|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
علي دريوسي
2023 / 8 / 30
من حق أي إنسان أن يتمتع برحلة إلى بلد ما لمدة زمنية محددة، لقضاء إجازته مثلاً، إذا كان راغباً بذلك وقادراً على تحمل تكاليف سياحته. فكما يقول المثل " من يريد أن يعمل جمّالاً يجب عليه أن يوسّع ويعلّي باب داره".
لا ينبغي في الرحلة السياحية أن تكون ملكفة، وإذا أراد الشخص أن يتقشف بمصاريفه قليلاً فهذا أمر صحي وسليم من الناحية النفسية، كأن يحجز مثلاً غرفة مريحة للنوم في فندق متواضع أو أن يلاحق العروض للحصول على فرصة لإستئجار غرفة بأرخص الأسعار، كما يفعل معظم الناس الحضاريين البعيدين عن التباهي بما يمتلكون.
غالباً ما يفضّل الإنسان / السائح الاقتصاد بمصروف المنامة من أجل استثمار المال الموفّر في زيارة الأماكن الفنية أو الأثرية مثلاً أو بغية التمتع بتناول طعامه ومشروباته في محلات الاصطياف.
أما أولئك النافجون الذين يتباهون أمام معارفهم بقدراتهم المالية على القيام برحلة سياحية إلى البلدان الأجنبية ثم نراهم وقد ضبّوا في حقائبهم ما سيتناولونه من طعام وشراب للأوقات التي لن يروا فيها من يضيفهم و نراهم وقد بحثوا عن عدة أصدقاء لأصدقاء لهم؛ فهم يعرفون كيف يثيرون الرحمة ويستثمرونها؛ كي يضمنوا الإقامة والطعام عندهم وقد خططوا سلفاً للنتقل من منزل إلى منزل فهم يعرفون حق المعرفة أن لا أحد في الغربة يرغب باستقبالهم أكثر من يوم أو يومين على الأكثر، أولئك ـ ولا سيما أنهم لا يدركون الأثر الذي تركوه في نفسيات الأطفال والكبار الذين تباهوا ويتباهون أمامهم ولا يفقهون ما الذي يعنيه استعراضهم لاحقاً من بلد السياحة وهم يتصورون ضاحكين ممسكين بسفافيد اللحم المشوي وكؤوس النبيذ وحتماً على حساب المضيف الذي لم يلتق بهم من قبل، ودون أن يكونوا قد اطلعوا ولو على جزء يسير من تاريخ البلد ـ أولئك منافخون باخعون فارغون منافقون مستغلون هستيريون عصابيون طفيليون مدمنون على الترويج والاستعراض على نفقة الآخرين وحسب.
ذات يوم صيفي اتصلت إحدى الصديقات مع صديق لي مقيم في مدينة درسدن الألمانية تخبره بقرب وصول أسرة عربية للسياحة كانت قد توصى بها أصدقاء لعائلتها في مدينة اللاذقية وترجوه في الوقت نفسه أن يقدّم للسائحين بيته للإقامة فيه لعدة أيام لأن غرفتها الطلابية ضيقة لا تسمح لها باستقبالهم فيها، وهكذا أخذت صديقتنا ميسون تشرح لصديقنا معين مذكرة إياه بالخصائل العربية ـ كما حكى لي لاحقاً صديقي معين الذي أثق بكلامه ـ التي تعلمتها في منزل أبيها: "نحن يا معين قومٌ نصب الماء على أيدي الضيوف احتفاءً وإكراماً ونقول لهم: لكم صدر البيت ولنا العتَبة".
بعد انقضاء أسبوعين على انتهاء الزيارة السياحية لتلك العائلة الصغيرة المكونة من الأب والأم وولديهما ـ واحد في العاشرة والآخر في الخامسة عشر من عمره (كما سأفهم فيما بعد) ـ اِلتقيت صديقي معين مساء عطلة نهاية الأسبوع في مقهى الجامعة.
آن سألته عن ضيوفه من باب الفضول بدا متوتراً معكور المزاج. طلب لنا البيرة وأخذ يحدثني عنهم:
صدقاً أنا ملدوغ وملسوع بتجارب الضيوف ومع ذلك لم أستطع تغيير طبيعتي الريفية المضيافة وربما الغبية. تركت للعائلة التي لم أعرفها سابقاً البيت كاملاً ونظيفاً ليأخذوا راحتهم وقد ملأت البرّاد بكل ما يحتاجونه من خبز وأجبان ولحوم وخضار ومشروبات، تفحّصت كل شيء قبل خروجي منه، فوجدت أن الحمّام بحاجة إلى محارم تواليت ومناشف نظيفة، أكملت النواقص، وحين وصلوا استقبلتهم بحفاوة وتمنيت لهم إقامة ممتعة في مدينة درسدن.
بقيت في منزل ابن خالتي وائل لخمسة أيام إلى أن أتت ميسون وسلمتني المفاتيح شاكرة لي تعاوني معها، قالت وهي تضحك "كتر خيرك .. رفعتلي راسي بين جماعتي في اللاتقية".
كنت مشتاقاً لبيتي، ركبت سيارتي، أوصلت ميسون إلى غرفتها في السكن الطلابي وطرت إلى بيتي وأنا أحلم بصفد من البقلاوة اللاتقانية أو الحلاوة بالجبن الحمصية يمكن أن يكونوا قد تركوه لي كعلامة شكر وامتنان، في الوقت نفسه فكرت بأن البيت سيكون مرتباً ونظيفاً كما تركته وحبة مسك بحكم وجود إمراة فيه.
عندما فتحت باب بيتي كدت أغادره بسبب تلك الرائحة العفنة الكريهة التي انبعثت منه وكأنها من مستنقع خراء، أقسم لك بأني رأيت الغبار على الطاولة وعلى أسطح كؤوس الشاي ورأيت أوراق الكوتشينة موزعة على الطاولة وكأنهم لم يفعلوا شيئاً في هذه المدينة إلا لعب الباصرة ... وهذا كما تعرف ليس بالأمر الغريب فأنت نفسك من أخبرتي عن الدكتور محمد، الوكيل الإداري لكلية الهندسة، الذي كان موفداً إلى جامعة درسدن التقنية في رحلة بحث علمي لستة أشهر، ماذا فعل هذا الباحث؟ لا شيء! نام عند صديقنا إبراهيم في غرفة واحدة وشرب الشاي ليوم الشاي .. ولعب الطرنيب ليوم الطرنيب حتى تورمت بيضاته، المهم أنه وفّر منحته الشهرية ههههههههه ..
وصديقنا المشترك محسن هو من حكى لنا عن المهندس سليمان الأشبه بالمخاط الأخضر والذي كان موفداً أيضاً للبحث العلمي وكيف كان يستحمّ في الجامعة لتوفير تكلفة المياه في بيته وحين سألوه عن السبب أجاب بالحرف " الألمان أغنياء، وعلى رأي المثل البلاش كتر منه ومن دهنه قَلِّيه"، وحكى محسن لنا كيف كان هذا الغوريلا يتعامل مع زوجته "قومي ولك جحشة ردي أبريق هالمتّة على الغاز" وكان يضربها بين حين وآخر .. لعنه الله ولعن تقاريره الأمنية التافهة مثله .. ههههههه ..
المصيبة الكبرى هي أن أبناء أو عائلة أو طلاب مثل هؤلاء الناس يتوهمون بأن سليمان ومحمد هم قدوات حقيقية ومن شريحة المبدعين الفطاحل في حقول العلم والمعرفة ... ههههههههه ..
لا تؤاخذني مجرد فاصل مضحك، سأعود لموضوعنا ..
لن أخبرك كيف كانت الأسرة وأغطيتها البيضاء في بيتي ولن أقول شيئاً عن بقايا الشعر ودم البق والبرغش المسحوق بضربات الأحذية والأكف، بل سأكتفي بأن أملي عليك موجز الرسالة التي خطّها الأب بقلم حبر، تخيّل معي كيف كانت حالته وهو يكتب وصاياه ..
كتب لي "تحياتي أخ معين، عائلتي لم تقرب اللحمة بالبرّاد لأنها بدت من طريقة تغليفها من محلات ألمانية غير حلال" .. مع أنني ـ الله وكيلك ـ لم أشتري لهم إلا لحم البقر .. الأخ يريد اللحمة من محل عربي مسلم حصراً .. شحاذ ومشارط هههههههه .. والله لو أفهمتني ميسون عن متلازمة القلق اللحميّ عنده لأشتريت له اللحمة العربية .. يا رجل شعب مجنون .. أنت تعرف في هذا البلد مثلي أو أكثر مني .. على سبيل المثال نعرف بأن مالك المَجْزَرة التي مررنا بها في فرنسا يهودي ويعمل لديه شباب من كل الطوائف، يذبحون البهائم بابتسامة ويوزّعون اللحوم على المحلات العربية في ألمانيا وفرنسا والتي ينتمي أصحابها لطوائفٍ متعددة .. ونعرف أيضاً بأن المحل السوري القريب من الجامع هو ملك لشخص مسيحي ويبيع اللحمة الحلال للمتزمتين، والناس تشتري من عنده وهي مبسوطة، ولإضفاء الشرعية وضع أخونا المسيحي نبيل برميلاً صغيراً لجمع التبرعات لبناء جامعٍ إضافيٍ في المدينة، سمَّاه مسجد الخير.
المهم يا سيدي بالمختصر المفيد وبلا طولة سيرة سأعطيك زبدة الكلام على قولة العم الشاعر فريدريك شيلر، كي لا تضجر من حديثي:
في رسالة الأخ السائح جاء أيضاً "لم نقرب الخبز ولا أنواع الجبن الألماني الذي تركته لنا لأننا كما تعرف ـ لكن ألمانيا غيرتك قليلاً على ما يبدو ـ لا نأكل إلا الخبز والجبن العربي أو التركي" ...
هههههه تخيّل لما يكتبه هذا التافه ... تشتهر ألمانيا بصناعة الخبز وتعدد أصنافه ومحتوياته لتصل إلى حوالي أكثر من ثلاثمائة نوع وكذلك أيضاً بإنتاج أكثر من خمسمائة صنف من الجُبن .. ومع هذا يريد الأخ أن يذهب إلى دكان التركي أو الكردي أو العربي ليشتري الخبز والجبن، ودون أن يعرف من هي الجماعات التي سيدعمها من خلال تسوقه عندهم، لعلها هي الجماعات نفسها التي تساهم في تمويل الإرهاب في وطنه هههههه ..
وأنهى السيد السائح رسالته بجملة مضحكة "أخي معين لم نستخدم أبداً محارم التواليت .. ليست من عاداتنا كما تعرف .. سامحك الله".
يا سيدي لن أشرح لك عن الحالة التي وجدت عليها المطبخ والفرن والبرّاد والغاز وكأنهم لم يغادروا البيت أبداً لمدة خمسة أيام باستثناء تلك المشاوير لدكان العربي .. والله أنا متأكد أنهم لم يروا شيئاً من معالم المدينة .. إلا إذا كانت ميسون قد اصطحبتهم في مشوار إلى نهر ألبيه والحديقة الكبيرة ..
يا زلمي حين دخلت الحمّام شاهدت العجائب .. وجدت أكثر من علبة مياه دريكيش مقصوصة باحترافية لتصير أقرب إلى مرش المياه .. طبعاً لاستخدامها كبديل عن المحارم .. والمصيبة الأكبر وقعت لي حين رأيت حوض الاستحمام وقد إمتلأ ببقايا البراز ..
والله وبالله وتالله بقيت أكثر من أسبوع في تنظيف مخلفات العائلة السائحة .. ولو كنت أعرف عند من ستكون محطتهم الثانية لاتصلت بالمضيف الجديد على الفور وطلبت منه التريث والحذر .. هههههههه ..
يا رجل لو كتب لي شيئاً إنسانياً، لو ترك لي مجمع بقلاوة كهدية، أو لو أنه اتصل بي بعد يوم أو يومين واعتذر مني عن الفوضى والقذارة التي تركها وراءه لصفحت عنه فوراً وقلت "روح الله يسامحك" .. لكنه لم يفعل، والأنكى من ذلك أنه لم يشكرني على الأيام التي أمضاها في بيتي نائماً آكلاً شارباً ... ناس غريبة الأطوار .. الله يصطفل فيه ..
حين أنهى معين كلامه لم أكن أرغب أن أقول شيئاً ولم يطلب بدوره مني أي نوع من التعاطف أو التعليق ومع هذا وجدت نفسي أقول:
"الإنسان الوسخ هو الذي يعيش في عالمين متناقضين ويعتاش منهما، وهو يدرك الحالة تماماً: عالمه العلني النظيف وعالمه السريّ القبيح."
تنهد معين بعمق وختم حديثه قائلاً: هل تعلم الآن لماذا أحب الشاعر زهير بن أبي سلمى!؟ لأنه القائل:
"ومن يجعل المعروف في غير أهلهِ .. يكن حمده ذمّاً عليه ويندمِ"
رفع معين كأسه، هأهأ باسترخاءٍ ثم غنّى بصوت منخفض: "اشرَب يلا اشرَب ... بكرا بتصير تراب".