تونس: السّلطة ومعركة استقلاليّة المنظّمات

الطايع الهراغي
2023 / 9 / 1

"أهمّ درس يمكن أن نستفيده من التّاريخ هو أنّ البشر لا يستفيدون كثيرا من دروس التّاريخ".
(ألدوس هسكلي)
"لست مستعدّا لأن أسلّم طني لمن لا وطنيّة له"
(الرّئيس قيس سعيّد)
"من يبني آماله على الأوهام يجدها تتحقّق في الأحلام".
(شارل بودلير)

الكتابة أيّا كان شكل تنزيلها (مقال / نصّ/ تدوينة/ تعقيب..)مهمّة يخذلها ويرذّلها من رام أن يجعل منها مطيّة لتلبيّة جشع نزوع ذاتيّ .فهي ليست ترفا فكريّا ولا هي رغبة ذاتيّة في إشباع ذات تسكنها لهفة الحاجة إلى تسجيل حضورها في دفتر لفت الانتباه إلى أنّها موجودة . الكتابة وِزر وحمل ثقيل، مسؤوليّة أدبيّة وفكريّة وأخلاقيّة (بالمعني القيميّ الإنسانيّ لمفهوم الأخلاق) تمليها إرهاصات اللّحظة ومتطلّبات المرحلة.هي استجابة لحاجة مجتمعيّة تفرض نفسها عليك فرضا.
الكتابة تظلّ موقفا مهما تفنّن من يتعاطاها في أن يلبس جبّة الحياد .

01/ إعصار المسار
تعيش تونس "المريضة حسّا ومعنى- إذا استعرنا عبارة ابن أبي الضّياف- منذ حدث 25 جويلية 2021، لحظة انتصاب الرّئيس حاكما أوحد في عصر بات فيه الحكم الفرديّ معرّة - زلزالا سياسيّا عمّق ما كانت عليه البلاد طيلة ما اصطلِح عليه بالعشريّة السّوداء من تحكّم غنائميّ مقاد بسياسة الخبط عشواء. الإجراء الرّئاسيّ الذي استبشر به الكثيرون ورأوا فيه إنقاذا للبلاد ممّا تردّت فيه من عبث المؤسّسات، وفرض نفسه كمخرج تضافرت جملة من العوامل لتجعل منه المخرج الوحيد المتاح، وظنّه الجميع تدبيرا استثنائيّا محصورا في الزّمن لمجابهة "الخطر الدّاهم" المتمثّل في تعطّل وتعطيل عمل المؤسّسات التّشريعيّة والتّنفيذيّة والقضائيّة سرعان ما تحوّل هو ذاته من احتمال حلّ إلى معضلة مستوفاة الشّروط، من علاج إلى داء،من آليّة لمجابهة خطر داهم إلى حلّ سلطويّ لفرض وتأبيد الخطر الدّاهم والدّائم. وليس الأمر بمفاجئ إلاّ لمن تدثّروا بالأوهام وصنعوا من عباءتها لحافا.25 جويلية ليس إلاّ بديلا جنيسا تقيّأته منظومة 24 جويلية من صلبها، الابن الشّرعيّ لمنظومة الخراب. جديده، إذا كان لا بدّ من الاعتراف له بجديد ما، هو تعطّش ساكن قرطاج إلى القطع نهائيّا، وفي سباق مع الزّمن، مع الوهج الثّوريّ الذي خلقه وأتاحه رحيل رأس سلطة السّابع من نوفمبر ورغبته في الانتقام من تاريخ كان دوما على هامشه ولم يساهم في صنعه ولا حتّى بالسّلب.
التّشنيع بكلّ ما هو حيويّ في النّسيج المجتمعيّ في مسعى محموم لقتل الذاكرة وسحلها أوجد وضعا هجينا وغريبا أنتج هو الآخر مشهدا أكثر بؤسا وغرابة،سمة من سماته الأساسيّة تطوّع مجاميع من المعارضات (يساريّها وقوميّها)لإحياء ما كان على أيّام بن علي يُعدّ وصمة عار:عقليّة المعارضة الدّيكور، معارضة المخزن،ميزتها واختصاصها التّغنّي بما تفنّنوا في نعته بالمساندة النّقديّة لمؤازرة مسار 25 جويلية لصاحبه حامي حمى السّيادة الوطنيّة في ما أعلاه سيادته إلى مرتبة معارك التّحرير الوطنيّ. مساندة تطلّبت تجرّؤا تجسّد في استبخاس التّاريخ والاعتداء عليه بشكل فجّ ومرذول : إعلاء" ثورة القصر" ثورة الفاتح من 25 جويلية إلى مرتبة الثّورات العظمى والتّحوّلات التّاريخيّة الكبرى. ولا تجد بعض الأطراف التي لا زالت تحسب نفسها على المعارضة أدنى حرج في الافتتان بالتّسويق لسياسات الوافد الجديد أكثر من اقتناعها بالتّعريف بذاتها وتوجّهها وانتظاراتها لكي لا نتحدّث عن سياساتها.

