|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبدالرحيم قروي
2023 / 9 / 20
مؤلف "الحقيقة الغائبة"
للدكتور فرج فوذة شهيد العلمانية
الحلقة الثالثة
ولعلي لا أتحدث من فراغ ، بل أصدر عن واقع النظم الإسلامية المعاصرة في عالمنا الحديث ، فهناك بيعة أهل الحل والعقد ( المختارون ) في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد الأسرة المالكة ، وهناك المبايعة على كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقاً من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر ، في السودان في عهد النميري، وهناك ولاية الفقيه في إيران ، وهناك اعتبار الموافقة في الإستفتاء على الشريعة الإسلامية موافقة ضمنية على الحاكم واختياراً له في الباكستان ، وهناك في كل الأحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق ، وهو أن مدة تولية الحاكم في كل الأحوال السابقة مستمرة مدى حياته ، ولا عبرة في ذلك بأن البيعة على أساس الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله ، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك ، فما أكثر ما خالف ، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديماً كان أو حديثاً ، وحديث التاريخ في هذا ذو شجون بل قل ذو جنون ، سواء في تطرف الحاكم في خروجه على صحيح العقيدة أو تطرف الرعية في الخنوع لإرادته والخضوع لبطشه ، ولعل القارئ يلاحظ أنني قد تشددت في العبارات الأخيرة حتى أستلهم في ذهن دعاة الدولة الدينية رداً منطقياً بأن الشورى مانعة لبطش الحاكم ، حافظة لحق الرعية ، غير أني آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره يقود إلى مانع جديد هو الخلاف حول كنه الشورى ، وهل هي ملزمة للحاكم وهو رأي الأقلية أم أنها غير ملزمة له وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير ، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم .
لقد أدرك بعض المخلصين من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف ، وأن الديموقراطية بمعناها الحديث ، وهو حكم الشعب بالشعب لا تتناقض مع جوهر الإسلام وأن اجتهادات المؤمنين بالديموقراطية ، والتي تمخضت عن أساليب الحكم النيابي ، والانتخابات المباشرة ، لا يمكن أن تصطدم بجوهر العدل في الدين الإسلامي ، وروح الحرية التي تشمل ويشملها ، ومن أمثالهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالي ، لكنهم واجهوا تياراً كاسحاً من الرفض لما أملاه عليهم اتساع أفقهم ، وفهمهم لجوهر العقيدة الأصيل ، وانبرى زعماء التيارات الثورية والتقليدية في نقد الآراء وتفنيدها ، لا فرق في هذا بين معتدل أو متطرف ، ودونك ما نشر على لسان الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ عمر عبد الرحمن وهو في مجمله يرفض مقولة حكم الشعب بدعوى أن الحكم لله ، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما وجدت تناقضاً ، لكنهم يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن الأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله ، وأن التسليم بحق المجالس النيابية في التشريع سلب لحق إلهي ثابت ومقدس ، وهو كونه جل شأنه المشرع الأكبر والوحيد .
وأنها – أي الديموقراطية – قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي ، وهكذا أيها القارئ لا تنتهي عقبة أو مانع إلا وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد ، وهي كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون ، لأنها تفتح أمامهم باباً واسعاً للرأي وللاجتهاد دون خروج على صحيح الدين ، ودون تصادم مع روح العصر ، لكنها في الجانب الآخر تفزع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع ، وتضعهم بين شقي الرحى ، إن دارت يميناً طحنت برفض العصر ، وإن دارت شمالاً طحنت برفض العقل ، وإن سكنت أبقتهم حيث هم ، يهربون من الأصل إلى الفرع ، ويخفون منطقاً أواجههم به ، بل إن شئت الدقة أتحداهم به ، وهو أن الشريعة وحدها لا تستقيم وجوداً أو تطبيقاً إلا في مجتمع إسلامي أو بمعنى أدق دولة دينية إسلامية ، وأن هذه الدولة والجزئيات ، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به ، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا ، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية ، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار ، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير ، وليحدث لنا ما يحدث ، وليحدث للإسلام ما يحدث ، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيلاء ، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر ، وأن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر .
ثالثا : إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفوري للشريعة ، وهي قولهم بأن التطبيق ( الفوري ) للشريعة ، سوف يتبعه صلاح ( فوري ) لمشاكله ، وسوف أثبت لك أن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهناً بالحاكم المسلم الصالح ، وليس أيضاً رهناً بتمسك المسلمين جميعاً بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها ، وليس أيضاً رهناً بتطبيق الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً ، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك في حينها ، دليلي في ذلك المنطق وحجتي في ذلك وقائع التاريخ ، وليس كالمنطق دليل ، وليس كالتاريخ حجة ، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيماناً ، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين .
أنت أمام ثلاثين عاماً هجرياً ( بالتحديد تسعة وعشرون عاماً وخمسة أشهر ) هي كل عمر الخلافة الراشدة ، بدأت بخلافة أبي بكر ( سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام ) ثم خلافة عمر ( عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً ) ثم خلافة عثمان ( إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة عشر يوماً ) ثم خلافة علي ( أربع سنين وسبعة أشهر ) .
وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خلافة أبي بكر قد انصرفت خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية ، وأن خلافة علي قد انصرفت خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى ، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير في موقعة الجمل ، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه ، وأنه في العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها .
أضف إلى ذلك قصر عهد الخلافتين ، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعشرة أشهر ، ويبقى أمامك عهد عمر وعهد عثمان ، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام الدولة في أزهى عصور الإسلام إسلاماً ، وأحد العهدين عشر سنين ونصف ( عهد عمر ) ، والثاني حوالي أثنى عشر عاماً ( عهد عثمان ) ، وهي فترة كافية لكل من العهدين لكي يقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون ، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه ، والاثنان مبشران بالجنة ، وللأول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في نصرة الإسلام وإعلاء شانه ، وهي مواقف لا تشهد بها كتب التاريخ فقط ، بل يشهد بها القرآن نفسه ، حين تنزلت بعض آياته تأييداً لرأيه ، وهو شرف لا يدانيه شرف ، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود ، ويكفيه فخراً أنه زوج ابنتي الرسول ، هذا عن الحاكم في كل من العهدين .
أما عن المحكومين ، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته لا تحدث واقعة إلا تمثل أمامهم للرسول فيها موقف أو حديث ولا يمرون بمكان إلا وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه ولا تغمض أعينهم أمام المنبر إلا وتمثلوا الرسول عليه قائماً ولا يتراصون للصلاة خلف الخليفة إلا وتذكروا الرسول أمامهم إماماً ، وهم في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت الآية ، وأين ، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل ، وباختصار يعيشون في ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب ، هذا عن المحكومين ، ولا يبقى إلا الشريعة الإسلامية وهي ما لا يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين .
بل أنك لا تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك ، كان أزهى عصور تطبيقها لأنها لزوم ما يلزم في ضوء ما سبق أن ذكرنا بشأن الحاكم والمحكوم ، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها ، فسعد المسلمون به ، وصلح حال الدولة على يديه ، وترك لمن يليه منهجاً لا يختلف أحد حوله ، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذ استشهدنا به ، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه ، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه ، إما عزلاً في رأي أهل الحجى ، أو قتلاً في رأي أهل الضراب ، واهتزت هيبته في نظر الرعية إلى الحد الذي دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر ، أو التصغير من شأنه بمناداته ( يا نعثل ) نسبة إلى مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثلاً وكان عظيم اللحية كعثمان ، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة ، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله ، حيث يروي عن عائشة قولها : اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً ، وهي كلها أمور لا تترك لك مجالاً للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته ، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة .
يتبع
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |