![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
أحمد رباص
2023 / 9 / 18
نحت تأثير كارثتي الزلزال والفيضان اللتين ضربتا على التوالي وبشكل متزامن بلدين عربيين مغاربيين (المغرب وليبيا)، قلت في قرارة نفسي: كيف قاربت الفلسفة إشكالية الكوارث؟ لمحاولة إيجاد جواب عن هذا السؤال، عثرت على مقال بالعنوان أعلاه كتبه فلوران بوسي الحاصل على دكتوراه في الفلسفة. كان مدرسا لهذه المادة في المدرسة الثانوية، قبل أن يتم تعيينه محاضرا في جامعة روان الفرنسية (2006-2013). ألف العديد من الكتب ونشر العديد من المقالات ويتعاون حاليا مع مجلة “Les Zindigné(e)s”، التي يديرها بول أريس.
المقال (تتمة):
نحن نعيش في زمن خيالي. ليس لأننا تحررنا من الندرة والمعاناة والموت، ولكن لأن أنماط حياتنا (من الواضح أن هناك تفاوتات خطيرة في هذا المجال) تجعلنا نحتقرها. لقد أصبح الاستهلاك أفيون الإنسانية، مسكنا ومخدرا في آن واحد. الكوارث القادمة ستكون أكثر صعوبة لأننا بذلنا كل ما في وسعنا لإنكارها، وبالتالي لم نكن مستعدين لها.
للقيام بذلك، علينا أن نبدأ بالتخلي عن خيال قدرتنا المطلقة. ومع ذلك، نعتقد أننا قد حللنا تناقضات الحالة الإنسانية، واندرج الخيال في أنماط حياتنا، وتغلغل بعمق في أحشائنا، في معتقداتنا، عاداتنا، وقيمنا. من الملك الطفل إلى معجزات الطب، من التقنيات المبتكرة (تقنيات النانو مليئة بالأوهام بشكل خاص، لأن الأمر يتعلق بأن يصير الإنسان سيد الوجود من قلبه) إلى نمو الاستهلاك، من تقدم العلاقات الإنسانية التي مكنتها التقنيات الجديدة للإعلام والاتصال إلى وعود بالطاقة النظيفة بلا حدود الناتجة عن الاندماج النووي، تبقى خيالاتنا هي التي ينبغي مهاجمتها. لكن ألا يعني هذا التخلي عن التقدم الذي يستفيد منه الجميع؟
يتمثل المطلب الفلسفي في عدم الانخدع بمظاهر نهاية التاريخ، والسعادة والسلام العالميين، والإنسانية كجنس آل أخيرا إلى ذاته. ذلم أن خيالاتنا تكلف ثمناً باهظاً: تفاوتات متزايدة، كوارث بيئية، عدم التضامن بين الأجيال، فقدان الموجهات. ولا نستطيع أن ننكر التقدم الذي نستفيد منه، ولكن من واجبنا اليوم أن نفهم حدوده وآثاره السلبية، بدلا من أن ننظر إليه على أنه شرط لفردوس جديد على الأرض. للقيام بذلك، سيكون من الضروري إعادة اكتشاف معنى الحدود، التي سكنت بالضرورة تاريخ البشرية بأكمله حتى وقت قريب جدا.
لقد سمحت لنا الأوهام التي تبثها الأنظمة الشمولية برؤية الكوارث التي يمكن أن يؤدي إليها غياب الإحساس بالحدود. كما ظل الإرهاب النووي ــ خيال إبادة الآخرين ــ يهدد البشرية لعدة عقود من الزمن. اليوم أصبحت الكوارث «ديمقراطية»، تهم الجميع والكل يساهم فيها. إن "إعادة اكتشاف الإحساس بالحدود" يعني أننا قادرون على استعادة السيطرة على مصيرنا.
من أجل جعل وجودهم ممكنا، استمر الناس، منذ بداية تاريخهم، في تنظيم العالم: تكنولوجيا، أخلاق، سياسة، دين، علوم، واقتصاد، كل ذلك شكل بمجموعه الثقافة. بل على العكس من ذلك، فإن الطريقة التي ساهمت بها التكنولوجيا والاقتصاد اليوم في تهميش الأبعاد الأخرى لوجودنا، أدت إلى تجريدنا من أسلحتنا في مواجهة وضعنا، الذي نتمرد عليه دون أن نعرف كيف نتكيف معه. الآن، هذه الوضع، إذا لم يحكم علينا بشكل لا راد له بالتعاسة والعوز، فإنه يمنعنا مع ذلك من الاعتقاد بأننا يمكن أن نتحرر منه نهائيا.
إن "إعادة اكتشاف معنى الحدود" يعني استعادة انتمائنا إلى الطبيعة. الطبيعة هي اللامفكر فيه في الحداثة، ما يتم إنكاره باستمرار، يعني ذلك، كما عرفنا من فرويد، المعروف والمنكر. الإنكار هو تعبير عن الرغبة اللاواعية في القدرة المطلقة، وله نظيره في الفتيشات، التي تحقق الخيال، هنا فتيشات التكنولوجيا والأنسنة الكاملة للطبيعة.
في ختام كتابها "أصول الشمولية"، كتبت حنة أرندت: "إن النتيجة الكارثية الأولى لوصول الإنسان إلى مرحلة النضج هي أن الإنسان الحديث أصبح مستاءً من كل ما وهب له، حتى وجوده الخاص - مستاءً من حقيقة أنه ليس خالق نفسه ولا خالق الكون. […] إن البديل لهذا الاستياء، وهو الأساس النفسي للعدمية المعاصرة، سيكون امتنانا أساسيا للأشياء الأولية القليلة التي تُمنح لنا حقا ودائما، مثل الحياة نفسها، ووجود الإنسان والعالم". (Hannah Arendt, « En guise de conclusion », in Les Origines du totalitarisme. Eichmann à Jérusalem, édition de P. Bouretz, Paris, Gallimard « Quarto », 2002, p. 872)
نحن نتعامل مع نفس البديل: إما الاستياء من وضعنا، الذي يحكم علينا بكوارث غير مسبوقة، لأننا نمتلك الوسائل التقنية لتعطيل العالم بطريقة غير مسبوقة، أو الامتنان لاحترام الوجود، الذي يشكل بقية أخيرة من الحكمة الإنسانية والذي يتيح لنا أن نفكر في علاقتنا بالحياة بخلاف الحرب ضد الطبيعة، ضد العالم، ضد محدوديتنا.
في كتاب آخر بعنوان "وضع الإنسان الحديث"، تقول أرندت: "هذا الإنسان المستقبلي، الذي سينتجه العلماء، كما يقولون لنا، في ما لا يزيد عن قرن من الزمان، يبدو فريسة للثورة على الوجود الإنساني، كما هو معطى، هدية لا نعرف من أين جاءت (علمانيا) والذ يريد، إذا جاز التعبير، أن يستبدله بعمل من صنع يديه. ليس هناك سبب للشك في أننا قادرون على إجراء هذا الاستبدال، تماما كما لا يوجد سبب للشك في أننا قادرون الآن على تدمير كل أشكال الحياة العضوية على الأرض. والسؤال الوحيد هو ما إذا كنا نرغب في استخدام معرفتنا العلمية والتقنية الجديدة في هذا الاتجاه، وهذا لا يمكن تحديده بالطرق العلمية. إنها مسألة سياسية أولية، وبالتالي، لا يمكن تركها لمحترفي العلم أو للعاملين في السياسة". ( Hannah Arendt, Condition de l’homme moderne, trad. G. Fradier, Paris, Calmann-Lévy, 1961, rééd. Presses Pocket « Agora (1988, p. 35
لقد تحولت السياسة تدريجيا إلى إدارة الشؤون الإنسانية، متخلية عن الأسئلة الأساسية (ماذا يعني العيش المشترك؟ ماذا نريد؟). وفي الوقت الحالي، يبدو الأمر الأساسي في مكان آخر، لأن الساسة تخلوا إلى حد كبير عن قدرتهم على العمل، لصالح الخبراء وكبار رجال الأعمال. ومع ذلك، فإن إعادة اكتشاف الإحساس بالحدود والامتنان تجاه الوجود هو قبل كل شيء إعادة اكتشاف السياسة، التي يتأكد الناس من خلالها بشكل مشترك بمحدوديتهم.
الرابط: https://journals.openedition.org/leportique/2013
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |