كارل ماركس والرياضيات/ 2

حسين علوان حسين
2023 / 9 / 16

ملاحظة المترجم: [الأقواس الكبيرة] لي، لطفاً.
"بالرغم من أن الفلسفة التجريبية قد أستمرت كاتجاه سائد في أوساط علماء الطبيعة بشكل عام، إلا أن من الواضح جدًا أن التجريبية هي نظرية ميؤوس منها للمعرفة في الرياضيات، لذا فهي فلم تشغل سوى مكانة ثانوية في هذا الحقل. وفوق هذا، وبالرغم من اشتمالها على كل التناقضات المتأصلة في الكانطية، ومرورها بعدد من المراحل المهمة، إلا أن فلسفة الرياضيات بقيت تسجن نفسها داخل إسار الكانطية، ولم تتمكن أبدًا من دمج مكاسب فلسفة هيجل في داخلها. لقد تم الرد بالمثل على موقف هيغل الساخر من الرياضيات [كدالة خارجية عن طبيعة الأشياء] من طرف أهم علماء الرياضيات.
إذن، فمن شأن دراسة فلسفة الرياضيات أن تعطي للماركسية النصر الحاسم في نضالها ضد الكانطية: ملجأ معظم التحريفيين المناهضين للماركسية. وأهم المصادر في هذا الحقل - عدا المؤلفات الرياضية الكلاسيكية والمعاصرة و مخطوطات ماركس الرياضية- هي كتاب "رأس مال" لماركس؛ وعلى على وجه الخصوص الأقسام الثلاثة الأولى من مجلده الأول: (1. العاملان في السلعة: القيمة الاستعمالية والقيمة [التبادلية] ؛ 2. الطابع المزدوج للعمل المتجسد في السلع؛ و 3. شكل القيمة). وهناك أيضاً وبعض الأعمال السوفيتية المعاصرة بهذا الخصوص [تاريخ هذه المقالة هو عام 1984] ، خاصة تلك التي كتبها أيفالد إلْيَنكوف والتي تشير بشكل ضئيل إلى الرياضيات، ولكنها تقدم عناصر مهمة لتحليلنا.
من أهم القوى المحركة للأزمة في أسس الرياضيات هي ظهور التناقضات المنطقية الصورية في نظرية المجموعات وكذلك في المنطق الشكلي. وكما هو الحال مع كل العلوم البرجوازية، فإن جميع علماء الرياضيات يعتقدون بأن تجنب التناقض هو السمة الأساسية للرياضيات. ورغم سطوع عدم مناسبة مثل هذا الموقف لفلسفة الرياضيات، إلا أن من الغباء استبعاده ببساطة. ويكفي ان نقول أنه إذا ما أردنا – مثلاً – إدخال العبارة "2 = 1" ضمن العبارات الحسابية القائمة، فإن كل البنية الرياضية المفيدة سابقًا ستنهار إلى مجرد كتلة عديمة الفائدة من فقدان التحديد.
الأمر المطلوب هو تطوير علم التناقض - الديالكتيك - وتطبيقه في الرياضيات بحيث يبين كيف أن التناقض الشكلي هو حالة خاصة من حالات التناقض الجدلي. المسألة الأساسية لا تتمثل في تجنب التناقض [مثلما يفعل بعض أساطين الرياضيات]، وانما في تعلم كيفية التعامل مع هذا التناقض؛ كيفية استخدام التناقض باعتباره: "المبدأ لكل حركة ذاتية"؛ وكيفية اكتشافه التناقض داخل جوهر الأشياء من أجل بناء ووعي تجسيد المفاهيم الجديدة في سياق حل هذه التناقضات.
هل يعني هذا أنه يجب على الديالكتيك - الذي هو نظرية التطور- أن يترك المنطق الصوري سليمًا في تجنبه للتناقض الشكلي، وأن الديالكتيك في تجنبه لهذا "التناقض" هذا سيتخلى عن ميزة كونه مختلفاً عن المنطق الشكلي؟
بالتأكيد، لا. صحيح أن الديالكتيك هو نظرية التطور، أي نظرية المعرفة، في حين أن المنطق الصوري لا يمكن أن يكون أبداً نظرية للمعرفة؛ ولكن الديالكتيك هو أيضاً النظرية للمنطق الجدلي، إنه الدليل لاستنتاج حقائق جديدة أكثر واقعية.
الطابع المزدوج للكيانات الرياضية
إحدى المشاكل التي تواجه المنطق الشكلي هي تفسير كيف أن مبادلة عبارة بعبارة أخرى، مكافئة لها، تؤدي إلى معرفة جديدة لم تكن موجودة من قبل. لا يمكن تفسير هذا التطور إلا من خلال اكتشاف التناقض الموجود داخل كل عبارة. إن التطبيق الصارم للحظر المنطقي الشكلي على التناقض من شأنه أن يؤدي إلى إنكار التطور؛ فالمنطق الديالكتي لا يشرح فقط الكيفية التي تنشأ بها هذه المعرفة الجديدة، بل يبين أيضاً مسارها. لقد واجه الاقتصاد السياسي البرجوازي نفس هذه المشكلة في تفسيره لكيفية نشوء الربح في سياق تبادل السلع ذات القيمة المتساوية. وقد أدى تطبيق ريكاردو لنظرية قيمة العمل لحل هذه المشكلة إلى التناقضات. في حين أدت محاولات أتباعه لتخليص الاقتصاد السياسي من هذه التناقضات إلى تدمير المحتوى العلمي لأعمال ريكاردو. أما ماركس، من ناحية أخرى، فقد استطاع من خلال تطبيقه الواعي للديالكتيك أن يخلق "رأس المال".
إن الذي مكَّن ماركس من التوضيح الجدلي لقوانين حركة الرأسمالية إنما هو اكتشافه للتناقض الكائن في جوهر العلاقة الأبسط والأكثر عالمية للمجتمع الرأسمالي، ألا وهي تبادل السلع – أي الطابع المزدوج للسلعة نفسها: قيمتها الاستعمالية وقيمتها التبادلية. لقد أظهر ماركس كيف أن نمط الإنتاج الرأسمالي برمته انما ينشأ من هذه الجرثومة، وكيف تجلت وحدة الاتجاهات المتعارضة والمتضاربة داخل السلعة إلى الصراع بين نمط الإنتاج الرأسمالي ووسائل الإنتاج، مما أدى إلى الأزمة التاريخية للنظام الرأسمالي.
إن الكيانات الرياضية - أي تلك المفاهيم الرياضية التي يشار إليها في اللغة الرياضية بنفس المعنى النحوي الذي نشير إليه بالأشياء، الأشياء الموجودة خارجياً - ليست صوراً ذهنية، بمعنى الصورة الحسية المستمدة من التجربة. على سبيل المثال، فإن مفهوم «المثلث» (حتى لو كان مرتبطًا من الناحية النفسية بصورة بصرية معينة) ليس هو مثل أي صورة حسية، ولا يمكن أبدًا، على هذا النحو، أن يكون موضوعًا للتجربة. وبالمثل، لا يمكن أبدًا تجربة الرقم "3". لا يمكن لأي من "المثلث" أو "3" أن يكون لهما الوجود المستقل في العالم المادي. لا يمكن أن توجد سوى الكائنات المثلثة والأشياء ذات رقم ثلاثة في العالم المادي. ولا يمكن أن يوجد المفهوم النظري المجرد لـ"المثلث" و لا "3" أبدًا قبل أو بشكل منفصل عن الوجود الفعلي لمثل هذه الأشياء وفي التماثل المادي مع عدد لا يحصى من الخصائص والترابطات الأخرى للأشياء المعنية. ومع ذلك، فإن لها أساسها في الطبيعة. ولا فرق بين ما إذا كان هذا الكيان، أو المفهوم الرياضي، يُشار إليه بكلمة من اللغة الإنجليزية أو بالرمز، مثل الرقم طبيعي أو الرمز لنظرية المجموعات. إن معنى هذا الرمز يكمن في ترابطه مع الممارسة الإنسانية بأكملها كجزء من الطبيعة. كل رمز من هذا النوع هو المستودع لذرة من المعرفة الإنسانية، المرتبطة بطريقة أو بأخرى بالممارسة الموضوعية المتمثلة في تغيير الإنسان للطبيعة وفقًا لقوانين الطبيعة. وكل كيان أو رمز أو مفهوم رياضي هو نقطة عقدية في هذه الشبكة التي تربط بين الإنسان والطبيعة. إن التقسيم الاجتماعي للعمل، الذي أدى إلى الفصل بين الممارسة النظرية والنشاط المادي العملي، يحجب عن الأنظار العلاقة التي لا تحصى تعدداتها القائمة بين المفاهيم الرياضية والطبيعة، وهو الذي يغلف القوانين التي تحكم هذه العلاقة بالأسرار.
إن معنى الرمز الرياضي هو أولاً كيفية استخدامه في الممارسة النظرية - النشاط الاجتماعي المحدد لعلماء الرياضيات - ولكن معناه في النهاية مرتبط دوماً بكيفية استخدامه في سيرورة العمل بأكملها. إن الرموز والمعادلات المختلفة، إلخ. التي يستوعبها عالم الرياضيات بشكل نقدي عندما يتعلم كيفية استخدامها، هي الحامل لتاريخ كامل متراكم من العمل البشري، وهي تفقد كل معناً لها إذا ما تم فصلها عن تلك الممارسة. وهذه الممارسة الاجتماعية، في مجملها، كانت موجودة قبل عمل أي فرد. وقد يخلق هذا الوهم بكون الكيانات الرياضية موجودة قبل وجود البشرية ومستقلة عنها. وعلى الرغم من أن هذه الكيانات لها أساس في الطبيعة، إلا أنها لا توجد خارج سيرورة العمل التي أدت إلى ظهور الرياضيات كعلم خاص."

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي