الست الموبقات في نظر المسيحية القروسطية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2023 / 10 / 25

فرضت الكنيسة القروسطية احتكارها على الحياة الروحانية لعموم الأوروبيين خلال الحقبة الأولى من القرون الوسطى (حوالي 476-1000م) ثم استكملت قبضتها تلك خلال الحقبتين الوسطى (100-1300) والمتأخرة (1300-1500). خلال هذه القرون، استشرى الفساد بشكل ملحوظ وسط رجال الدين لدرجة أنهم أهملوا الفرائض الدينية الأساسية في المسيحية وانغمسوا في رغد العيش وملذات الحياة المتأتية من حصيلة جبايتهم زكاة الأعشار من قوت عامة الناس.

شيئاً فشيئاً، أصبح رجل الدين في نظر العامة مرادفاً للنفاق والخطيئة إلى حد انتشار العواطف المناهضة للكنيسة عبر عموم أوروبا قبل وقت طويل من منتصف القرون الوسطى، ما أسهم في ظهور أنظمة اعتقاد بديلة أدانتها الكنيسة واعتبرتها من البدع المفضية إلى الضلال الموصل للكفر والخروج من الملة المسيحية.

ما كان بمقدور الناس العاديين- ولا حتى النبلاء- فعل شيء يُذكر حيال هذا الفساد الكنسي لأن الكنيسة كانت تُمسك بيدها منفردة مفاتيح مصائرهم الأبدية. لا أحد سينجو من العذاب ويدخل الجنة إلا عبر اتباع تعاليم الكنيسة، وإلا كان البديل حياة الخُلد في نار جهنم وبئس المصير، أو مدة احتجاز محدودة، لكن ليست أقل فظاعة، في نيران البرزخ (المُطهِّر) حيث يتطهر المرءُ من الذنوب قبل الإذن له بدخول الفردوس في نهاية المطاف. كان يُنظر إلى الجنة والنار والبرزخ (المُطهِّر) باعتبارها من المُسَلمات اليقينية المطلقة بعد الموت، ولما كانت الكنيسة هي التي تسن الأحكام المنظمة لمآلات الروح، لم يكن أمام الناس من مفر غير السكوت وتجرع تصرفات رجال الدين مهما بلغت مرارتها وقسوتها.

كان القداس المسيحي يُتلى باللغة اللاتينية، والإنجيل لاتينياً، والصلوات مثل الصلاة الربية وصلاة مريم تُلقى على الناس ويحفظونها باللاتينية- وهي لغة لم يفهمها أحد من الفلاحين وقليل من النبلاء. ومن ثم كانت خدمة يسوع، كما نَصَّت الأناجيل، امتيازاً حصرياً لرجال الدين الذين ادعوا أن الكنيسة وحدها هي من تملك الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإلهية وحق تفسيرها للآخرين.

كانت الكنيسة الكاثوليكية هي الممثل الوحيد المعترف به للمسيحية لهؤلاء الأوربيين غير المنضوين تحت الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حتى كَسَر الإصلاح البروتستانتي (1517-1648م) هذه السيطرة المطلقة. لكن حتى قبل هذا الإصلاح وفرت ما سُمِّيَت بِدَعْ المهرطقين نافذة هامة لحرية التعبير الديني خارج صندوق التعاليم الكنسية الضيق.

الفرق المذمومة
رغم أن أوروبا كانت من الناحية الاسمية مسيحية أرثوذكسية طوال القرون الوسطى، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور عدد من الفرق التي شككت في التعاليم الكنسية وسعت إلى ترسيخ تفسيرها الخاص للمسيحية أو، كما في حالة البيلكانيين والبوغوميليين والكاثاريين، التأسيس لمذهب ديني جديد يبني على فرضيات المانوية الفارسية والغنوصية اليونانية والمسيحية. وقد أدانت الكنيسة الكاثوليكية القروسطية جميع هذه الفرق ورمتها بالتجديف والبدعة والهرطقة الموصلة للكفر والخروج من الملة وسحقتها دون رحمة.

على الرغم من وجود العديد مما تسمى الفرق المذمومة طوال القرون الوسطى، إلا أن ستة منها على وجه التحديد كان لها أبلغ الأثر وشكلت مصدر إلهام لما تلاها:
* البيلكانيون
* البوغوميليون
* الكاثاريون
* الولدينيسيون
* اللولارديون
* الهوسيون
كل هذه الفرق الستة قوبلت بالقمع من الكنيسة، ما أدى في الغالب إلى معاناة ومذابح واسعة النطاق وسط سكان لم يكن لهم ناقة ولا جمل في المعتقدات والحجج الكلامية التي تبنتها هذه الفرق المذمومة، لدى مواصلة الكنيسة الإصرار على سلطتها الروحانية كممثل الرب في الأرض. حسب الكنيسة، التي غَذَّت وأَجَّجت الرعب الكامن في رويتها للجحيم والبرزخ (المُطهِّر)، كان المهرطق لا يعدو كونه شخص مصاب بمرض معدي تعين حجره بعيداً عن عموم الناس لمنع المرض من الانتشار في أثناء مواصلة الجهود لمداواته من مرضه.

اعتمدت هذه الجهود المبدئية على الكلمات- سيجادل الدعاة المهرطقين والمجدفين في الدين بالحسنى لاستعادهم إلى رشدهم والصراط المستقيم- لكن تبين أن المهرطقين كانوا غالباً هم الأفضل في الحجة والمجادلة من رجال الدين الكاثوليك، ومن ثم اتُخذت تدابير أكثر جدية، التي ستفضي في النهاية إلى مآسي من شاكلة الحملة الصليبية الألبينية التي دامت عشرون عاماً (1209-1229) للقضاء على الكاثاريين ومحاكم التفتيش المخزية لملاحقة المهرطقين من شتى الفرق خلال القرون الوسطى.

المذمومون الأوائل ومجمع نيقية

كانت التيارات الدينية المختلفة تُفسر المسيحية بشكل مختلف خلال الفترة من القرن الأول حتى الرابع الميلادي. لكن بعدما تبني قسطنطين العظيم (حكم 306-337م) المسيحية وجعل منها الدين الرسمي للدولة، طالب بتفسير موحَّد للعقيدة الجديدة وكان مجمع نيقية عام 325 المحاولة الأولى نحو هذه الغاية. وقبل ذلك التاريخ اعتُبرت تفاسير آريوس السكندري (256-336م) التي نفى فيها- من جملة معتقدات أرثوذكسية أخرى- صحة الثالوث المسيحي من صحيح أصول الدين المسيحي مثل أي تفسير آخر.

ومن جملة آخرين، نفى الإبيونيون خلال القرن الرابع ألوهية المسيح والتزموا بالمعتقد المعروف باسم البِنُوة الإلهية التي بموجبها "تبنى" الرب رجلاً بلا خطيئة، يسوع الناصري، من خلال تعميده وموته وبعثه لكنه لم يكن "ابن الإنجاب الإلهي الوحيد". لذلك ادعى الدوناتيون في شمال أفريقيا خلال القرن الرابع وجوب أن يكون رجال الدين المسيحيين أيضاً بلا خطيئة أسوةً بيسوع وتلامذته، وبالتالي وجب منع أي رجل دين يقع في الخطيئة من إدارة الطقوس أو إقامة القداس.

اعتقد قسطنطين أنه قد تلقى رؤيا من يسوع المسيح مباشرة قبل معركة جسر ميلفيان الحاسمة عام 312 والتي هزم فيها خصمه ماكسينتيوس وتولى السلطة كاملة بوصفه الإمبراطور الروماني. وقد ظهر له يسوع بنفس الطريقة التي كان يتجلى بها الآلهة الوثنيون في الماضي وهو ما يبرهن أن المسيح كان إلهاً يتمتع بقوى خارقة. وهكذا لم يكن قسطنطين مهتماً بالتفسير المسيحي الذي نفى ألوهية المسيح ولم يكن ليتسامح حيال ما اعتبره خروج عن صحيح الدين من طرف الدوناتيين أو دعاة البنوة الإلهية من الإبيونيين أو غيرهم. جميع هؤلاء تمت إدانتهم كأصحاب بِدَعْ ومهرطقين في مجمع نيقية وتم ترسيم حدود المعتقد الأرثوذكسي الصحيح.

كان من بين التغييرات الكثيرة التي أسسها مجمع نيقية وضعية الطبقة الثانية للنساء في الكنيسة اللاتي اعتبرن من الآن فصاعداً من العامة الذين يجوز لهن المساعدة في أداء المهام الكنسية لكن لا يمكنهن إلقاء الوعظ أو تقلد مناصب السلطة على الرجال. قبل ذلك، وثقت السجلات حالات كثيرة لنساء ذوات تأثير ونفوذ قوي داخل الكنيسة كان عملهن في أحيان كثيرة يزيد، لا يقل، في أهميته على أي من نظرائهن الذكور. وقد مَثَّلَ استبعاد النساء من مناصب النفوذ والتأثير ببساطة وجهاً آخر لترسيخ الرؤية الأرثوذكسية للمسيحية، إذ بمجرد أن رُسِّمت طريقة واحدة صحيحة لتفسير الدين وممارسته، اعتُبرت أي طريقة أخرى بِدْعَة وضلالة وجب وأدها في مهدها.

الكنيسة والسلطة الدنيوية

جمعت الكنيسة في يدها سلطة دنيوية من خلال وسائل علمانية منذ اعتبر قسطنطين وخلفائه المباشرين أنفسهم حماةً للكنيسة. ولما كانت الكنيسة مَعْفِّية من الضرائب، كان بمقدورها جمع ثروة هائلة؛ وبما أنها طالبت أيضاً بنصيب العُشر من دخل كل مؤمن في صورة زكاة الأعشار، نمت هذه الثروة وتضخمت في صورة أملاك مترامية ونفوذ واسع. ثم خلال القرن الثامن خطت الكنيسة خطوة أخرى لتوطيد مكانتها من خلال عملية تزوير عُرفت باسم "الهبة القسطنطينية" التي زعمت كذباً أن قسطنطين العظيم قد تنازل عن سلطته للبابا الذي تَفَّضَل على الإمبراطور لكي يستمر على عرشه بعدئذٍ بنعمة من البابا. هكذا، وفقاً للكنيسة، تنبع شرعية السلطة الدنيوية فعلياً من البابا ويُعهد بها على سبيل الأمانة فقط لدى أيما عاهل قد يعتلي سدة الحكم في أي وقت.

لا يزال الأثر الفعلي لهذه الوثيقة طيلة القرون الوسطى محل جدل، لكن المفهوم الكامن خلفها- وتدخل الكنيسة المتزايد في إدارة شؤون الدولة- كان جلياً وليس محل شك. لقد شجعت بيبين القصير، ملك الفرنجة (حكم 751-768م) على أن يقدم للكنيسة "هبة بيبين" التي تنازل بموجبها للكنيسة عن الأراضي التي احتلها من اللومبارديين وأنشأت منها الدولة الباباوية. كما كان بمقدور الكنيسة أن تحشد ميليشياتها الخاصة وتشن الحملات العسكرية، وعلى خلفية الادعاء بتمثيل الشرعية التي يستند إليها أي عرش، ابتزاز الملوك لإجبارهم على الامتثال لمصالح الكنيسة.

لقد أقلق تدخل الكنيسة في الشؤون العلمانية قطاعاً واسعاً من العامة وقَلَّبَ ضدها غضب الكثيرين. على سبيل المثال، في إيطاليا القروسطية ثارت فرقتا الغويلفيين والغيبيلينيين خلال القرن الثاني عشر احتجاجاً على نزاع التنصيب (الذي بموجبه كان بمقدور الكنيسة أن تُعين كبار المسؤولين في الدولة من دون التشاور مع الملك). وقف الغويلفيون مع الشرعية الباباوية في حين أخذ الغيبيلينيون صف الإمبراطور الروماني المقدس. لكن رغم ذلك لم يُجاهر الغيبيلينيون أبداً بعدائهم للكنيسة ذاتها، بل فقط ضد ما اعتبروه إساءة استعمال للسلطة، بينما شجبت الفرق المذمومة نفاق الكنيسة وثرواتها غير المستحقة وكل مظاهر فسادها الأخرى علاوة على إنكار شرعية الباباوية ورجال الدين، وحتى الأسرار المقدسة.
،،،،يُتبع،،،،
_____________________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://member.worldhistory.org/article/1414/six-great-heresies-of-the-middle-ages/

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي