|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حكمت الحاج
2023 / 9 / 24
لقد كان "والاس ستيفنز" من الشعراء الذين حاولوا التفكير في حدود شعرية خالصة، أي بدون إشارات مباشرة إلى إهتمامات ربما كانت تتملكهم حينما يفعلون أشياء أخرى، بالضبط كما يفكّر عالم رياضيات في حدود حسابية خالصة. من هنا تمّ الإنطلاق لدراسة أعمال وآراء "والاس ستيفنز" وتحليل العناصر الحديثة والمعاصرة في صلب تجربته الشعرية. لقد أمكن لشاعرنا أن يكتب ذات يوم في ورقة من يومياته: "لقد فرحت فعلا عندما وجدت أن "كارناب" (الفيلسوف الوضعي المنطقي) يقول بصراحة أنّ الشعر والفلسفة هما شيء واحد، إنّ الفلسفة والعلوم ليستا ضدا للشعر أكثر من كون فلسفة الرياضيات ضدا له"..
هل كان "ستيفنز" شاعرا رومانطيقيا؟ تلك مسألة ظلت تحرجه أبدا ولم يجد لها جوابا نهائيا. وفي الحقيقة فإنّ عنايته بالخيال تشبه عناية "كولريدج" و"بودلير" به. ولعله انشغل بإضافة الغرابة إلى الجمال أكثر ممّا انشغل أي شاعر آخر من جيله. كما أنّه كان أكثرهم تهكّما وإلحاحا على التفرد الذاتي، وكل هذا كما هو واضح، هو من أعراض الرومانطيقية، إلاّ أنّ "ستيفنز" لم يكن تجريديا ولم يستسلم لسحر الماضي. لقد كان واعيا للإزدواج، وكان هذا الوعي يسبّب له قلقا. فالرومانطيقي يجمع بين شيئين، الأول هو: الإنتماء إلى أكوام من قمامة الماضي/ موسيقى موزارت، المثل العليا لأفلاطون، منطق أرسطو، وما إلى ذلك والثاني: هو أن يثير الرومانطيقي المتعة والرضا لما يتمتع به من حيوية وقدرة على الإبتكار. ولذلك كان "ستيفنز" مثل "ماريان مور" و"وليم كارلوس وليمز" يبدو أحيانا رومانطيقيا وكان كل شيء يغدو لديه تافها، في أحيان أخرى.
ما قيمة التسمية في مثل هذه الأمور؟ لكن "ستيفنز" حين كان يتغنى بالحاضر وضجيج الحاضر كان متساوقا مع تراثه الذي قد ينكره أحيانا. إنّنا لنجد في قصائده من البداية إلى النهاية مواقف أخلاقية، ولكل موقف قناع يختفي الشخص الحقيقي وراءه، ويكون ذلك الموقف مصيرا ودفاعا في آن واحد، وقد يخفي القناع وراءه شخصا محترما أو ربانيا ملتزما أو "دانديا" متأنقا A dandy, is a man who places particular importance upon physical appearance, refined language, and leisurely hobbies وهذه الأقنعة سخيفة جميعها ولا خير فيها لأنّ الذي يختفي وراءها هو أيضا سخيف، والذين ينصتون إليها سخفاء، وطبائع الأشياء جميعها سخيفة، ووراء كل ذلك يقف الشاعر، الموظف في شركة للتأمين وقد حيرته الأفكار التي أثارته، ولقد ساعد بشكل أو بآخر، هذا الذي أثاره، ساعد على صنع قصائده.
تجمع قصائد "ستيفنز" بين القناع والإنسان والفكرة في أشكال تتألف من الإيقاع والصوت والنغم، أو قل، من الكلمات وتداخلاتها، فإذا أفردنا عنصرا من هذه العناصر على حدة نكون قد وقعنا في الخطأ. ومن أكثر الأخطاء شيوعا اعتبار شاعر مثل "ستيفنز" فيلسوفا. فإذا فعلنا ذلك لم نعثر لديه على ما نريد، وكل الذي سنحصل عليه هو شيء واحد متكرّر، وهو شيء عادي مألوف ومبتذل، إنّما قصائده قصائد لا فلسفات، ولكن من السهولة بمكان أن نؤشر على ما تحويه تلك القصائد من أفكار وماهيات.
إنّ موضوعاته في شعره محدّدة، وهو قد يلح على تفرّد الشخصية في الشعر إلاّ أنّه قلما يكون ذاتيا. وقد يكون غنائيا إلاّ أنّه قلما يعرج على موضوع الحب (قارن غياب موضوع الحب في أغلب شعرنا العربي الآن) إنما تثيره تلك الأفكار القليلة فيعالج مرة إثر مرة، شؤون الخيال والواقع، أو "الموضوع" و"المحمول" وطبيعة الحقيقة الواقعية. وفي واقع الأمر فإنّ أي واحد يستطيع أن يكتب قصائد حول أي شيء من هذه الأشياء وما شاكلها. وإذا ما طالع المرء ديوانه المسمى "هارمونيوم" سيلفت إنتباهه على الفور مظهر من الأناقة والزخرف، ويوضح هذا كيف أنّ "ستيفنز" يضع على وجهه قناع المتأنق (الداندي)، أمّا في الدواوين الأخرى فإنّ اللافت للإنتباه هو الشدة والصرامة بدلا من التفنن البراق، وشطحات الخيال. ولا عجب، فقد قال شاعرنا ذات مرة: "أعلى صور الأناقة والزخرف، أن تعرض وتبسط".
لقد نشأ شاعرنا في المدينة، والأناقة ظاهرة تتلبس أبناء المدن. وقد صوّر لنا الشاعر في إحدى قصائده، شخصية إبن المدينة المتباكي وهو يندب الحقائق المؤسفة ويجد عزاءه في التطرف. وفي مختلف العصور الأدبية كانت هنالك شخصيات متأنقة (داندية) حيث تكون هذه الأنماط من الشخصيات تتعشق الزخرف وتحاول أن تزين شيئا، مثل مقبرة إفريقية، كما يقول "ستيفنز" في إحدى قصائده. فهذه النزعة الأنانية تكشف بالمقارنة، عن ما هو مألوف ومبتذل. وفيما يحاول المتأنقون أن يكشفوا عن الزمان والمكان ويعيدوا تسطير الحقائق فإنهم يظهرون الجانب اللاواقعي فيما هو واقعي، والعكس بالعكس. والمتأنق (الداندي) في هذا العصر لا يستجيب للمجتمع البورجوازي، وإنما يستجيب للطبيعة التي يكشف عنها العلم، ولذلك كان أشد ما يلائم هذا التأنق المعاصر، هو الزخارف الشاذة والمحسنات البديعية.
ليست "الأناقة" أو الدانديزم هي قناعا فحسب، بل هي أسلوب وطريقة، أسلوب في المأكل والمشرب والهندام، وحتى في خصوصية الكلام اليومي المتداول. كذلك يقول "ستيفنز" فإنّ القصيدة هي أسلوب، والأسلوب هو الشاعر، وتغيير هذا الأسلوب يعني تغييرا في الموضوع، ومهما قلنا عن أسلوب شاعرنا فإنّه كان دائما "واقعيا" ولم يكن في حقيقة الأمر إلا مخلصا شديد الإخلاص للواقعية، حينما يغدو بالغ الأناقة.
إنّ للألفاظ عند "ستيفنز" قيمة كبرى بل هي عنصر أساس، إذ تحتشد على نحو غريب. ويوم كان الشعراء يحجمون عن استعمال الكلمات المألوفة واليومية، كانت عبارات "ستيفنز" مليئة بالألفاظ الحوشية والدخيلة والمولدة والبذيئة. وقد رفض شاعرنا الوضعية المنطقية كفلسفة، وحزن لأجل أولئك الذين يتحيزون ضد الكمال فيتطلبون لغة إنكليزية سهلة لكل مناسبة من المناسبات. وأعلن أنّ القصائد قد تتطلب لغة سرية، وإنّ ليس للشاعر ما يسمى بـ"الكلام المألوف" وإنّما القصائد تتألف من كلمات ملائمة في موضوع أو في مواضع ملائمة، ولذلك فإنّها قد تتطلب أحيانا أن يستعمل الشاعر لغة العامة من الناس، وأحيانا لهجات شعبية دارجة هي غاية في العذوبة، ولتكن بعض الكلمات المستعملة لاتينية أو أنكلوساكسونية، ذلك لن يهم، إنما المهم هو كما يقول والاس ستيفنز: "عندما أكون دقيقا، حينها فقط أكون شاعرا".