88 سنة على وفاة الطّاهر الحدّاد/ مأساة- نبيّ مجهول-.

الطايع الهراغي
2023 / 12 / 6

"أخي إن سامك السّفهاء سوءا // وكان زمانهم نذلا كنودا
فلا تحزن. فذا التّاريخ عدل // سيمنح اسمكم منه الخلودا"
(الأديب الطّاهر العبيدي في تأبين الحدّاد)
" لقد تطاول الحدّاد على شرع الله وسنّة نبيّه الكريم وأخرج نفسه من الدّين والذّمّة.فهو كافر يُمنع من الزّواج بمسلمة ولا يحقّ له التّقدّم بطلب كهذا".
(لجنة الفتاوى المنعقدة خصّيصا لمحاكمة فكر الحدّاد).

البعض يرتضي (ومنهم من يختار ويتباهى بذلك بكثير من التّبجّح)أن يعيش في قطيعة مع وعن زمانه ومغتربا عن حاجيّات العصر وقوانينه وإرهاصات المرحلة ومتطلّباتها بقرون- تفكيرا وسلوكا، موقفا وتموقعا – فيكون لنفسه من حيث لا يدري عدوّا وعلى مجتمعه عبئا وعلى التّاريخ عالة. ولمّا تحين ساعة الرّحيل فكأن لم يكن.والبعض الآخر-على قلّته-، تفنى الأجساد ولما يكون أصحابها في لا مكان تكون أفكارهم باقية في كلّ مكان، منارات تخترق الزّمان لترفرف في أكثر من ساحة وأكثر من ميدان على مدار الدّهر. ألم يقل شاعر القلق الدّائم المتنبّي"إذا قلت شعرا أصبح الدّهر منشدا"؟؟.قد يخذلهم زمان ما.قد يقلب لهم "الحظّ" ظهر المجنّ. ويحدث أن يقسو عليهم بنو جلدتهم فيعيشون أشنع غربة،غربة الغريب في وطنه وبين أهله.ولكنّ التّاريخ- ذلك الرّقيب الأوحد- ينتشلهم ويكون بهم رحيما فيملؤون الدّنيا ويشغلون النّاس في حياتهم وبعد مماتهم. ذلك هو شأن شهيد الفكر الطّاهر الحدّاد،دفع الضّريبة ليكون ويظلّ الشّخصيّة التّونسيّة الأكثر قلقا وتألّقا في مرحلة سمتها الأساسيّة طغيان الجمود.
هذا الذي قيل عنه إنّه شخصيّة تحوز على قدرات فكريّة استثنائية بلا مثيل في المجتمع التّونسيّ منذ ابن رشد قُهِر حيّا، وظلِم ميتا.ظلمه معاصروه بأن أفردوه إفراد البعير المعبّد.فكانت جنازته وأدا للفكر الحرّ وسحلا لعقل التّدبير، جنازةَ من خلعه قومه لخروجه عن نواميس القبيلة وعجرفتها وطقوس العشائر وانغلاقها،وطعنه معاصرونا مثنى وثلاث ورباع بأن عجزت حركة الإصلاح والحداثة بعد 87على وفاته، عن تمثّل ما استبسل هو في الدّفاع عنه قبل قرابة القرن.
حياته محنة،ونضاله محنة، وجزاؤه محنة المحن. رحل الحدّاد ولم يتجاوز السّادسة والثلاثين من عمره وكأنّي به يردّد: هذا ما جناه عليّ بنو قومي، وما جنيت على أحد.
شخصية نموذجيّة استثنائيّة، مركّبة الأبعاد في الفكر وفي الممارسة.نصف حياته صخّره بقرار وبوعي للكتابة والنّضال. اعتصر ثلاث مرجعيّات مختلفة ومتباينة كأشدّ ما يكون التّباين والتّضارب : المرجعيّة الإسلاميّة بإطلاقيّتها والمرجعيّة اللّيبراليّة بانفتاحها والمذهب الاشتراكيّ بإنسانيّته وانحيازه للغلابة، رغم أحاديّة اللّسان، العائق الأساسيّ وقتها للاطّلاع على ثقافة الآخر والتّواصل معها ومعه، ورغم تتلمذه رسميّا في أعتى المؤسّسات محافظة وجمودا وتلقينا. الحدّاد ولئن اعتبر الإسلام مكوّنا أساسيّا للذّاتيّة التّونسيّة كما يظهر ذلك بمناسبة محاربتة لحملة التّجنيس( 1923) فإنّه لم ير لزوما لامتداد الدّين إلى جميع أوجه الحياة العامّة التي تُنظّم على أساس المصلحة الآنيّة وما تمليه رياح العصر وليس بالاحتكام إلى متون وأسانيد مطلقة لا تطالها سنّة التّغيّر.
ارتمى في صخب الحياة مبكّرا. كالطّود الشّامخ يقف بين المدافعين عن تونس أخرى حالمة متنطّعة.
بدأ رحلة نضاله في ميدان الكلمة والفكر كاتبا في جملة من الجرائد:"الأمّة" و"مرشد الأمّة" و"إفريقيا". وما كان يدري أنّ كتاباته ستجلب إليه الأنظار وتكون مدار نقاش بين زعماء البلاد في تلك المرحلة. كتاباته تلك كانت مدخله وبوّابته إلى عالم السّياسة والفكر.فكان أن اصطفاه زعيم الحزب الحرّ الدّستوريّ التّونسيّ الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي ليكون أحد مؤسّسي الحزب سنة (1920 )وهو لم يتجاوز الواحد والعشرين سنة ليكون مكلّفا بأخطر مهمّة، الدّعاية والإعلام

01 / جرأة الحدّاد
عاصر الحدّاد الجدال الذي طبع عشرينات القرن الماضي بين التّيّار الأصوليّ المحافظ ممثّلا في المشايخ وخاصّة في ما وسمه بحقّ أحمد الدّرعي - صديق الحدّاد ونصيره في محنته والشّاهد على مهزلة التّنكيل به- بـ"إكليروس الزّيتونة" والتّيّار الحداثيّ الذي مثّله الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي، صاحب كتاب "تونس الشّهيدة". نادرة هي جرأة الحدّاد كما يكشفها تعامله مع ما يُطرح من مواضيع بعقليّة متجاوزة لما ألفته الذّهنيّة السّائدة .جرأة لا يعادل سيطها إلاّ تجرّؤ خصومه وأعدائه في حربهم الضّروس عليه وعلى أفكاره. فخصوصيّته وميزته تتوضّح أكثر إذا ما قارنّاه بأحد المشتغلين على نفس الموضوع:تحرير وتحرّر المرأة، المصريّ قاسم أمين (صاحب كتاب المرأة الجديدة) مثلا. فإذا كان أمين ابن الطّبقة الارستقراطيّة والتّعليم العصريّ،يحوز على مساندة الأوساط الدّينيّة (محمّد عبدة) والأوساط السّياسيّة (زعيم حزب الوفد سعد زغلول) والفكريّة(المستنير لطفي السّيّد).فالحدّاد منحدر من وسط عائليّ متواضع،أحاديّ اللّسان، فكره مطارد من الوسط الدّينيّ والسّياسيّ والفكريّ، متخرّج من مؤسّسة تعليميّة تحتكم إلى ذهنيّة تقليديّة منغلقة. تعيش غربتين: غربة عن حاجيّات مجتمعها وقطيعة مع إلزامات العصر. الحدّاد أكثر الشّخصيّات الفكريّة والاجتماعيّة توهّجا وقلقا وغوصا في ما اعتبِر من المحرّمات. ليس غريبا أن يعتبره الحداثيّ المشرقيّ طه حسين سابقا لقومه بقرنين.الشّخصيّة الأكثر وعيا وإدراكا لدرجة التّخلّف التي عليها المجتمع التّونسيّ وللمسافة التي تفصلنا عن باقي الأمم "إيه أيّها التّونسيّون. ما أكثر فضيحتنا بين الأمم التي تسعى للحياة والعزّة في طريقهما الموصل، فنحن ما زلنا حتّى السّاعة معجبين بما ترك لنا تاريخنا الأسود من عقائد وميول ننسبها للإسلام زورا لنتّقي بذلك صدمة الحقّ الغلاّب."
ميزة الحدّاد أنّ افكاره الحرّة انبعث من داخل المؤسّسة الدّينية ومثّلت قطيعة بما هي قراءة غيرية في النّصّ، سبيلها اعتبار الخطاب حمّال أوجه فيكون الجهد في كلّ قراءة النّبش عن المعنى الخفيّ في المعنى الجليّ. يُحسب له وعيه بخطورة ما هو مقدم عليه واختياره منهجا كان واعيا بأخطاره الجسيمة. كان يدرك أنّه يطرق بابا جديدا، فتْحه صعب وفي خلعه منافع عديدة،ويخوض في موضوع مخاطر طرقه متشعّبة.ولكن هل من سبيل إلى غير ذلك إذا ارتأينا أن نلج العصر بمفتاح العصر؟؟ أن يقرأ النصّ الديني بما يتنافى وأطلاقيّته،أن يفصل بين جوهر النّصّ الدّينيّ وأهدافه (قيم أخلاقيّة سامية ومثل إنسانيّة وعقائد) وبين الأحوال العارضة الخاضعة لقانون التّطوّر والتّغيّر. "ما أتى به الإسلام وما جاء من أجله". فما جاء من أجله من قيم وعقائد(مكارم الأخلاق/عقيدة التّوحيد/ العدل والمساواة..)ثابت، خالد، باق ما بقي للأديان مكان. وما جاء به من أحكام مشدودة شدّا إلى ملابسات وأحوال مؤطّرة في الزّمان والمكان، يحكمها نمط عيش وفلسفة حياة وبنية تفكير(العبيد/ تعدّد الزّوجات/ الإرث/..) لا شيء يحول دون رفضها وتجاوزها عندما تنتفي أسباب وموجبات الأخذ بها بحكم ما يميّز تاريخ البشريّة من تسارع التّطوّر والتّمدّن،على خلاف ما يتشبّث به الفقهاء من استنساخ لقراءات فقهيّة حكمتها ظروف مغايرة وبنية اجتماعيّة وفكريّة تقليديّة،إن صلحت لعصر فهي بالتّأكيد في تناقض صارخ مع متطلّبات اليوم. "إنّي لست ممّن يعتقدون بموجب ردّ كلّ الشّؤون الدّنيويّة إلى الدّين، وطبيعة الأشياء لا تأبى عليّ هذا الرّأي".
يبدو أنّ اعتبار البعض الطّاهر الحدّاد أب الحداثة التّونسيّة، على ما قد يبدو في الحكم من قصوويّة، ليس فيه مغالاة. فمن سمات الحداثة إحداث قطيعة. وذلك ما فعله الحدّاد:قطيعة اجتماعيّة تمثّلت في موقفه من استغلال العمّال/ قطيعة مع الاستعمار تجسّدت في المساهمة في إفشال مشاريعه الاستيطانيّة (التّصدّي لحملة التّجنيس/التّحريض على مقاومة الاستعمار/ الانخراط في مشروع محمّد علي الحاميّ والتّأريخ إليه كتأصيل لأوّل تجربة نقابيّة تونسيّة وعربيّة وأوّل جسم نقابيّ تونسيّ لحما ودما هو "جامعة عموم العملة التّونسيّة".)/ قطيعة سياسيّة مع حزبه لمواقفه المتخاذلة تجاه جامعة العملة واعتماده المهادنة للمستعمر/ قطيعة فكريّة مع المؤسّسة الدّينيّة/ تحليل المجتمع التّونسيّ حسب رؤية طبقيّة متجاوزا ثنائيّة الحضر والبدو في فهم تركيبة المجتمع التّونسيّ خلافا من سبقه من الكتّاب الاجتماعيّين .
ولعلّ ذلك من أهمّ خاصيّات كتاب "العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة".
خلق الحدّاد سرديّة لعلّها الأكثر امتدادا في السّردياّت التّونسيّة. لقد كان مدركا أنّ المثقّف لكي يكون فعلا مقثقّفا لا بدّ أن يتوفّر فيه شرط الاستشراف. معاصروه (ليكن الطّاهر بن عاشور ممثّلهم) غلّبوا المكانة الاجتماعيّة على المعرفة. وأكاد أجزم أنّهم كانوا مدركين لفداحة الجرم الذي يقترفونه في حقّ المجتمع التّونسيّ عندما أخضعوا سلطة الفكر لسلطة السّياسة . فكان حالهم كحال من سبقهم من الفقهاء، بعضهم يبرّر ما لا يُبرّر ولا يخجل من الإفتاء في الشّيء ونقيضه، وبعضهم لا يعنيه مفعول الزّمن وتبدلّ الحال. على خلافهم كان الحدّاد قصوويّا في زمانه واعيا أنّه يجدّف ضدّ التّيّار وأنّه يرتكب ما يرقى إلى مستوى البدعة.ولكنّه كان مدركا أنّه يفتح آفاقا سيسجّل التّاريخ أنّ للحدّاد فيها يدا طولى.
ذلك هو جوهر الكتاب الأشهر في تاريخ تونس الاجتماعيّ" امرأتنا في الشّريعة والمجتمع".

02/ محاكمة الحداد محاكمة فكر
مطاردة أفكار الحدّاد والتّشنيع الذي مورس ضدّه يرتقي إلى مستوى ما كانت تأتيه محاكم التّفتيش في أروبا النّائمة من شنائع في حقّ معارضي الكنيسة والمارقين على السّلطان،والتّهمة جاهزة: الهرطقة.
انصبّت كلّ الرّدود على القسم التّشريعيّ من كتاب "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، ولا أحد التفت إلى القسم الاجتماعيّ لأنّه لا يصلح مدخلا لإثبات أركان الجريمة ولا يمكّن من الإدانة .
افتتح الحملة الشّيخ راجح إبراهيم بمقال مطوّل في جريدة "النّديم"، مقال تختزله جملة مفتاح، تكشف محتواه ونواياه وأهدافه وتغني عن كلّ تعليق. التّهمة جاهزة وكذلك الحكم " الحمد لله الذي برّأني من قراءة الكتاب".المسّلمات الفقهيّة التي حكمت تعامل المشايخ وأساسا "إكلريروس الزّيتونة" كان الحدّاد ضحيّتها. لم يُصلب ولم تُقطّع أوصاله،ولكنّ أوصال فكره مُزّقت .عناوين الكتب التّي أعِدّت خصّيصا تحت الطّلب وبمؤامرة اشتركت فيها السّلط المعرفيّة والسّلط السّياسيّة أمضى من السّيوف.حرب قولا وفعلا: "الحداد على امرأة الحدّاد"،" سيف الحقّ لمن لا يرى الحقّ"،" اللّباب في ثبات الحجاب" . لا يتعلّق الأمر بنقاش ومحاججة بل بإقصاء وإخراج من الملّة. الأمر الذي يستدعي تلفيق التّهم واستغلال الواعز الدّيني. فيصبح الكتاب ذاته مؤامرة على الدّين الإسلاميّ والشّريعة من كاتب يدّعي الدّفاع عن الشّريعة. إليكم نتفا من التّهم الملفّقة للحدّاد: الآباء (المسيحيّون) هم الذين أملوا على الحدّاد محتوى الكتاب والكنيسة هي التي طبعته وبائعة هوى هي أهدته البيت الذي يقيم فيه مقابل تأليف الكتاب.تُوّج الهجوم بتكليف النّظارة العلميّة لجامع الزّيتونة هيئة من الشّيوخ ترأّسها الطّاهر بن عاشور وأقرّت -كما هو منتظر- تحجير الكتاب وحجزه لما فيه من أقوال "تناقض التّعاليم القرآنيّة وتتضمّن عدوانا على مقام النبيّ الأعظم". والنّيجة الحتميّة لا يمكن إلاّ أن تكون أفظع: الإعفاء من العمل ككاتب بالجمعيّة الخيريّة الإسلامية،حجز الكتاب تماما كما فعلت الإقامة العامّة بكتاب "العمّال التّونسيّون...."، انتزاع الإشهاد،

03/ وختامــــا
محاكمة الحدّاد هي في وجه من وجوهها محاكمة للمؤسّسة الدّينيّة، لمؤسّسة الإفتاء، تعريّة لتبعيّة "رجال الدّين" للسّلطة الحاكمة أيّا كانت هوّيّتها، محاكمة للمجتمع التّقليديّ.فليست الهجمة على الحدّاد وليدة قناعة.الأقرب أنّها تغطيّة على ورطة تزكيّة المؤتمر الأفخارستي المنعقد بقرطاج(أفريل/ ماي 1930) قبل صدور الكتاب ببضعة أشهر. مؤتمر كنسيّ أهدافه الاستعماريّة صريحة، تزامن مع احتفال السّلط الاستعماريّة بمأويّة احتلال الجزائر.والأعيان من القيادات الدّينيّة والسّياسيّة كانوا قد قبلوا إدراج أسمائهم بقائمة اللّجنة الشّرفيّة. فكان لا بدّ من انقلاب يحجب العورات.
رحل الحدّاد. حمل تونس وردة في حقيبة أفكاره ورحل. فما نحن بها فاعلون؟؟ ويظلّ السّؤال منتصبا انتصاب أفكار الطّاهر الحدّاد في عصره.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي