|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
جعفر المظفر
2023 / 9 / 18
في ضيافة المدافع ... ذكريات الأيام الساخنة (4)
استهداف مسيرة التشييع
بعد اختتام الجلسة الإفتتاحية لمؤتمر الطلبة الآسيويين الذي انعقد في الجامعة المستنصرية في الأول من نيسان عام 1980 والتي تأخر انعقادها بسبب حادث الإغتيال الذي استهدف نائب رئيس الوزراء طارق عزيز والذي كان في نيته الحضور ممثلاً عن رئيس الجمهورية, انتقل عمل المؤتمر كما كان مخططاً له إلى المدينة السياحية في الحبانية حيث كان مُزمعاً أن يستمر لمدة يومين تقضي بعدها الوفود أياماً عدة في تلك المدينة التي صارت لفترة من أجمل وأفضل المرافق السياحية في العراق. ولقد تنسب وقتها أن أتواجد مع أخي مؤيد شفيق العضو الآخر في مكتب الطلبة والشباب القومي كممثلين عن المكتب الذي أنيطت به مهمة الإشراف العام على ذلك المؤتمر.
في المساء جاء من يخبرنا أن مسيرة تشييع حاشدة لضحايا الحادث الإرهابي قد تقرر خروجها في اليوم الثاني الذي أعقب يوم جريمة الاغتيال على أن تبدأ من مكان الحادث, أي بوابة الجامعة المستنصرية, وصولاً إلى ملعب الكشافة في الوزيرية حيث سيلقي ممثل الحزب عضو القيادة القطرية حكمت العزاوي كلمة القيادة لتأبين الشهداء والتضامن مع الجرحي وإدانة حادثة التفجير.
سريعاً ودون أي تردد قلت لأخي مؤيد شفيق : علينا أن نكون ضمن المشيعين, وحين أخبرني أننا مُنسبّين من قبل الحزب لحضور المؤتمر وسيكون من الأفضل لو أننا بقينا في المدينة السياحية أخبرته أن حضورنا إضافة إلى كونه واجباً يقتضيه ظرف المناسبة فهو سيقطع دابر الأقوال التي قد تنال منا بدعوى أننا فضلنا النأي بأنفسنا عن المشاركة في تظاهرة التشييع. وليس من باب الإدعاء أن أقول أن قلبي كان أخبرني وقتها أن المسيرة سوف لن تُتْرك لِتمر بسلام وانها قد تتعرض هي أيضاً إلى أخطارٍ شبيهة لما حدث قبل يومين. ولم يكن الرجل بحاجة إلى مزيدٍ من الإقناع. لقد وافق على اقتراحي بعد أن لمس رغبتي الشديدة واقتنع بما ذكرته له.
في الصباح الباكر من يوم 3/4/1980 ركبنا سيارتي واتجهنا نحو جامعة المستنصرية حيث المسافة بينها وبين المدينة السياحية لا تتجاوز سوى الساعة بقليل. وحالاً اتجهنا بعدها لنسير ضمن الصف الأول لمسيرة التشييع الحافلة بحشود طلابية جرت تعبئتها من أجل المشاركة, وكان النعشان قد وضعا على سيارتي اسعاف أعدتا لهذا الغرض, بينما ضم صف المسيرة الأول عضوي القيادة القومية للحزب قاسم سلام اليمني الجنسية والسوداني بدر الدين مدثر إضافة إلى أعضاء من المكاتب القيادية للحزب أتذكر منهم الدكتور أموري اسماعيل عميد كلية التربية الرياضية والدكتور هاشم جابر رئيس الجامعة المستنصرية والسيد محمد دبدب رئيس الإتحاد الوطني لطلبة العراق الذي ترك سريره في المستشفى بعد أن كان أصيب في حادثة الإغتيال بجروح طفيفة لم تمنعه من المشاركة بمسيرة التشييع.
لم يكن احتمال أن تتعرض المسيرة إلى تفجيرٍ مشابه مستبعداً, لكن كان من الصعب تصور أن القنبلة سوف تلقى من حديقة المدرسة الإيرانية. المدرسة نفسها كان جرى اغلاقها قبل شهر تقريباً من جريمة المستنصرية بعد أن تشنجت العلاقات مع إيران وبعد أن تأكدت نيات حزب الدعوة اشعال الجبهة الداخلية انسجاماً مع التصعيد الإيراني تحت عنوان تصدير الثورة الإسلامية لتشمل كل الأراضي العربية المجاورة وبدايةً من العراق.
وإذا ما اتفقنا على أن المكان الذي ألقيت منه القنبلة يثير الشكوك حول امكانية أن يكون الأمر مدبراً من قبل الجهات العراقية نفسها لكون المدرسة الإيرانية كانت مغلقة قبل شهر من الحادثة وأنها كانت خاضعة لحراسة ومراقبة أمنية عراقية مشددة فإن التصعيد الإيراني الذي تجلى من خلال قرع طبول الحرب واستهداف المدن العراقية الحدودية بقذائف المدفعية الثقيلة إضافة إلى جملة من حوادث العنف التي قام بها حزب الدعوة في داخل العراق والتي بدت كاستجابة لنداء تصدير الثورة لن يتقاطع مع احتمال وقوع عمليات انتحارية على هذه الشاكلة بل لعلها كانت تنسجم مع ميول حزب الدعوة لتفجير الوضع العراقي الداخلي.
وستكفل لنا العودة إلى النداء الذي وجهه الأب الروحي لذلك الحزب (محمد باقر الصدر) قبل إعدامه داعياً فيه عموم الشيعة إلى أن (يذوبوا في الإمام الخميني), فرصة قراءة الموقف بما لا يستبعد مسؤولية الدعوة عن قنبلة التشييع. وما قد يجعل هذا الإحتمال قائماً أن الخميني نفسه كان طلب من محمد باقر الصدر في رسالة مذاعة البقاء في العراق لغرض قيادة الثورة ضد النظام البعثي.
ويوم تزداد الشكوك بإمكانية ان تكون الحادثة من تدبير عراقي فإن هذه الشكوك يجب أن لا تُستقطع من سياق حالة التصعيد العامة والمسؤول عنها بشكل كبير الجانب الإيراني ذاته. وإذا ما قيل بعد ذلك كله أن صدام حسين كان خطط لشن هجومه الإستباقي ضد إيران وصار من الصعب قراءة الأمور من خارج شخصيته القمعية الميالة للاستباق فإن من العدالة أن يوضع ذلك ضمن سياق حالة التعبئة الإيرانية التي غذت كثيراً حالة التوجس الصدامية وصاعدت حساباته الإستباقية.
إن كثيراً من الأراء والأحكام الهامة التي تتعلق بشان تلك الحرب سوف ياتي لاحقاً, وسأتركها إلى حينه, لكن عودة إلى مسيرة التشييع سوف تذكرني أن القنبلة كانت قد ألقيت من المدرسة الإيرانية المغلقة والمحروسة أمنياً بشكل جيد أو من المنطقة الملاصقة لها وإن من شأن ذلك أن يزيد الشكوك بامكانية أن تكون لقوى الأمن العراقي دوراً في عملية التفجير , إذ ما أن تجاوز النعشان والخط الأول لمسيرة التشييع الذي كنت أسير إلى اليمين منه حتى سمعت صوت طارق القنبلة اليدوية أثناء فصله, بينما صاح الأخ (واثق مجيد) الذي كان يسير خلف الخط الأول بأعلى صوته (قنبلة.. قنبلة).
أصابت شظايا الإنفجار العديدين ممن كانوا في الصف الأول ما عدا أولئك الذين اسعفهم الحظ حين كان موقع انبطاحهم إلى الخلف من يمين الخط الأول, ولقد كنت منهم ولم أصب باذى ما عدا بعض جراح في ركبتيْ الساق من أثر السقوط.
كيف نجوت ؟ لا أدري ولن أجد تفسيراً غير ذلك الذي يتكأ على الحظ وحده !. وحينما سألت الدكتور هاشم جابر عن المكان الذي انفجرت فيه القنبلة أجابني ضاحكاً : لو كنتَ مشيتَ نصف خطوة إلى الأمام لدست عليها.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |