|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2023 / 9 / 7
ظلت الأبصار آلافاً من السنين شاخصة إلى السماء، راجية ومتضرعة عدلاً إلهياً موقنة أنه حتى لو تأخر في هذه الحياة الدنيا لابد آتٍ في حياة آخرة. حتى اليوم لا تملك البشرية ما يبرهن يقيناً على كونه آتٍ فيما وراء الحياة. بينما في داخل الحياة ذاتها السارية فوق الأرض، أتت الأدلة والقرائن والبراهين والإثباتات الموثقة، وكل ما يصدم العين من شدة سطوعه ويسكت اللسان من فظاعته ويصم الآذان من هوله على أن السماء لم تكن يوماً قط داراً للعدل وإحقاقاً للحق ورفعاً للغبن وجبراً للظلم الحاصل وسط البشر ليل نهار، تحت أعينها وعلى مسمع منها، بل وفي إنفاذ حرفي للتعاليم المُنزَّلة من لَدُنْها.
تبرهن الوقائع في الأرض على أن تعاليم السماء ما كانت يوماً قط مُنجياً من الفتن والمهالك؛ بل هي ذاتها مُشعلُ الفتنة والمهلكة الكبرى. ففي الطاعة والتلبية لنداء وتعاليم السماء، انطلق البشر بالآلاف والملايين يقتلون ويمزقون، ويسبون ويغتصبون، بعضهم بعضاً عبر كافة أنحاء المعمورة. ليس ذلك فحسب، بل في نُصرةٍ لتعاليم السماء وإعلاءٍ لكلمتها، انطلقت الشعوب والمجموعات البشرية كلٍ على حدة في عمليات تأديب أخلاقي وتثقيف قسري، وتطهير وتصفية وإبادة جماعية، لبعض من مكوناتها المستضعفة من داخل نفسها، عبر استئصال المهرطقين والزنادقة والمشركين والكفرة والفسقة والملحدين والسبابين والمزدرين للسماء وكل من سولت أو تسول له نفسه أن يفكر حتى في المساس اللفظي بالذات السماوية أو تعاليمها العلية. كأن ما نزل من السماء، كما يوثق التاريخ، بدلاً من مرشد ودليل للمحبة والتسامح والعدل المنشود بين البشر، كان كتاباً أحمر بلون الدم ولظى المحارق يُشيع العنف والقتل والسلب والنهب والدمار بين شعوب الأرض، وحتى داخل فرق ومجموعات وطوائف ومذاهب وعقائد الشعب الواحد ذاته. ولم تُرسي تعاليم السماء عدلاً ولا تسامحاً بقدر ما أوقعت من الظلم والكراهية، بحق الأمم والأفراد على حد سواء.
وهو ما دعا بعض الإنس إلى التعجب: كيف تكون السماء بهذه الفظاعة والوحشية بحق أبنائها ذاتها؟! نحن، فوق الأرض، جميعنا أبنائها. هي، في الأصل، من وهبتنا الحياة ولم تبخل علينا بكل سبل البقاء والمتعة والسعادة والمرح الممكنة. وكما نرى، لا نجدها في ذلك تفرق بين أي من أبنائها والآخر، غني وفقير، جاهل ومتعلم، أبيض وأسود، صغير وكبير، ذكر وأنثى، مؤمن وكافر، الكل سواء في الانتفاع والاستمتاع بخيراتها. بل هي في هباتها للبشرية أشبه ما يكون بالعدل المطلق، ذلك الذي يسري على الكافة عشوائياً بالكامل من دون أي تخطيط أو تدبير مسبق، أو محاباة أو تمييز أو تفضيل أو اصطفاء من أي نوع وتحت أي غطاء أو مبرر، مثل لون البشرة أو العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين أو العلم أو أي شيء آخر. في كافة ما تجود به على حياة البشر في الأرض، نحن نجد السماء عادلة، بل أعدل حتى من تصورنا نحن أنفسنا للعدل. السماء هي، في الحقيقة، العدل العشوائي والمحايد في المطلق، لأنها لا تتدخل أصلاً حتى تتسرب إلى أحكامها شوائب من المحاباة أو الانحياز. السماء- في حياة الأرضيين- محايدة ولا تحابي أحداً مهما كان على حساب أي أحد آخر، حتى لو كان نبياً من لَدُنْها على ألد أعدائه وأشدهم كفراً بدعوته. من أين، إذن، جاءت منازل البشر المتفاوتة المقننة، والمقدسة، المُنَزَّلة في تعاليم السماء على كثرتها، والمتوجه بمنزلة الأنبياء والرسل في الفردوس الأعلى؟!
لكن، كما تساءل هؤلاء، وهل هناك سماء حقاً؟! هل يوجد، فعلاً، ما هو أعلى وما هو أدنى، سماء في العليا وأرض في الدنيا؟! أم هو التصور والإدراك البشري، لأغراض الإشارة وتحديد الاتجاه تيسيراً لحركة البشر عبر الكون واستغلالهم له، مثل خطوط الطول والعرض الافتراضية؟! وإذا ما تحدثنا عن الكون كوحدة واحدة، هل هو لا يزال، مثل الإنسان، له ما فوقه وما تحته، سماء وأرض مثلنا؟! وإذا كانت الحقيقة تنفي عن الكون اتجاهاته التي ننسبها له لمصالحنا الذاتية، وأن لا سماء فوقه تعلوه وتسوده وتلزمه بتعاليمها كما نتصور، من أين جاءتنا في الأرض "تعاليم السماء" المقدسة؟! أليست الأرض بلا فوق أو سماء، مجرد جزء هائم في كون فسيح بلا اتجاهات بخلاف ما ننسبه لها لأغراض النظر والإدراك؟! كيف نحول ما هو نظري وإدراكي إلى حقيقة مادية موضوعية؟!
من أين أتت التعاليم السماوية إذا لم يكن هناك سماء، والقداسة إذا لم يكن هناك علو أصلاً، إلا أن يكون في مخيلتنا الشخصية؟! ولماذا نجهد أنفسنا في البحث عن تعاليم العدالة من سماء لا وجود لها، بينما قوانين الفيزياء الكونية ملقاة تحت أقدامنا وحولنا في كل مكان تعطينا الدروس في الحياد والعدل المطلق في توزيع هباتها على البشر كافة بطريقة عشوائية بالكامل ودون أي محاباة؟!