02/ اعتمالات السّاحة النّقابيّة
هذه الملابسات بالذات هي التي تتحكّم في ما تعيشه السّاحة النّقابيّة من إرهاصات، بعضها نقابيّ نقابيّ وبعضها في علاقة بطبيعة تعامل منظومة الحكم،الرّئيس تحديدا، مع المنظّمة النّقابيّة التي يراد تطويعها (ولِم لا تدجينها؟؟ ) في ما يُعرف عنه وما كرّسه عمليّا من استعداء شرس لكلّ الوسائط الاجتماعيّة، باختراقها من داخل هياكلها وبالاستعانة بأوساط بعضها يلبس جبّة المعارضة النّقابيّة.
الدّفاع عن الحركة النّقابيّة-واتّحاد الشّغل تخصيصا-كان دوما بالنّسبة إلينا نابعا من موقع وموقف وقناعة. اختيار وانحياز مدروس أملى علينا دوما رسم حدود التّماس والتّباعد بوعي مع سائر القيادات التي تتالت على المنظّمة في فترات مدّها وفي فترات زجرها. هو أيضا التزام بالدّفاع عن المنظّمات المستقلّة مهنيّها وحقوقيّها.هذه المسؤوليّة تتضاعف اليوم بحكم حالة الانسداد التي باتت عليها السّاحة الفكريّة والسّياسيّة والنّقابيّة والحقوقيّة بشكل يهدّد بفرض حالة من التّصحّر الشّامل. حالة اختناق غير مسبوقة، نتيجتها الطّبيعيّة والمنتظرة الفشل في كلّ المجالات، اللّهمّ إلاّ لمن كان همّه المكابرة والعناد.
يبدو أنّ الوضع الحاليّ الذي يحيط بمنظّمة الشّغالين وبالمنظّمات عموما في ظلّ الإعصار الذي تعيشه البلاد منذ 2011 والذي تفاقمت كارثيّته بعد تسونامي 25جويلية يتطلّب كثيرا من الدّقّة والتّدقيق، بعيدا عن التّعميم (المقصود أحيانا) الذي يلامس التّعتيم، يريد أن يقول كلّ شيء فلا يقول شيئا، وبعيدا عن الانفعالات الإنشائيّة التي لا تتجاوز مستوى الانطباع والتّهرّب من الإصداع بموقف.
الدّفاع عن اتّحاد الشّغل بحكم تنوّع خارطة النّسيج النّقابيّ الذي يميّزه لم يكن ولن يكون دفاعا عن قياداته (وليس قيادته).هذه البديهيّة التي يُفترض أنّها محسومة في صفوف شرائح واسعة من النّقابيّين (قطاعات وذوات ومجموعات)وسائر المهتمّين بالشّأن العامّ باتت معضلة تحتاج توضيحا لأنّها تخفي موقفا مضلّلا .
كثيرة هي الوجوه النّقابيّة والسّياسيّة التي تربّت وتمرّست في أحضان المنظّمة واحتلّت فيها مسؤوليّات قياديّة -قطاعيّا ومركزيّا-،وعديدة هي المجموعات التي نشطت على يسار التّوجّه الرّسميّ للمنظّمة ممثّلا في قياداتها المركزيّة وعاشت أو عايشت بعضا من أزماتها(الدّاخليّة وتلك المسلّطة عليها من خارجها). هذه المجاميع هزّها الفرح وأطربها فاستعجلته،غلبها التّوهّم وأغراها ضجيج مسار 25جويلية فباتت تلهج به بشكل مرضيّ محيّر،هو إذلال لها وتحقير لكلّ ما له علاقة بالشّأن العامّ،كما تترجمه المساندة النّقديّة التي سرعان ما تحوّلت إلى مبايعة ومناشدة وعكاضيّات تشدّها وشائج عديدة إلى ما هو مألوف من المدائح والأذكار في ما خلناه نوادر لم تعد تليق حتّى بالغابر من الأزمنة.بعضها تورّط، باسم التّصدّي للبيروقراطيّة وإدانة دوسها لقوانين المنظمة وتطويعها، في شجب نضالات قطاعيّة ( قطاع الثانوي قبل أن تمضي نقابته اتّفاقا وقطاع الأساسيّ نموذجا) وإدانة تحرّكات مركزيّة محورها مطالب مهنية والتّراجع في اتّفاقيات سابقة من قبل حكّام "الشّعب يريد".مجاميع قادها الوهم والوعي المقلوب على قفاه إلى الاعتقاد في إمكانيّة تطهير البلاد، اقتصاديّا من كابوس الفساد ولوبيّات الاحتكار، وسياسيّا من أخطبوط الإسلام السّياسيّ (عقدتها الأبديّة) وتخليص المنظّمات ومنها اتّحاد الشّغل من جبروت البيروقراطيّة. كيف؟؟؟ بالتّعويل الكلّيّ على مؤسّسة الرّئاسة. بأكثر دقّة بالاتّكاء على ما نسبوه للرّئيس من شطارة ووطنيّة ونظافة سريرة تمّكنه من قيادة مشروع وطنيّ. أزمة اتّحاد الشّغل العيّنة الأبرز على أزمة سائر المنظّمات ،مركزيّا -وقطاعيّا أيضّا وأيضا- قائمة، وهي محلّ تداول وملحوظة في / ومن سائر الأوساط النّقابيّة والصّديقة والعدوّة .إنكارها مكابرة وهروب من مجابهة الإشكال، والتّستّر عليها ينذر بمزيد تأزيمها. ظاهريّا لا وجود لأزمة، وعمليّا الأزمة تسري سريان النّار في الهشيم. يبدو أنّ الحاكم غير معنيّ بالاجهاز على المنظمة على غرار ما كان يلجأ إليه أسلافه بقدر ما هو مسكون بإفقادها مصداقيّتها وإشعاعها بتجاهلها والتّشجيع على توفير مستلزمات تآكلها من الدّاخل.
التّعاطي مع الأزمات القائمة تماما كما الاحتياط للأزمات المتوقّعة يحتاج تبصّرا وجرأة وشجاعة واستباقا واستنجادا بما يزخر به الإرث النّضاليّ من تجارب ومخارج .
لم يتردّد الحبيب عاشور في أزمة 1985/ 1988 من اتّخاذ قرار على غاية من الحنكة نقض به إجراء "تأديبيّا" كان اتّخذه في ظروف مغايرة: رفع التّجميد والتّجريد المسلّط على عشرات النّقابيّين مسؤولين وإطارات . ويشهد التّاريخ أنّهم كانوا أكثر المدافعين عن القيادة والهياكل الشّرعيّة والعمل النّقابيّ المستقلّ، ومثّل المطرودون منهم ممّن شملهم تعسّف الحاكم وحزب الحاكم العلامة المضيئة في الصّمود والتّصدّي وإحباط المناورات التي حيكت على مدار سنوات الأزمة.
أيّ أزمة نقابيّة لا تُحلّ بالاتّكاء على عكّاز السّلطة ولا بالفهلوة التي يعتصر أصحابها طاقتهم الذّهنيّة في استقراء ما تتطلّبه أجندات الحاكم وما ينتظره من بعض الجهات النّقابيّة والسّياسيّة.
التّباين مع القيادات في رؤيتها وتوجّهها وآليّات تسييرها ومعارضتها بكافّة الأشكال النّضاليّة التي تراكمت خلال تجارب سابقة وتنوّعت حسب طبيعة المراحل ومجالات الصّراع والاختلاف حقّ وواجب إن لم يكن ديْنا، على النّقيض منه تماما التّورّط في الارتماء في أحضان منظومة الحكم بالاتّكاء على عكاكيز صدئة وتشريع الاستنجاد بمنقذ أعلى في أعلى هرم السّلطة.
** التّطهير بمعنى الاستئصال واستبدال هيكلة بهيكلة وطاقم بطاقم، نسخة جنيسة من جبّة الحاكم، فضيحة موصوفة، جُرّبت سابقا وكانت لعنة ظلّت تلاحق مرتكبيها.
** التّباين مع البروقراطيّة ليس شرطا كافيا فمجاميع الولاء والتّأييد ،جماعة "اتّحاد الخراب " الذين يحمّلون الاتّحاد كل تعثّر هم أكثر الأطراف تبجّحا بمعاداة البيروقراطيّة وليس فقط التّباين معها.
** واهم من يعتقد أنّ حلّ الزمات النّقابيّة سبيله الاستنجاد بمنقذ أعلى من زريبة الحاكم،أيّ حاكم.
** وأكثر منه وهما من يرى الخطر داهما والأزمة تحدق ويختار أن يواصل سياسة فرض الأمر الواقع ويحشر رأسه في الرّمال انتظارا لنجدة قد تأتي وقد تظلّ سبيله.
** وأكثر إيغالا في الوهم من يتباين مع جهة ما (لنسلّم بجدّيّة التّباين) ليرتمي في أحضان جهة أكثر عفونة. من السّيّء إلى الأسوإ
ذلك هو درس التّاريخ لمن يعنيه الاعتبار من التّاريخ

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي