من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 44

عبدالرحيم قروي
2023 / 9 / 14

خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي
فريدريك إنجلس
الحلقة الثالثة

القيمة هي أقرب مقولة تشترطها التجارة. وبصدد هذه المقولة، كما بصدد جميع المقولات الأخرى، لا يوجد أي جدال بين الاقتصاديين القدماء والاقتصاديين الجدد، لأنه لم يبق لدى أنصار الاحتكار الذين استحوذ عليهم مباشرة ولع الإثراء أي وقت للاهتمام بالمقولات. إن جميع المجادلات بصدد هذا الضرب من المسائل قد انطلقت من الاقتصاديين الحديثين.
إن الاقتصادي الذي يدرس المتضادات يتعامل بالطبع مع قيمة مزدوجة: القيمة المجردة، أو الفعلية والقيمة التبادلية. وحول جوهر القيمة الفعلية نشب جدال مديد بين الإنجليز الذين اعتبروا تكاليف الإنتاج تعبيراًُ عن القيمة الفعلية، وبين الفرنسي ساي الذي أكد أن هذه القيمة تقاس بمنفعة الشيء. وقد امتد الجدال من أوائل هذا القرن وهدأ دون أن يلقى حلاً. فإن الاقتصاديين لا يستطيعون أن يحلوا شيئاً.
وهكذا يؤكد الإنجليز – وبخاصة ماك – كولوخ وريكاردو – إن قيمة الشيء المجردة تحددها تكاليف الإنتاج. لاحظوا – القيمة المجردة، وليس القيمة التبادلية، exchangeable value القيمة في التجارة، التي هي، على حد قولهم، شيء يختلف تماماً عن القيمة المجردة. لماذا تكون تكاليف الإنتاج مقياس القيمة؟ لأن أحداً – اسمعوا، اسمعوا! – لن يقدم – في الظروف العادية، وإذا طرحنا المزاحمة جانباً – على بيع شيء ما أرخص مما يكلفه إنتاجه. لن يقدم على البيع؟ ولكن الكلام هنا لا يتناول القيمة التجارية، - وما شأننا و""البيع""؟ ومع هذا الأخير، تظهر حالاً من جديد على الحلبة التجارة التي اتفقنا على طرحها جانباً – وأية تجارة! – تجارة يتعين عليها أن لا تأخذ بالحسبان الأمر الرئيسي، - المزاحمة! في البدء، كانت أمامنا القيمة المجردة، والآن أمامنا بالإضافة التجارة المجردة، التجارة بدون المزاحمة، أي إنسان بدون جسد، فكر بلا دماغ يخلق الفكر. أفلا يخطر البتة في بال الاقتصادي أنه ما دامت المزاحمة قد طرحت جانباً، فلا ضمانة البتة من أن يبيع المنتج بضاعته حسب تكاليف الإنتاج على وجه التدقيق؟ فيا للتشويش!
لنواصل! لنفترض لحظة أن كل هذا كما يقول الاقتصادي. لنفترض أن شخصاً ما صنع، ببذل قدر كبير من العمل، وبنفقات بالغة، شيئاً غير نافع إطلاقاً، ولا يلقى طلباً من أي امرئ، - فهل هذا الشيء جدير بتكاليف الإنتاج؟ يجيب الاقتصادي: كلا إطلاقاً، ومن ذا الذي يرغب في شرائه؟ ومن هنا ينجم أننا هنا نواجه دفعة واحدة، لا منفعة ساي السيئة الشهرة وحسب، بل أيضاً مع ""البيع"" – المزاحمة. ينشأ وضع مستحيل، وليس بمقدور الاقتصادي أن يبقى للحظة واحدة وفياً لتجريده. وليست المزاحمة التي يحاول ببالغ الجهد أن يستبعدها وحسب، بل المنفعة التي يهاجمها أيضاً، تقتحمان تحليله خلسة في كل لحظة. إن القيمة المجردة وتحديدها بتكاليف الإنتاج ليسا على وجه الضبط إلا من التجريدات، من الأوهام.
ولكن لنفترض أيضاً للحظة أن الاقتصادي على حق، فبأي نحو يفكر، والحالة هذه، في نحديد تكاليف الإنتاج إذا لم يأخذ المزاحمة بالحسبان؟ إننا سنرى عند دراسة تكاليف الإنتاج أن هذه المقولة أيضاً ترتكز على المزاحمة. وهنا سيتكشف من جديد إلى أي حد يعجز الاقتصادي عن عرض مزاعمه بانسجام وتتابع.
وإذا انتقلنا إلى ساي، فإننا نجد التجريد نفسه. فإن منفعة الشيء أمر ذاتي بحت، يستحيل البتة تحديده بشكل مطلق، يقيناً إنه يستحيل تحديدها عل الأقل ما دام الناس لا يزالون يتخبطون في المتضادات. وحسب هذه النظرية ينبغي أن تملك أشياء الضرورة الأولى قيمة أكبر من أشياء البذخ. إن المزاحمة في ظل سيادة الملكية الخاصة هي السبيل الممكن الوحيد الذي يؤدي إلى حل موضوعي نوعاً ما، عام على ما يبدو، بصدد منفعة الشيء بهذا القدر أو ذاك، بينما المزاحمة بالذات هي التي يجب طرحها جانباً. ولكن ما أن تجاز علاقات المزاحمة حتى تظهر تكاليف الإنتاج معها، لأن أحداً لن يقدم على البيع بأرخص مما أنفقه على الإنتاج. ولذا يتحول جانب من التضاد إلى الجانب الآخر هنا أيضاً، سواء شاؤوا أن أبوا.
لنحاول أن نحمل الوضوح إلى هذا التشويش. إن قيمة الشيء تنطوي عل عاملين يفرقان بالعنف، وعبثاً، كما رأينا، بين الأطراف المتجادلة. فإن القيمة هي النسبة بين تكاليف الإنتاج والمنفعة. واللجوء المباشر إلى القيمة يجري عند حل مسألة ما إذا كان ينبغي إنتاج الشيء المعني على العموم، أي ما إذا كانت منفعته تغطي تكاليف الإنتاج، بعد هذا فقط، يمكن أن يتناول الكلام اللجوء إلى القيمة لأجل التبادل. فإذا كانت تكاليف إنتاج شيئين واحدة، فإن المنفعة ستكون العنصر الحاسم في تحديد قيمتها المقارنة.
وهذا الأساس هو الأساس الصحيح الوحيد للتبادل. ولكن إذا انطلقنا منه، فمن ذا الذي سيحل مسألة منفعة الشيء؟ هل مجرد رأي المشتركين في التبادل؟ آنذاك سيكون طرف واحد على كل حال مخدوعاً. أم يجب أن يكون ثمة تعريف يرتكز على المنفعة الملازمة للشيء بالذات، - تعريف لا يتوقف على الأطراف المشتركة ويبقى غير واضح بالنسبة لهم؟ آنذاك لا يمكن أن يتحقق التبادل إلا قسراً. ويعتبر كل مشترك في التبادل نفسه مخدوعاً. فبدون القضاء على الملكية الخاصة يستحيل القضاء على هذا التضاد بين المنفعة الفعلية الملازمة للشيء نفسه، وبين تحديد المنفعة، بين تحديد المنفعة وبين حرية المشتركين في التبادل؛ وحين يتم القضاء على الملكية الخاصة، فلن يبقى من الممكن التحدث عن التبادل في الصورة التي يتواجد بها الآن. إن التطبيق العملي لمفهوم القيمة سيقتصر أكثر فأكثر آنذاك على حل مسألة الإنتاج، وهذا هو ميدانه الحقيقي.
فما هو وضع الأمور الآن؟ لقد رأينا أن مفهوم القيمة ممزق بالعنف، وأن كلاً من جوانبه يُصور بطبل وزمر بصورة الكل. إن تكاليف الإنتاج التي تشوهها المزاحمة منذ بادئ بدء يجب أن تضطلع بدور القيمة بالذات، والدور نفسه يجب أن تضطلع به المنفعة الذاتية البحتة، لأنه لا يمكن أن تكون ثمة الآن أية منفعة أخرى. ولمساعدة هذين التعريفين الأعرجين في الوقوف على أقدامهما، من الضروري أخذ المزاحمة بالحسبان في الحالتين. والأطرف هنا هو أ، المزاحمة تشغل عند الإنجليز، عندما يتحدثون عن تكاليف الإنتاج، مكان المنفعة، بينما عند ساي، على العكس، تحمل المزاحمة معها تكاليف الإنتاج حين يتحدث عن المنفعة. ولكن أي منفعة، أي تكاليف إنتاج تحملها! إن منفعتها تتوقف على الصدفة، على الموضة، على تقلبات أهواء الأغنياء، وتكاليف إنتاجها ترتفع وتهبط بحكم العلاقة الصدقية بين الطلب والعرض.
في أساس الفرق بين القيمة الفعلية والقيمة التبادلية يقوم هذا الواقع بالذات، وهو أن قيمة الشيء تختلف عما يٌسمى بالمعادل الذي يُعطى عنه في التجارة، أي أن هذا المعادل ليس معادلاً. إن ما يسمى بالمعادل هو ثمن الشيء؛ وإذا ما كان الاقتصادي مستقيماً لاستعمل هذه الكلمة عوضاً عن ""القيمة التجارية"". ولكن لكي لا تفقأ لاأخلاقية التجارة العين أكثر من اللزوم، لا يزال يتعين على الاقتصادي أن يحتفظ ولو بظل مظهر واقع أن الثمن يرتبط بشكل ما بالقيمة. أما أن الثمن يحدده تفاعل تكاليف الإنتاج والمزاحمة، فإن هذا صحيح تماماً، وهذا قانون الملكية الخاصة الرئيسي. وهذا القانون التجريبي الصرف إنما هو أول قانون وجده الاقتصادي؛ ومن هنا جرّد فيما بعد قيمته الفعلية، أي الثمن الذي يتقرر عندما تتساوى فيه علاقة المزاحمة، عندما يغطي الطلب والعرض أحدهما الآخر. وعند ذاك، بالطبع، لا يبقى غير تكاليف الإنتاج، وهذا ما يسميه الاقتصادي بالقيمة الفعلية، بينما لا نجد هنا غير تحديد معين للثمن. ولكن كل شيء في الاقتصاد السياسي موقوف بهذا النحو على رأسه؛ فإن القيمة التي هي شيء ما أ,لي، مصدر الثمن، تغدو تابعة للثمن، لمنتوجها بالذات. ومعروف أن هذا القلب هو الذي يشكل جوهر التجريد، وعن هذا راجع فورباخ.
يتبع

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي