|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
علي دريوسي
2023 / 9 / 30
في هذه اللحظة والتروس المسنَّنة بأنواعها وأشكالها التصميمية المعقدة لا تتوقف عن دورانها، في هذه اللحظة وأنا أُقطِّع حبّات البندورة لأخلطها مع الخضار لتحضير صحن سلطة، انتابتني رَعْشَة شوق ساخن إلى صبَّار الوادي الأحمر في بسنادا، شمّمت رائحته هكذا بوضوح وصفاء وكأنني كنت هناك وأحضرت لتوّي من الثَّلاَّجة صحن الصبَّار المُقشّر. في هذه اللحظة يخطر على بالي الشاعر الألماني "شيلر" وهو يتناول كعادته من درج مكتبه تفاحة مُعَفَّنة يشم رائحتها الكريهة لثوانٍ ثم يبدأ بالكتابة.
أنا كائن لاورقي، أعيش بلا أوراق منذ عام 2011، وهذا إنجاز كبير جداً بالتأكيد. بمناسبة رأس تلك السنة أهديت صديقي محسن خلال زيارتي له في مدينة مانهايم آخر هداياي الورقية العربية: رواية "المستنقع" ورواية "ذاكرة الجسد". في غرفته مكتبة صغيرة ورأيت من المناسب أن أزودها بهذين الكتابين.
في عام 2003 لم أكن قد سمعت بعد باسم الكاتبة "أحلام مستغانمي"، وها هي اليوم تدخل في عقدها الثامن. لي صديقة كانت تعيش ذاك الوقت في مدينة "هانوفر" وكنت حينها في مدينة "درسدن". هي من حكت لي عن أحلام وكتاباتها التي سحرت مئات الألوف من المراهقين العرب. أهدتني كتاباً لها "ذاكرة الجسد" لتشجيعي على القراءة ثم ندمت لاحقاً على معرفتها بي مثل الكثير من أصدقائي الطيبين، فكتبت لي ذات يوم:
"أعدك بألا يزعجك صوتي ثانية ولن يصلك مني أي شيء بعد هذه الكلمات الأخيرة، واعتبر الرواية التي أرسلتها لك اليوم مجرد ذكرى من أخت تعرّفت على صوتها في الغربة (علماً أنها هدية من صديقة عزيزة على قلبي)، سأحاول أن أرسل لك بقية الأجزاء عندما أعود إلى سوريا كما وعدتك من قبل."
كان قد مضى عليّ زمن طويل لم أقرأ به بالعربية، لم أكن أشاهد التلفاز العربي، حتى أني لم أعرف، في تلك الأيام وقبلها، كيف بدأت الحرب على العراق ومتى انتهت، ولا كيف سقطت بغداد ولا كيف اعتُقِل صدّام، لم أتابع أيضاً طقوس موت الأسد ولا طقوس توريث الحكم في سوريا.
قرأت كتاب أحلام "ذاكرة الجسد" وتمتعت به ، ثم حصلت لاحقاً (نسيت كيف حصل هذا) على كتابيها "فوضى الحواس" و"عابر سرير" وقرأتهما برغبة ووجدت نفسي قد تأثرت برهافة أسلوبها، والسبب يعود حتماً لعدم قدرتي على مقارنتها مع كتّاب آخرين لنقص اهتمامي بالقراءة الأدبية.
اليوم وبعد مضي عشرين عاماً على قراءة هذا الثلاثية وجدت نفسي تواقة لقراءة رواية "الأسود يليق بك". طبعاً لا علاقة لي بالنقد الأدبي كي أحلّل وأناقش تفاصيل الرواية، لكني أضطر لأقول بكلمتين: لقد أعجبتني فكرة الرواية وأسلوبها كتابتها التي تتوجه به أحلام لشريحة المراهقين بالدرجة الأولى ـ كما أخمّن. إمراة تتربع اليوم على العرش، إمرأة يتبعها أربعة عشر مليوناً من المعجبين لا تنتظر أبداً أن يقرأ لها شخص اسمه "علي دريوسي" ولا يهمها قطعاً فيما إذا كان معجباً بكتاباتها أو رافضاً لها.
حين غادرت سوريا قبل خمسة وعشرين عاماً ـ حدث هذا في صيف عام 1998 ـ لم أكن أيضاً قد سمعت باسم الكاتب "ممدوح عزّام"، رغم أن صداقات جميلة وواعية ربطتني ببعض الطلاب من مدينة السويداء والذين اِستأجروا في قلب قريتي غرفاً متواضعة للعيش وليتمكنوا من الدراسة في جامعة اللاذقية، لعله قد بدأ بالكتابة في سن متأخر دون أن يلفت الانتباه. وأثناء حياتي في ألمانيا لم أسمع باسمه أيضاً رغم علاقات صداقية متينة ربطتني ببعض طلاب السويداء في جامعة دورتموند ولعل السبب هنا يكمن في ابتعاد هؤلاء عن عالم الأدب ناهيك عن الصغر في السن. لكني سمعت باسمه منذ أشهر قليلة عن طريق الوسيط "فيسبوك"، فقررت أن أتعرف على كتاباته، وهذا ما حصل فقد قرأت له رواية "أرض الكلام". رواية طويلة ممتعة رغم الأسماء الكثيرة المغموسة بالسرد، رواية ترصد الحياة الاجتماعية والسياسية في مدينة السويداء وقراها خلال فترة الوحدة السورية المصرية.
ومع هذا تراني أدمدم "لا يوجد اليوم في عالمنا الناطق باللغة العربية من يستحق وصفه بالأديب، بل هناك الكثير ممن نستطيع وصفهم بالكاتب أو السارد أو المؤلف". هذا ليس حجراً شلفتها في بركة ماء وليس كرهاً أو تحدياً أو استفزازاً لأحد وليس لمراقبة ردّات الفعل كما يقول الأصدقاء، وإنما لأنني أبحث عن الحقيقة، عن الجرأة، عن الرأي الخارج عن المعتاد، عن قدرة الناس على التأمل وطرح الأسئلة، عن مدى احترام الناس لحرية الرأي. حتى أنني على سبيل المثال لا أرى أن الكاتب السوداني "الطيب الصالح" مميزاً وفطحلاً كما يعتبره الآخرين، مستوى كتاباته أقل من الحد الأدنى.
وهذا الشيء ينطبق على الكثير من الكتاب العرب والكرد (رغم ندرتهم) من الجيل القديم. فهؤلاء نالوا شهرتهم ـ بالدرجة الأولى ـ لأنهم من أوائل من بادر لكتابة الأدب في زمن مختلف عن الزمن الآني مدعومين من تيارات وفصائل سياسية محددة. ليس لأن شخص ما قد صار معروفاً ـ لأسباب عديدة، يتوجب علينا استيعابه والإيمان بأفكاره وقراءة أعماله والمصادقة على أقواله. وقد يكون كل ما حاولت أن أكتبه في هذا المقطع هو شكل من أشكال الثرثرة والحسد والغيرة، وقد يكون نمطاً من أنماط الجهل، فكما صرحت سابقاً "لست قارئاً جيداً للأدب ولم أقرأ ما يكفي خلال السنوات الفائتة".
أنا الكائن اللاورقي لا أثر في بيتي أو مكتبي للمطبوعات الورقية. صندوق بريدي غدا فارغاً معظم الأيام، لم تعد الرسائل تصلني. كل ما أملكه اليوم من كتب ومعلومات وصور ووثائق وفواتير وكشوفات وبيانات أحتفظ بها على قرص كمبيوتري صلب. كل ما في حقيتبي هويتي وبطاقة تأميني وشهادة السياقة وكل ما في بيتي شهاداتي العلمية وعقود ملكية (الأصل) لا غير.
أنا الكائن اللاورقي صرت مقتنعاً بأن دور صناديق البريد المنزلية في الدول المتطورة تقنياً سيضمحل في المستقبل القريب أكثر فأكثر لتموت آخر الرسائل تدريجياً كما ماتت من قبلها كابينات الهاتف، حينها سنتكلم فعلاً عن الحياة في ظل دولة ذكية إلكترونية رقمية خالية تماماً من المعاملات الورقية.
العالم المتطوّر يقطع خطوات جدية نحو اللاورقية، نحو مستقبل خال من الورق ومعاملاته ومصانعه. تخيّل معي كيف كانت حياتك قبل استخدامك لوسائط التواصل والتطور الاجتماعي (فيسبوك، إيميل، فيديو، واتسآب ..) وكيف صارت بعدها. ما الذي تغير في عالمك إيجاباً أو سلباً؟ بالنسبة لي تغير الكثير. شخصياً صرت أكثر توازناً، وفرّت الوقت، اتسعت دائرة معارفي، تخلصت من الواجبات الاجتماعية الثقيلة والعلاقات الصداقية الباردة وانتصرت كذلك على حاجتي المباشرة لزيارة الآخرين وتكديس الأوراق.
هل جرّب أحدكم التعامل مع أحد برامج الذكاء الاصطناعي "روبوت المحادثة" مثلاً؟ بمساعدة هذه البرامج يحصل الإنسان على كل الخدمات الفكرية التي يرغب بها دون تعب: كتابة برامج كمبيوترية عالية المستوى وتصحيحها، مشاريع تخرج في كافة المجالات، تأليف الموسيقى، كتابة القصص والشعر والأغاني، تأليف المقالات العلمية ...
يمر العالم بثورة صناعية رابعة. الذكاء الصنعي أحد أعمدتها. سيف ذو حدين. العالم يتغير بسرعة هائلة، لو أننا ننام لخمسين سنة ونستيقظ بعدها فسوف لن نتعرف على هذا العالم. مع برمجيات وتطبيقات الذكاء الصنعي مات القديم، ماتت بعض المهن .. مات المترجم .. ماتت الرغبة بتعلم ودراسة اللغات الأجنبية .. حتى لوحة المفاتيح سوف لن نحتاجها .. جنون .. دمار شامل ينتطر الأجيال القادمة في السنوات الآتية.
شاركت في مطلع السنة بمؤتمر علمي في مدينة فلورنسا الإيطالية، جرت جلسات المؤتمر في سياق العنوان العريض "وجهات نظر جديدة في التعليم". أما موضوع بحثي فقد دار حول "استخدام تقنية تتبع العين/النظر في علوم التصميم الهندسي". خلال التحضيرات التنظيمية التي توجّب عليّ القيام بها بدءاً من التسجيل في المؤتمر واختيار الأمسيات التي أحب أن أحضرها وصولاً إلى حجز غرفة الأوتيل وبطاقات القطار والإطلاع بوساطة خرائط الغوغل على الطريق الموصل بين محطة القطار والأوتيل، أثناء ذلك رحت أكتب الإيميلات باللغة الألمانية الصحيحية قواعدياً، ثم أترجمها آلياً وبكبسة زر إلى اللغة الإيطالية بدلاً من الإنكليزية بدقة عالية، لدرجة أن المشرفة على شؤون تنظيم الكونفرنس ردّت على رسائلي الإلكترونية باللغة الإيطالية وسألتني فيما إذا كنت قد عشت سابقاً في إيطاليا كي أجيد لغتها بهذا الشكل الجيد.
أنا الكائن اللاورقي أعلم أننا في بلدي سوريا قد تخلفنا عن الدول المتقدمة بما يعادل مئة سنة على الأقل وأن علينا أن نعمل بجد وأمل لإغلاق ما يمكن إغلاقه من ثغرات. إما أنْ نستطيع فعل ذلك ونأتي إلى حيز الوجود أو أننا سوف نُسحق إلى الأبد.
ورغم تخلفنا ورغم الحالة اللاورقية التي أعيش فيها ما زلت أرغب بتشجيع الأولاد هناك على قراءة الكتب المطبوعة واستخدام الورق والكتابة والرسم عليها بالقلم والألوان. وأنصح بكتاب المحفوظات والقراءة في المدارس، فهذه المادة التدريسية ليست أقل شأناً من كتاب الفيزياء أو الرياضيات، بل لهما نفس الوزن والأهمية. يجب الحفاظ عليها والارتقاء بأسلوب تقديمها للتلاميذ في كافة المستويات. ولا أرى مانعاً من أن يتعلم الأولاد مبادئ التربية الدينية والأخلاقية، من الصف الأول، شريطة الحياد بالتعامل مع الأديان كلها على قدم المساواة والاحترام. حتى في أرقى بلدان العالم تقنياً يتعلم الأولاد مبادئ الدين ويذهبون للصلاة والغناء في الكنائس وهم في السادسة من العمر.
في العالم الصناعي تتدحرج المسنَّنات الإسطوانية والمخروطية والدودية والإهليلجية وتدور من حولنا في حركة مستمرة في علب السرعة الصغيرة والعملاقة الجامدة دون ذكريات أو حنين وأنا الكائن اللاورقي العائش في بلد اسمه "أرض الألمان" ما زلت أعودُ حزيناً إلى بيتي وعيوني قد تاهت بين أغصان شجرة التوت في القرية السورية التي أتيت منها وفي أنفي تعبق رائحة غسيل أمي، أعودُ وفي ذاكرتي لوحة اِلتقطتْها كاميرا عينايّ لقطرات العرق على جبين أمي، جبينها الغاضب، أنا الكائن اللاورقي لم أرَ أمي يوماً تبتسم، أظنُها لم تفعل كي لا أحنُ إلى اِبتسامتها بعد أنْ تموت، أظنُها كانت قد شعرت بدُنُوِّ أَجَلِها وهي في قِمّة الصِّبَا وأنا في قَعْر الطفولة وسبر أغوار الرواية.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |