الى فتح في عيد ميلادها

مهند طلال الاخرس
2024 / 1 / 1

من منّا لم يرتبط نهجاً وعقيدةً بكلمات وحروف مغناة العاشقين الرائعة “ الليلة عيد راس السنة”، تلك الكلمات التي حاكّ كلماتها الشاعر والفدائي ابو الصادق الحسيني، من منّا لم يغادره اليأس ما ان يصدح محمد الهباش بهذه التراتيل وكأنها مارشات عسكرية تهز مضاجع المحتل وتستنهض ضمير من كانوا في الغياب تائهين، من منّا لم يردد هذا البيان مع نفسه ولنفسه ولكل الحالمين، من منّا عند سماعه هدير هذه الكلمات وزخات رصاصها لم تفرّ من عينيه الدمعات قهراً مجندلاً وفرحاً مسربلاً بدون اذن وبلا “إحم ولا تستور” ، من منّا لم يمشي مع حروف هذا الكلمات حرفا حرفا ببزته العسكرية وجعب الفدائيين السائرين الى وطنهم في عملية كان دويها سيهز اركان الجيوش والعروش، من منّا لم يُحدث نفسه نفسه بأمنيته الاثيرة ماذا لو كان أحد ابطال هذه العملية؟….

من منّا لم يقرأ البيان الاول لقوات العاصفة عندما فاته شرف ان يكون احد افراد هذه الدورية، من منّا في اضعف الايمان لم يغبط الفنان الراحل فتحي صبح الذي مارس ما فاته من شرف ببقاء صوته خالدا في اذهاننا ونحّنّ الى سماعه في كل ذكرى لانطلاقة الثورة وهو يتلوا بيان الانطلاقة، من منّا لم لم يبتلع ريقه ويغمض عينيه ويرى النصر عندما يتلوا فتحي صبح في مطلع الاغنية البيان الاول الذي وزعه الشهيد الرمز ياسر عرفات بوصفه المسؤول الاعلامي للحركة معلنا: اتكالا منا على الله، وإيمانا منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيمانا منا بواجب الجهاد المقدس، وإيمانا منا بالموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج وإيمانا منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم ..لذلك فقد تحركت أجنحة من القوات الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964 م وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة .. وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة …

من منّا عندما وصل فتحي صبح لتلاوته في نهاية البيان الى فقرة/مقطع “وعادت جميعها الى معسكراتها سالمة” لم يدمع ولم يجأش وكأن الامر امام ناظريه للتو، من منّا لم يحبس الانفاس انتظاراً لعودة الرفاق، من منّا لم ينتظر هذا الخبر كإنتظار الام لمولودها البكر، من منّا وهو في لحظة الانتظار لم يأخذ بالحمد والدعاء لأجل سلامة الرفاق .

ولأن الثورة هي فعل جماعي ووعي جمعي كذلك كلماتها والحانها، فلا يستقيم الحال دون لحن خالد يخلد هذه الكلمات وهذا الاداء، وهذا أحسنه وابدعه حسين نازك الذي طرز ما حاكه ابو الصادق من كلمات على صدر الوجع الفلسطيني، تماما كما طرزت أمهاتنا الكنعانيات منذ البدء والنشوء للكون والانسان معا، فكانت هذه الكلمات وهذا اللحن ذا فعل كفعل الرصاص خاض معركة الوجود مع البقاء، فانتصر.

أما أنا؛ فلم ولن أمل يوماً عن تغذية الامل بالامل، وعن دفع الاوجاع بالابداع، وعن ايماني المطلق بأن الكلمة بندقية تغطي عرينا وليلنا الدامي.

تعود بي الذاكرة الى ايام خلت واتذكر كيف ان الفنان والملحن والشاعر المصري محمد عبد الوهاب أصبح يحمل رتبة لواء بقرار من انور السادات، حينما حوّل الخوذات الفولاذية للجيش المصري الى طبول، وبنادقهم الى ابواق، وقاد تلك الاوركسترا الملعونة، التي عزفت النشيد الوطني الاسرائيلي في عاصمة العروبة القاهرة، الهاربة لتوها من عصر القاهر الى عصر المقهور.

في ذلك الوقت كان الشيخ امام يغني في الزنزانة بعد ان يكتب احمد فؤاد نجم الاشعار على مسامعه وعلى ما تبقى من ضمير.

كيف يمكن للشاعر ان يكون محايداً حينما يستباح الوطن؟ هذا ما تذكرته حينها، وكان هذا ما قاله فريدريكو غارسيا لوركا عندما سار الى الموت ومسدس الجنرال فرانكو برأسه وأيقنت حينها كيف عاش لوركا ومات فرانكو.

حينها فقط ادركت معنى ان الثورة لمن صدق وليس لمن سبق، حينها ادركت فعلا ان الامور بخواتيمها وانه من الطبيعي ان تبدأ مناضلا؛ لكن الاهم ان تنتهي كذلك. حينها وحينها فقط ادركت معنى ان يحمل ابو الصادق وسام الثورة من ياسر عرفات.

هذه الكلمات لو لم يكتب غيرها ابو الصدق لكانت كفيلة ان تبقيه حياً بيننا لسنوات وسنوات؛ لكنها الثورة التي منحته هذه الكلمات، هي نفسها من أعطته سرّ غيرها من الكلمات، لتجسد ذاتها في كلماته، وتبقى كلماته معلقة على جدار الحرية الذي تعلوا انقاضه شارة النصر، ولن تبوح الثورة بآخر كلماتها إلا بعد ان تجد من يكتب نشيدها الاخير ولن يكون الا نشيد النصر لفلسطين.

في هذه الكلمات اثبت ابو الصادق بأن فتح فكرة والفكرة لا تموت، في هذه الكلمات اثبت ابو الصادق ان من يكتب للثورة قصيدة او اغنية او لحنا او مقالا او نصا ادبيا، فيجب عليه ان يكتب بالدم ليبقى ولتحيا فلسطين. والبقاء هنا فعل ايجابي معناه الديمومة، والديمومة هنا للثورة، فإن بقيت بقينا، وان غابت؛ زارنا الموت بالقوافل، لذا كان لزاما علينا ان نزوره بالقنابل. ومن هنا جسد الاثنان(الكلمة والبندقية) شعار فتح الخالد “فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح”.

في هذه الكلمات لا يمكن لك وأنت ترتلها إلاّ ان تسير مع ذاتك الى خلودها، والسير مع الذات هنا يحتم عليك تفحّص الاحرف والخطوات، خطوات من جعلوا من ليلة رأس السنة عيداً لنا، خطوات احمد موسى كيف سبق وكيف اعطى الاشارة للرفق، حين عجزت كل الدول العربية عن التصدي للمشروع الصهيوني، وتجسد هذا الفشل بقيام الاحتلال بسرقة المياه العربية الى النقب المحتل عبر نفق تحويلي شرعت بإقامته عند بلدة عيلبون، حينها قررت حركة فتح ان تنطلق بعملية عسكرية كبيره تعلن بعدها انطلاقة الثورة المسلحة وميلاد فجر جديد للشعب وللشعر معا، فكان ان أَطلقت الرصاصة العنان لكل شيء جميل كامن بداخلنا، فكان الشعراء والكتاب والادباء من اوائل من ادرك قيمة الكلمة في حفظ تاريخ البندقية، بل واضفوا عليها مزيدا من الالق والبهاء، مما اسهم في بقاء هذه المحطات والتجارب المفصلية حية في النفوس يتناقل احداثها جيل وراء جيل، وتجري تفاصيلها على كل لسان حتى الان.

لقد شكل الادب والفن على انواعه حاضنة ورافعة ثورية مهمة في مسيرة الثورات وحركات التحرر عموما، ولم تكن الثورة الفلسطينية ببعيدة عن ذلك؛ فمع انطلاقة الثورة تفجر بركان الكلمات التي ساهمت بحفظ صوت الرصاصات الاولى وغيرها من رصاصات وتجارب ومحطات وعمليات.

وعلى مدى الايام واستمرار السيرة ومضي المسيرة كانت الكلمة الصادقة الامينة المعبرة عن الطلقة الشجاعة تدلو بدلوها وتساهم بنصيبها في المعركة. فهذا هو نزار قباني يدلو بدلوه بالانطلاقة فيهدر قائلا:
"وبعدما قتلنا
وبعدما صلو علينا
وبعدما دفنا
وبعد أن تكلست عظامنا
وبعد أن تخشبت أقدامنا
وبعدما اهترأنا
وبعد أن جعنا وان عطشنا
وبعدما من يأسنا يأسنا
جاءت إلينا فتح
كوردة جميلة طالعة من جرح
كنبع ماء صافي يروي صحارى ملح
وفجأة ثرنا على أكفاننا وقمنا
وفجأة كالسيد المسيح بعد موتنا نهضنا.."

وكذلك الحال مع شاعرنا الكبير محمود درويش فنجد الكلمات تتجلى بين يديه وهو يصدح:
"كان صوت الدم مغموسا بلون العاصفة
و حصى الميدان أفواه جروح راعفه
و أنا أضحك مفتونا بميلاد الرياح
عندما قاومني السلطان
أمسكت بمفتاح الصباح
و تلمست طريقي بقناديل الجراح
آه كم كنت مصيبا
عندما كرست قلبي
لنداء العاصفة
فلتهبّ العاصفة
ولتهبّ العاصفة"

وعلى نفس المنوال كتب ووثق ومجد معظم الشعراء والادباء والكتاب -من اصحاب القضية واصدقائها من عشاق الفكرة والمبدا- عن ليلة الانطلاقة وعن العملية الاولى فزادوها توهجا وزادونا حبا وارتباطا بتلك الايام واصحابها.

ومن وحي تلك الليلة، ومن هدير خطواتها التي صنعت المجد، كُتبت الكثير من الكلمات، وسكب الكثير من الحبر بموازة الدم السيال بغير حساب، وسارت الايام وتعددت الخطوات وارتسمت كثير من الامال، وحيكت القصص، ونسجت الاساطير، وذاعت وانتشرت الكثير من الحكايات التي خلدت تلك اللحظة الفارقة بتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة.

وبالنتيجة كان لفتح ما ارادت؛ فكانت العاصفة وكانت الانطلاقة، فأضافت لفلسطين تاريخ ميلاد جديد...

دمر فدائيوا العاصفة النفق، واعلنوا الانطلاقة وفجروا العجز العربي وقامت الثورة، ذلك العجز الذي اجتمع اربعة عشرة رئيس عربي في الاسكندرية لاظهاره علانية؛ لكن ما عجزوا عنه نجحت به فتح بخمسة فدائيين فقط:
الشهيد أحمد موسى الدلكي
حسين ابراهيم الدلكي(حسين غورو)
ومحمد عبد الله إبراهيم الدلكي (أبو يحيى)
وحسن حميدي الدلكي
ووحش إبراهيم الدلكي.
ومرافقهم ابو ابراهيم دليل الدورية

وتعود المجموعة الى قواعدها التي انطلقت منها في الاردن سالمة، لكن كعادة الفرح لدى الشعب الفلسطيني لا يأتيه إلا مخضبا بالدم، وكأنه لا يستقيم مقام النصر لدينا إلا إذا انطبق علينا وصف ابو تمام: “فتًى ماتَ بين الضربِ والطعنِ ميتة ً تقومُ مقامَ النصرِ إذْ فاتهَ النصرُ”، إذ قُدر ان يصاب احمد موسى الدلكي عند عبوره النهر “بنيران اخطأت بوصلتها” وظل يعاني منها -هو ونحن امدا طويلا- حتى انتقل الى جوار ربه في يوم 7/1/1965 .

ومن يومها اطلق يوم الشهيد على هذا اليوم كونه الشهيد الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة ، ومع مرور الايام تزايدت قوافل الشهداء وتعاظمت تضحياتهم فتعاظم هذا اليوم حتى اصبح عرسا وعيدا وطنيا...

ولاحقا وفي ذكرى استشهاد ابو يوسف النجار والكمالين في عملية فردان كتب درويش قصيدته "طوبى لشيء لم يصل" فأضفى على يوم الشهيد رونقا وجمالا لا يتكرر فكتب :
"هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطينيّ
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلاّ شهيدا أو شريدا...
كلّ شيء ينتهي من أجل هذا العرس ..
مرحلة بأكملها.. زمان ينتهي
هذا هو العرس الفلسطينيّ
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلأّ شهيدا أو شريدا"

وردًا على العملية قالت رئيسة الوزراء الإسرائيلية في حينه “غولدا مائير”: بعد العملية هبت علينا عاصفة من الشمال، فيما رد عليها “ياسر عرفات” هاذه رياح العاصفة الفتحاوية ستحرق الأخضر و اليابس فالثورة الفلسطينية انطلقت لتبقى وأكمل حينها الزعيم الخالد “جمال عبد الناصر” المقولة : (فتح) خلقت لتنتصر ووصف الثورة الفلسطينية بأنها أطهر وانبل ظاهرة عرفها التاريخ.

من وحي تلك الليلة، ومن هدير خطواتها التي صنعت المجد، وعلى كثر ما كُتب عنها ونشر واذيع ، وحدها كلمات اغنية “الليلة عيد راس السنة” امتهنت الاطاحة بدموعي بالتزامن مع عيد راس السنة، وكأن لتلك الذكرى بالذات وقع ومكانة في القلب تأبى النسيان..

"الليلة عيد راس السنة" هي كلمات لكنها ليس كسائر الكلمات، هي كلمات تأخذ معنى الحكاية، وأي حكاية، حكاية الانطلاقة والخطوات الاولى نحو الحرية والاستقلال، ونحو الهوية والكينونة الوطنية، فكانت عملية عيلبون الفدائية بكل تفاصيلها وتلاوينها بمثابة الشرارة، ومن هنا كانت الثورة الفعل المؤسس للكلمة الصادقة الامينة، فكانت الرصاصة وكانت الانطلاقة التعبير الحي عن ارادة شعبنا وعن ايمانه العميق بحتمية النصر.

ومنذ ذلك اليوم الاثير وعلى وقع خطوات الانطلاقة الاولى ونحن نغني….

الليلة عيد راس السنة
الليلة مروا من هنا
وصلوا النفق
احمد سبق
أحمد زحف تحت الجسر
أعطى الإشارة للرفق
خمس دقائق باقية على ساعة الصفر
خمس دقايق باقية ويطوف بالنهر
يغسل جراح أيوب
ويا دروبنا يا دروب
باقي ع خمس قلوب
قتلت صبر أيوب

**

لا تبكي قومي زغردي
قومي البسي ثوب الفرح
دلعونا قومي زغردي
قومي البسي ثوب الفرح
قومي اسمعي آخر خبر
الليلة مع وجه الفجر
طاف بالنهر
طاف بالنهر

**

الليلة يا دلعونا راجع ظريف الطول
ينزف رصاص ودم
ينزف بارود وعرق
الليلة من جرحه انطلق اول طَلَق
الليلة يا دلعونا راجع ظريف الطول

**

في جعبته أنغام
غنوها في فيتنام
وصورة لجيفارا الثائر الإنسان
الليلة يا دلعونا راجع ظريف الطول

**

في جعبته أسرار
في جعبته أخبار
وكتاب عن الثورة وعن الثوار
الليلة يا دلعونا راجع ظريف الطول

**

في جعبته أسرار
كلمة حروفها نار:
اتحدوا يا ثوار اتحدوا!
اتحدوا يا ثوّار!

*

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي