجا) داخل مؤسسات وثقافات الدول المستعِمرة ومن خلال نشر ثقافة فصل الدين عن الدولة لا بمعنى الفصل بل بمعنى إخضاعه للدولة أيضا.
هنا ينشأُ حسب بشارة توتر المواقف، ما بين "القبول وعدم القبول" بهذه السياسات داخل الوعي الاجتماعي من قبل النخبة الأوصولية من جهة، اي النخبة المتمسّكة بالعرف والتقليد، والنخبة المعلمنة من جهة اخرى، اي التي تقبل بالقيم المستوردة استعماريا داخل افق مبدأ الكونية اوالفكر التقدمي(حيث تتحدد العلمانية هنا بوصفها قيمة مستوردة من اصولها الاوروبية). وهذا لأن الدول المستعمرة-حسب رأي بشارة- لم تتعرض بعد لعملية علمنة واسعة النطاق من جهة اولى. اي ان ثقافة العلمانية تعد مسقطة عنها وان هذه دول لم تمر بصيرورة فعلية للعلمنة. ومن جهة ثانية، لم تفرض الدول المستعمِرة ،التي جرت ضمنها عملية علمنة مكثفة مثال دولة فرنسا، على مستعمريها قوانين العلمانية بمعنى تحييد الدولة دينيا، بل على العكس من ذلك هي أخصعت الدين للدولة في مستعمراتها مثال تونس والجزائر، زد على ذلك رغم اعلان قانون الفصل في الدول المستعِمرة 1905 فانه لم يتم اعلانه في المستعمَرات( ).
يبدو بيّنا اذن انّ الحركات الاستعمارية لم ترفع عن المجتمعات المستعمرة الوشاح الديني بل عملت على تعميقه داخل الوعي الاجتماعي وعلى تحريك رماد الدين ليعود الى التوهج من جديد لكن بأخلاقيات سياسية استعمارية امبريالية محضة حيث سمحت الدولة الفرنسية مثلا بمواصلة الكنائس فاعليتها في مستعمراتها ما دامت غير فرنسية، كالكنيسة المارونية في لبنان( )، ولعله سبب وجيه يبرر تعطل سير عملية العلمنة في العالم العربي من جهة وجينيالوجيا الدينات التوحيدية من جهة ثانية إلى جانب المشاكل الجيوبوليتكية.
ويقر بشارة منذ البداية، بخصوص جينيالوجيا الديانات التوحيدية وخصوصا الدين الاسلامي، وعلاقته بالعلمانية والنظام الديمقراطي، انه لا وجد لاية علاقة ممكنة بين الاسلام والديمقراطية. ولا يمكن الالتهاء "بواو" العطف بينهما، او اعتبارها رهان علماني معاصر، وكذا سائر هذه الديانات بما فيها يهودية ومسيحية. حيث يفكك في تعقيب له لمناقشة كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، مقاربات لدراسات مكثفة، منذ قرون، التهت بالتوافق والتناقض بين الأمرين(اي الإسلام والديمقراطية) من خلال قطع كل اوردته وانهاء النقاش حوله باعتباره موضوع عقيم، وان "واو" العطف بين الكلمتي الاسلام والديمقرطية لا تنشئ علاقة بينهما ولو عرضا. وانّ مصير ايّ باحث في هذه الواو هو القيام بتعميمات متسرعة عن الاسلام مستقاة من وقائع تاريخية( ).
وان مجيئنا في الختام على هذه النقاط فيما يخص مسألة السؤال الاسلامي العربي حول العلمانية، هو مجيئ لا يدعي في الحقيقة ايّ شكل تحليلي لهذه المسالة. وهذا لا لأنها تلخصت وتبعثرت في وريقات قليلة من مشروع بشاري الضخم، ولا لان هذا الاخير هو كتاب بدأت قصته ولم تنته بعد( ). بل لاننا امام وعد جدّي لبشارة، وعد بجزء ثالث لمشروعه "الدين والعلمانية قي سياق تاريخي". وعد بتخصيصه لتناول هذه المسالة التي على شرفها قامت فكرة المشروع ككل. فما قدمه بشارة في مشروعه هو فرضيات غير مؤكدة علميا، بل انها استطلاعات فكرية عاجلة تستوجب البحث فيها، لا لرهانه على المشكل العربي فحسب، بل كذلك لجدة المشكل وجديته.
ايّ في الرهان على توفير امكانية تدين للنوع البشري المعاصر عامة والنوع البشري المعاصر الاسلامي او العربي على وجه الخصوص داخل اوساط فكرية واجتماعية تزاحمت فيها الفتن، وتكاثرت ردود الأفعال السياسية-الدينية لتصل حد العنف الديني وما يمكن ان نسميه اليوم "بالارهاب الاسلاموي"( )، فالاطار الاجتماعي الاسلامي اليوم يشهد ظهور موجات "اسلامية ضد الاسلام" "كما ترجمها محمد سعيد الشماوي" (L’islamisme contre l’islam)) ). "فكيف يمكن ان نفسر ظاهرة الاسلاموي اليوم؟"
إن الاطار الاجتماعي والاطار السياسي، هنا هما أولى المجالات التي تفشي سر ازمة "ثقافة ما" كما فسرت ذلك حنة ارنت ازمة الثقافة المسيحية الاوروبية( ). وانّ توفير "نموذج علمي" يدرس الاطر الاجتماعية والسياسية في العالمي الاسلامي العربي، يبدو مطلب ملح، لتفسير هذه الازمة وهذا التوتر من جهة، ومن جهة اخرى لايقاف النقاشات الفارغة حول الاسلام( ).
ورغم اختلاف الاسماء العربية التي تفكر في هذه المسألة وحشد رفوف المكاتب بالدرسات حول "علمنة الفكر الاسلامي العربي" الا انّ الامر يستوجب حسب عبارة لمحمد اركون توليد فكر نقدي جديد عن التراث في الساحة العربية او الاسلامية... بل وتوليد اجيالا تفكر عن طريق العقل لا عن طريق التكرار والنقل( )(). اي ضرورة البحث عن حلول فعلية وتوليد "نموذج علمي" يدرس الظاهرة من جانبها الاجتماعي يلمس عين الداء الفكر العربي داخل واقعه بعيدا على كل الفرضيات. وهذا يعني ان السؤال العربي اليوم يستوجب تخطيط استراتيجي وتدبير محكم يعمل لا على نقد الفكر العربي فحسب، بل على تفكيكه واستخراج نواقصه كذلك. ونسأل على لسان اركون" كيف نفهم الاسلام اليوم؟"
لعل تحديد العلمنة بما هي سردية تاريخية تروي عملية تطوير وتجديد للنوع البشر. كيف نفهم تعطل وتعثر مسارها العربي؟
كيف بوسعنا تفسير ازمة المجتمعات العربية اليوم، وصراع العقل مع النقل؟ هل هو مخاض ولادة نوع انساني جديد؟
هل يمكن فهم عودة الدين الى المجال العام وصراع الديني و السياسي اليوم هو مواصلة لمسار العلمنة لكن بملامح مختلفة؟
اي هل يمكن فهم ظاهرة عودة الدين بماهو الحلقة المكملة لعملية العلمنة حسب عزمي بشارة؟ ام هي مجرد ردود افعال زائلة، ولن تدوم طويلا؟
وان كان الوضع العربي الراهن، هو تجل لازمة حقيقة، وان كانت الامة مريضة كما عبر عنها الافغاني، كيف يمكن اذا تجاوز هذه الازمة؟ بل وما هو العلاج المناسب لمرض الوعي الاجتماعي العربي؟
أيكفي إقامة مشروع فكري نقدي للعقل العربي في احتمال اركوني؟ ونسأل هنا كيف يمكن مصالحة المجال الفكري مع ارض الواقع؟
أم أيستوجب الوضع عملية إعادة بناء الذات العربية بالشكل الذي يجعلها قادرة على مواجهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته حسب احتمال جابري( )؟ ونسأل ما مشروعية وما ضمانات هذه "الاعادة"؟ وهل في قيام مشروع الاصلاحي، علاج مناسب لمرض الامّة العربية في احتمال افغاني()؟

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي