مترجم/ إطلالات على مغهوم الكارثة (الجزء الرابع والأخير)

أحمد رباص
2023 / 9 / 27

بالمعنى العام، الكارثية هي الميل إلى اعتبار الكارثة طريقة طبيعية لظهور الواقع. ويمكن أن يصل الأمر إلى حد عبادة الحوادث، كما نرى في وسائل الإعلام المعاصرة. هذا التواطؤ بين الكارثية والمشهدية ليس حديثا لأنه إذا لم يكن المعنى المسرحي للكارثة أساسيا، فقد ظهر في القرنين السادس عشر والسابع عشر دور النموذج الإرشادي لحوادث الحياة الأكثر شذوذا (أمراض، أوبئة) تماما كما لو كان العالم خشبة مسرحية.
من ناحية أخرى، النتيجة الدموية للمآسي في كثير من الأحيان هي التي أعطت الكارثة معناها السلبي القاطع. أسس أرسطو نظريته عن التطهير انطلاقا من مأساة أوديب. مما لا شك فيه أن فرجات الكوارث لها وظيفة مماثلة في الخلاص والوقاية. تعرض العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الناجين الذين مرت عليهم الكارثة بالفعل.
يتذكر سلافوي جيجيك أن أحد الدروس الأساسية للتحليل النفسي هو أن "صور الكارثة، بعيدا عن إتاحة الوصول إلى الواقعي، يمكن أن تكون بمثابة درع يحمي من الواقعي".. لقد حصنت خيالات وصور الكارثة الإنسان المعاصر ضد الكارثة الوحيدة التي لن ينجو منها.
مثل العنف، والموت بشكل عام، تثير الكارثة مزيجا متناقضا من النفور والانبهار. هناك افتتان بالكارثة، ورغبة في الكارثة لن تتوقف "الكارثية المستنيرة" عن الاصطدام بهما.
حداثتنا، التي تمارس عبادة الحادث (الحادث هو ما يسمح، من خلال عرضه في صور، وبالتالي إخراجه مسرحيا، بإعطاء قيمة سوقية للمؤثرات). حداثتنا تستخدم الكارثة بشكل مبالغ فيه.. إنكار الكارثة أكثر انتشارا من الكارثية: فهو يعتمد على هذا التشبيه الذي يستنتج "أبدا" من "ليس بعد". لا نريد أن نصدق ما نعرفه، وهذا ينطبق على موتنا الجماعي كما ينطبق على موتنا الفردي.
إن "الكارثية المستنيرة" التي ينوي جان بيير دوبوي ترويجها تقوم على الحيلة العقلية التالية: إذا كنا نعتقد أن الكارثة يمكن تجنبها، فإنها سوف تحدث؛ ولكن إذا كنا مقتنعين بأنها أمر مؤكد، فلدينا فرصة لتجنبها.
تُذكِّر هذه المصطلحات، الكلاسيكية، بمنطق الجهات حول الممكن والضروري، الذي أدخل أرسطو في صراع مع الميغاريين*. أكد هؤلاء الأخيرون أنه لا يمكن القول بأن الحدث ممكن إلا من لحظة حدوثه بالفعل. وبعبارة أخرى، فإن ضرورة الواقعي هي وحدها القادرة على تحويل الممكن إلى ممكن بأثر رجعي.
على العكس من ذلك، بالنسبة لأرسطو، فإن الممكن يترك الباب مفتوحا أمام الفرق بين الوجود والعدم: يمكن أن يكون الشيء موجودا بالقوة دون أن يكون إطلاقا كذلك بالفعل.
تتعامل الكارثية المستنيرة بشكل متناقض مع كارثة المستقبل باعتبارها قدرا لا ينتج عن أي نية بشرية ولكننا مع ذلك أحرار في رفضها. يتعلق الأمر بفصل البشرية عن عنفها الخاص من خلال جعله قدرا بلا ضمير ولكنه قادر على إبادتنا: "الحيلة تتمثل في التصرف كما لو كنا ضحيته مع الأخذ في الاعتبار أننا نحن السبب الوحيد لما يحدث لنا".
تميل كوارث اليوم إلى أن تصبح غير مرئية. كما أن نزع سلاح اعتياد الوعي البشري على الأسوإ لا يجعل مهمة التحذير سهلة. مستحضرا شهادة ويليام جيمس، الذي كان حاضرا أثناء زلزال سان فرانسيسكو الكبير عام 1906، وصف بيرجسون بدقة الحالة الذهنية المتناقضة التي وجد الفرنسيون أنفسهم عليها قبل عام 1914 عندما واجهوا احتمال نشوب حرب جديدة.
بدت لهم هذه (الأخيرة)، يقول بيرجسون، محتملة ومستحيلة على حد سواء - إلى حد تقديم نفسها، بعد تفجرها، بكل بداهتها الخادعة. كانت هذه الطبيعة "اللطيفة" للحادث هي الأكثر إثارة للدهشة.
إن الكارثية الشاملة – الإعلان عن الدمار الكامل للبشرية – هو موقف لا يمكن دحضه، لأنه طالما لم تحدث الفوضى المتوقعة، يمكن دائما القول إنها ممكنة ولكن إذا حدثت، فلن يكون هناك أحد لرؤيتها بعد الآن.
هناك أيضا انحراف خاص بالكارثية الشاملة يمكن أن يجعل أولئك الذين وقعوا فيها يتمنون وقوع الكارثة، من ناحية للتمتع بأنهم على حق، ومن ناحية أخرى لإثارة رد الفعل الذي يرغبون فيه.
ولكن كيف يمكننا إقناع الناس بضرورة حدوث الأسوإ من دون التسبب في حالة من الذعر الذي يؤدي إلى نتائج عكسية؟ أحد أكبر التحديات هو الحاجة إلى اتخاذ قرارات صعبة على خلفية المعرفة الناعمة.
فكر غونتر أندرس وحنة أرندت في هذا المنعطف: من الآن فصاعدا لم يعد الإنسان قادرا على تمثيل ما يفعله. ومن هناك، ظهر شر وحشي غير مسبوق، كان أيخمان تجسيدا له. ما نستطيع أن نفعله من الآن فصاعدا أعظم مما يمكننا أن نتصوره؛ بين قدرتنا التصنيعية وقدرتنا التمثيلية، انفتحت فجوة، سوف تتسع يوما بعد يوم؛ قدرتنا التصنيعية لا حدود لها، في حين أن قدرتنا التمثيلية محدودة. وهذه الفجوة تقابل ما لاحظه ديكارت بين الفهم (المحدود) والإرادة (اللانهائية) – مع هذا الفارق وهو أن القوة التقنية المتحققة والمأمولة جعلت الإرادة اليوم تتحول إلى جانب الرغبات والخيالات، أي إلى جانب اللاشعور.
"من خلال ضخامة الكارثة، يكتب أندرس، أي من خلال حقيقة أنها أكبر من أن تكون لي أو لك فقط، تخفف الكارثة من مخاوفنا بنفس الطريقة [...] مثل المقاولات الكبرى والأعمال العظيمة التي نتعاون فيها مع الآخرين، كعمال، تعفينا من مسؤوليتنا".
إن معنى تحليل غونتر أندرس هو انتزاع الكارثة من تفردها. إن أوشفيتز وهيروشيما لم يحدثا مرة واحدة وإلى الأبد؛ من الآن، ترهنان مستقبلنا بأكمله. إن عالمنا هو عالم من الممكن أن نشهد فيه أحداث أوشفيتز أخرى وهيروشيما أخرى. ومع ذلك، فإن هذا الحضور، وهذا الواقع الدائم هو موضوع كبت: فالحدث الكارثي "مختبئ في قلب إهمالنا".
من الآن فصاعدا، منذ أوشفيتز وهيروشيما، نحن في "زمن النهاية" ولا شيء يمكن أن يمنعنا من أن نعيش فيه بعد الآن. نحن، يقول أندرس، الجيل الأول من آخر البشر. على الرغم من أننا لا نختبر حاليا نهاية الزمان، إلا أننا في نهاية الزمان، مما يعني أنه في أي وقت يمكن أن تأتي النهاية. وقت النهاية هذا نهائي: لن نتمكن أبدا من النزول إلى ما دونه، أو العودة إلى ما قبله. إن زمننا إلى الأبد هو زمن النهاية: "لم يعد من الممكن ترحيله إلى وقت آخر، بل فقط إلى النهاية". بالتأكيد، يمكننا الحصول على تأجيل، والعمل على تمديد (نسبي بالضرورة) لهذا الزمن النهائي، "ولكن بافتراض أننا حققنا هذا النصر، فمن المؤكد أن هذا الوقت سيبقى على ما هو عليه، أي وقت النهاية".
هل ستجعل الكارثة أي استراتيجية مستحيلة؟ قام غونتر أندرس بتحليل المفارقة المتمثلة في نية الردع النووي التي تبطل ذاتها: لكي يكون الردع حقيقيا، فمن الضروري أن نظهر تصميما لا يتزعزع على إطلاق العنان لنهاية العالم حتى نكون على يقين من أننا لن نضطر إلى القيام بذلك. هنا نجد البنية المنطقية لمفارقة جوناس: عندما تبدو الكارثة حتمية، تظل هناك إمكانية لتجنبها. وكما كتب فرانسوا ليفونيه في نهاية مقدمته لكتابه "زمن النهاية": “قام الفلاسفة فقط بتفسير العالم وتحويله. من الآن فصاعدا، يكون من المهم الحفاظ عليه”.
_________________________
(*) المدرسة الميغارية هي مدرسة فلسفية ازدهرت في القرن الرابع ق. م.، أسسها أوقليديوس الميغاري، أحد تلامذة سقراط. تستمد تعاليمها الأخلاقية من سقراط، وتعترف بوجود خير واحد يعمل، على ما يبدو، جنبا إلى جنب مع مبدئي الإيلية والتوحيد. طور بعض خلفاء اقليديوس نظم منطق متقدمة إلى حد أن أصبحوا مدرسة مستقلة معروفة باسم المدرسة الجدلية. وأدى الميغاريون أدورا هاما في تطوير المنطق في العصور القديمة. (ويكيبيديا)
الرابط: https://journals.openedition.org/leportique/1993#:~:text=L id%C3%A9e%20moderne%20de%20catastrophe,il%20a%20de%20plus%20monstrueux.

حوار مع الكاتب الفلسطيني نهاد ابو غوش حول تداعايات العمليات العسكرية الاسرائيلية في غزة وموقف اليسار، اجر
حوار مع الكاتب الفلسطيني ناجح شاهين حول ارهاب الدولة الاسرائيلية والاوضاع في غزة قبل وبعد 7 اكتوبر، اجرت