|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
آدم الحسن
2023 / 12 / 6
لقد شَكلتْ الماكنة الإعلامية الضخمة التي يمتلكها الغرب في عقول الكثير من المثقفين في العالم أن ليس هنالك امكانية لانبثاق حضارة عالمية جديدة و إنما ما سيحصل هو تَشَكُل عالم جديد تسود فيه حضارة واحدة هي الحضارة الغربية السائدة حاليا في الغرب و إن كافة الحضارات الشرقية ستندحر , و كتبوا عن ذلك الكثير تحت عناوين مختلفة منها ما اسموه صراع الحضارات و التي اكدوا تحت هذا العنوان حتمية استمرار الصراع بين الحضارات و إن اندماج الحضارات في حضارة عالمية واحدة هو امر غير ممكن و ان حتمية صراع الحضارات لا يمكن التخلص منها و إن نموذجا واحدا وفق مبدأ البقاء للأصلح هو الذي سيسود و هذا النموذج هو المبني على الليبرالية الغربية و ما عداها من حضارات سيكون مصيرها الزوال و إن نهاية التاريخ اصبحت واضحة و هي علو النموذج الغربي الذي يعتبرونه هو المحطة الأخيرة لحركة تطور البشرية , أما المتشددين من اصحاب هذ النهج الإقصائي فقد حلموا بنشوء عالم يسود فيه المليار الذهبي من البشر و هم المليار انسان الذين يعيشون ضمن الحضارة الغربية الحالية و كأن باقي المليارات من البشر ستنقرض مع انقراض حضاراتهم و المتبقي منهم سيظل عبيدا للمليار الذهبي .
مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق و تَشَكُلْ عالم احادي القطبية الذي ساد فيه القطب الأمريكي الأوحد انطلقت من الغرب الأمريكي ادعاءات لتأكيد أن البشرية قد وصلت فعلا الى المحطة الأخيرة من التاريخ , بدأوا يتحدثون عن هذه المحطة المزعومة و هي أن العالم قد تَشَكَلَ في شكله النهائي وفق المعايير المجتمعية و الاقتصادية و الأخلاقية الأمريكية ... لكن في نفس هذا المقطع الزمني من التاريخ كان هنالك في الجانب الشرقي من العالم عملاق اقتصادي يَتَشَكَلْ بثبات و هو الصين بقيادة التيار الإصلاحي للحزب الشيوعي الصيني .
لقد طرحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني التي تشكلت بعد وفاة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ و بعد أن تمكن التيار الإصلاحي بقيادة دينغ شياو بينغ من استلام دفة قيادة الحزب الشيوعي الصيني و الدولة الصينية عدة مبادئ اساسية لسياسة صينية جديدة على الصعيدين الداخلي و الخارجي و قد طور هذه السياسة و اضاف عليها اسس و أركان اكثر وضوحا الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ لتكون صورة السياسة الصينة على النحو التالي :
اولا : تعتبر الصين أن التنافس و الصراع بين الدول هو أمر غير مفيد لكل الدول المتصارعة أو المتنافسة و إن البديل هو الشراكة الشاملة بين كافة الدول على اختلاف انظمتها .
ثانيا : تدعو الصين الى بناء تنمية عالمية تشترك فيها جميع الدول , تنمية أساسها الاحترام المتبادل و المنافع المشتركة لجميع الدول .
ثالثا : طرحت القيادة الصينية الحالية بكل وضوح امكانية التعايش بين الأنظمة المختلفة , أنظمة اشتراكية , رأسمالية أو أي شكل من اشكال الأنظمة الأخرى , في عالم متعدد الأقطاب ليس فيه محاور أو اقطاب متناقضة أو متصارعة , و إن طبيعة النظام في أي دولة هو شأن داخلي لها و يخصها فقط و هذا الشأن هو خيار تقرره ارادة و رغبات شعب تلك الدولة و أن لا يكون للعامل الخارجي تأثير في صياغة طبيعة خيارات أي دولة , و بذلك تقف السياسة الصينية ضد تصدير الثورة و ضد تصدير مفاهيم الديمقراطية أو المجتمعية لكي تكون شعوب العالم حرة في اختيار النموذج الذي يناسبها , وهذا هو السبب وراء تسميتهم للنظام الاشتراكي المطبق في الصين بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية .
رابعا : لقد دحضت القيادة الصينية الجديدة مفهوم الإمبريالية التي تحدثت عنها الأحزاب الشيوعية اللينينية باعتبارها أعلى مراحل الرأسمالية , فالإمبريالية لم تَتَشَكَلْ و لن تَتَشَكَلْ في المستقبل , و إن الحديث عنها لا معنى له لأنه حديث عن شيء غير موجود .
معظم حكومات الدول التي تتبع النظام الرأسمالي و منها الحكومة الأمريكية اخذت تتبنى النهج الوطني و تبتعد عن تشكيل رأسمالية عابرة للحدود الوطنية للدول , وهذه هي النهاية الواضحة لفكرة تشكل الإمبريالية , على سبيل المثال , الشعار الذي رفعة الرئيس الأمريكي السابق ترامب " أمريكا اولا " هو تجسيد لمتطلبات الأنظمة الرأسمالية التي ليس له حل لمشكلاتها البنيوية سوى أن نكون أنظمة وطنية .
خامسا : اعتمد نهج القيادة الصينية على حقيقة و هي أن الفرص المتاحة للاستثمار للدول المتقدمة بمجموعها هي اكبر بكثير من إمكانياتها , و بالتالي اصبح الصراع بين الدول هو امر غير منطقي و كذلك اصبح التنافس بين الدول غير منطقي و غير عقلاني أيضا .
قد تكون حكومات الدول الغربية و منها الأمريكية قد أدركت أن نتيجة أي صراع اقتصادي بين الدول ليس فيه رابح و خاسر و أن جميع الدول المتصارعة اقتصاديا في عصرنا الحالي هي خاسرة , لكن هذا الإدراك لم يغير في سياسات هذه الدول , لا شك انه خلل و يعود سبب هذا الخلل الخطير الى ان المحرك الأساسي لسياسة هذه الدول هي مصالح الشركات فيها و ليس مصالح شعوبها .
سادسا : دعت القيادة الصينية على لسان الكثير من قاتها و منهم الرئيس الصيني شي جين بينغ الى دعم بناء حضارة عالمية و التي هي الان في طور التَشَكُلْ و أن تكون مكوناتها الأساسية هي العلوم و التكنولوجيا و كل الأنشطة الإنسانية من فنون و أدب و رياضة و ثقافات و فلسفات كافة الشعوب .
من المؤكد أن هنالك إمكانية لما تسميها القيادة الصينية التنمية العالمية التي أساسها الشراكة العالمية بين جميع بلدان العالم و إن تطور أي بلد عند تحقق الشراكة العالمية سيصب في مصلحة باقي البلدان .
إن عدد الدول التي اقتنعت بالنهج الصيني الجديد الذي يدعو إلى إقامة تنمية عالمية من خلال شراكات استراتيجية بين الدول في ازدياد مستمر حيث بلغ عدد الدول التي وقعت مع الصين اتفاقيات شراكة استراتيجية قد زاد على ١٢٠ دولة .
إن ما تطرحه قيادة الحزب الشيوعي الصيني الحالية يتوافق مع حقيقية أن الجدوى الاقتصادية لكل أشكال الهيمنة و الاستعمار في طريقها الآن الى الزوال .
صحيح أن الجدوى الاقتصادية للهيمنة و الاستعمار لم تنتهي بشكل نهائي لكن هذه الجدوى في تراجع مستمر حتى يمكن القول انها في طريقها الى التلاشي و الاضمحلال و هذه القناعة تستند الى الحقائق الموضوعية التالية :
الحقيقة الموضوعية الأولى : تراجع قيمة المواد الأولية الداخلة في صناعة السلع كنسبة مئوية من قيمة السلع إذ قد تجد منتج قيمته التبادلية عشرات الملايين من الدولارات في حين أن قيمة المواد الأولية الداخلة في صناعته لا تتجاوز بضعة مئات أو بضعة ألوف من الدولارات و باقي القيمة هي العمل الفكري المتجسد في المنتج .
الحقيقة الموضوعية الثانية : بسبب التقدم العلمي و التكنولوجي المتسارع و التطور الكبير في الأتمتة تراجعت أهمية الأيدي العاملة و بالتالي أصبحت الدول المتقدمة لا تبحث عن مستعمرات توفر لها أيدي عاملة رخيصة .
الحقيقة الموضوعية الثالثة : لم تعد معظم الدول المتخلفة قادرة على أن تكون سوق لمنتجات الدول المتقدمة إذ ليس لديها ما تدفعه مقابل شراء السلع و الخدمات المستوردة من الدول المتقدمة , و ما يؤكد هذه الحقيقة هي أن الجزء الأعظم من التجارة بين الدول في العالم الان هي التجارة البينية بين الدول المتقدمة .
لقد دعا الرئيس الصيني تشي جين بينغ خلال زيارته الأخيرة الى سان فرانسيسكو إلى حصر التنافس ليكون بين الشركات و ليس بين الدول , على اساس أن التنافس بين الشركات مفيد و التنافس بين الدول مضر لأنه قد يتحول إلى صراع بين الدول ليس فيه مستفيد .
ما يطرحه الرئيس الصيني من أن هنالك إمكانية لما يسميها التنمية العالمية التي أساسها الشراكة العالمية هي نظرية و نهج يستحق الدراسة الجادة , فهل تسعى الصين لاحتضان حضارة عالمية جديدة تكون هي مركزها ... ؟
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |