|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
دلور ميقري
2023 / 8 / 29
1
الشهرُ المُتوّج بعيد الكريسماس، تتجمّد فيه المدينة رويداً ـ كقلبٍ مُبتلٍ بمرض عضال. ولأنه أيضاً أطول الأشهر عتمة، قرروا أن يُقحموا فيه البهجة عن طريق الأضواء. وإذا كل الشوارع والمحلات والشرفات والنوافذ، تتحلّى بعقودٍ من المصابيح الصغيرة بمختلف الألوان، تبقى مُنارة طوال اليوم. بابا نويل، يبولُ هدايا على واجهات المحلّات، التي تعلن عن تخفيضاتٍ كبيرة لملابس الشتاء. شجرة الميلاد، تظهرُ خِلَل النوافذ مثل شبح الفزّاعة، المُخيف طيور الحقل. الفتيات، يظهرنَ كالدُمى في المعاطف الثقيلة، لا يُفارق الكيسُ البلاستيكي يدَ الواحدة منهن؛ شأن المسبحة في يد رجل الدين. وقد دلفَ دارين تواً من مدخل محطة القطار، ليستقبله تمثالُ رجل " النافورة البولندية " بعضوه الكبير والمنتعظ. لم يعُد يذكر آخر مرة، إنتصبَ فيها عضوه تحت أنف إحداهن: ديانا، المُتميّزة غيظاً وغيرة، تقتنصُ خلوةً من وقت شهريارها، المليء بالمواعيد الغرامية. وخزامى، عادت لتدفئ فراش رَجُلها: " الذي لا ينيكني إلا على جهة القبلة "، على حدّ تعبيرها.
فوق حالته النفسية المُحبَطة، يختارُ صُحبةَ زورو الأكثر إملالاً، وهوَ في مستقرّه الأبديّ وراء صندوق المتجر ذي الحركة الدائبة مع حفيف الأوراق المالية، المَعبودة. كانَ دارين يتمنى لقاءَ آلان، لو كانَ يعمل بعدُ في عطلة نهاية الأسبوع. لكنه هجرَ المتجر، لكي يتفرّغ لإشباع شبق صديقته السويدية، وذلك بعدما أنتقل للعيش في شقّتها. إنه يُفكّر جدّياً بالزواج منها، وبإنجاب أطفال يبولُ عليهم بابا نويل بهداياه. زورو بدَوره، جمّعَ المهرَ الباهظ للعروس، والذي سيُمكّن والدها من شراء قطعة أرض كبيرة، تُذهّبها سنابلُ الحنطة صيفاً.
هوَ ذا غاليري " سفافا " الجديد، الذي بُنيّ مؤخراً فوق مساحة كراج السيارات، الخاص بفندقٍ أثريّ حملَ نفس الإسم. لقد أسكنَ دارين، لمدة أسبوعين، في حجرةٍ بنفس الفندق آنَ تركه منزل شقيقته في عامٍ سابق. في حجرةٍ مُجاورة، أقام شابٌ فلسطينيّ من لبنان، وكانَ مُعتدّاً بنفسه كخريجٍ جامعيّ من إحدى الدول الإشتراكية " السابقة " ـ كما أضحت تُعرف عقبَ إنهيار جدار برلين. وقد إنهارت على الأثر قناعاتُ الشاب الماركسية، فلم يعُد القرآن يُفارقه إلا في أوقات مُضاجعة صديقته السويدية. وقد ألتقى دارين ذات مرةٍ هذه الفتاة في الملهى، وبعد أن رقصت معه دعته إلى شقّتها. لقد كانت قد أخبرته في مبتدأ السهرة، أنّ صديقها في زيارةٍ لأقاربه في كوبنهاغن. إنه عقد قرانه على الفتاة، كما فهمَ دارين، من أجل الحصول بسرعة على الجنسية السويدية. لذلك ترك لها الحرية، طالما أنه سيُطلقها فيما بعد كي يتزوج من إحدى مواطناته، المُلتزمات بالحجاب والجلباب، لينيكها على جهة القبلة.
في أقصى طرف من ذلك السنتر، إنزوى المتجرُ، أينَ يعملُ زورو يومياً مذ ساعة عودته من مدرسة اللغة وحتى ساعة متأخرة ليلاً. ابنة عمّه، أخذت مؤخراً تجلبُ له من مطبخها وجبةَ الغداء كيلا يضطر للبقاء بمعدةٍ فارغة في آناء النهار والليل. وجده هذه المرّة مُتورّدَ الوجه، يجترّ ولا شك آثارَ الوجبة، العالقة بين أسنانه. قال لدارين، بنبرةٍ مُحتفية: " أدخل إلى حجرة المكتب، لأن ثمّة ضيوفاً أرغبُ أن تتعرّف عليهم ". حالما دخلَ دارين إلى الحجرة، صُدم بمرأى ثلاث سحنات، مُنقبضة الأسارير، رمقته أعينها بنظراتٍ غير مُريحة. القادمُ، ولم يكن بالطبع على علمٍ بأنّ المُضيف أعطاعم فكرة مُسبقة عنه، بادرَ إلى تحيتهم في ودّ. رحبوا به، بنفس برودة نظراتهم. إذا به يعرفُ أحدهم، وكانَ أقصرهم قامة: إنه " أحمي "، الذي يكبره ببضعة أعوام، وكانَ قد ألتقاه في موسكو قبل زهاء خمس سنين حينَ جاء كي يُعالج مرضَ عينيه. مشكلته، أنه خلقَ بعينيّ دابّة لا يُمكنها الرؤية بإستقامة. فلو شاءَ قراءةَ ورقةٍ ما، كانَ عليه أن يُدنيها من أذنه كي يُشاهد كلماتها بشكلٍ جانبيّ. لكنه كانَ على شبهٍ غريبٍ بالثعلب، حتى أنهم عرّفوه في بلدته الأولى باسم ذلك الحيوان الماكر.
على وقع الذكرى، وعلى أية حال، سرى شيءٌ من النسيم الدافئ في جوّ الحجرة. ثم تبيّنَ أنّ الآخرَ، المدعو " خفيفو "، هوَ ابنُ عم ذلك الشاب، شبه الضرير. كانت لهما نفس الإيماءات والحركات والآراء والإهتمامات. بكلمة أخرى، كانا فروتين لنفس الثعلب. أما الشاب الثالث، فإنه طفقَ يحدجُ دارين بنظراتٍ مسمومة غير مفهومة. وفي خلال الحديث، دفعَ فجأة، بحركة عدوانية، مجلةً كان يُمسك بها: " هنا ملف عن الشعراء الكرد في سورية، الذين يكتبون بالعربية، أنا قمتُ بإعداده "، قالها لدارين مُثبّتاً فيه عينين حادتين من وراء النظارة الطبية. كانَ أيضاً، كالآخر، يُعاني من تشوّه البصر. ولكنه لم يكن شبه دابّة، بل دابّة حقيقية. المجلة، كانت تخصّ جناحاً في الحزب الشيوعيّ، نالَ عطفَ موسكو عقبَ سياسة البيروسترويكا. صاحبُ المجلة، وبحَسَب الفكرة المُسبقة، كانَ على وهمٍ بأن دارين من أنصار الجناح المُخالف. بعد نحو أسبوعين، ثمة في ستوكهولم، كانت فكرة مُسبقة أخرى قد وجدت طريقها إلى مكتب حزب كردستاني، سيُشرف أحمي على الصفحة الثقافية لجريدته: وهيَ أن دارين من أنصار تنظيم ب ك ك، المُعادي لذلك الحزب!
خفيفو، وكانَ يجلسُ محنيّ الظهر من أعباء الفكر، لاحَ غير سعيدٍ بجوّ المرح، الذي أشاعه القادمُ الجديد. بقيَ مُتململاً، يكسو سحنته بمسحةٍ من التحفّظ والتأمّل. بيد أن الحيوية، سرعان ما دبّت فيه، وذلك حينَ علمَ أنّ دارين لديه مخطوطة ديوانه الشعريّ الأول. قال له برصانة: " إئتِ بها غداً إلى النادي، لأنني أودّ إلقاء نظرة عليها. قد تحتاجُ المخطوطة لتصحيح بعض الأخطاء القواعدية، ولن يستغرق ذلك مني أكثر من نصف ساعة ". وقد رحّبَ صاحبُ المخطوطة بالفكرة، بما أنه علمَ أنّ الشابَ خريجُ أدب عربيّ؛ ويقرضُ الشِعْر أيضاً. ما لم يكن يعلمه، بالطبع، أنّ تلك النظرة لن تستغرق نصفَ ساعة وإنما عامين كاملين: من صفات الثعلب، الإستيلاء على طريدةٍ لم يتعب هوَ في صيدها.
في المقابل، تكهربَ خفيفو قليلاً لما نمّ إليه أنّ دارين سبقَ ونشرَ بعضَ قصائد ذلك الديوان، وأنها حازت إعجابَ الشاعر " بيكس ". قال في كثير من البرود: " من المُقرر أن نتعرّف عليه بعد بضعة أيام، أثناء زيارتنا لستوكهولم "
" أنا تعرّفتُ عليه في دمشق، قبل نحو عامين، وأسهمتُ بتنظيم أمسية له عندنا في الحي "
" سمعتُ أنه لم يكن مرتاحاً من إقامته في دمشق، وأنّ النخبة الثقافية فيها قد تجاهلته "
" بالعكس، كانَ سعيداً جداً وأحبّ المدينة بشكل خاص. ثمة، في مقهى الهافانا، كانَ يلتقي بالنخبة الثقافية وعقدَ صداقة وطيدة مع أبرز الشعراء "
" على العموم، دمشق ليست تربة خصبة للشِعْر "، قالها خفيفو بفمٍ معقوفٍ إزدراءً. لقد كانَ مسقط رأسه، معروفاً بكونه " بلدة الألف شاعر ". إنها بلدة منسية في الشمال السوريّ، تستجدي منذ حلول الربيع السماءَ، المصقولة بالجفاف، ولو زخّة واحدة من المطر، تنقذ موسمَ الحبوب. مع وصول أبناء البلدة إلى السويد، يواصلون تعقّبَ أخبار المطر والموسم لدرجة إنشغالهم عن كل ما عداها. لقد سبقَ لدارين أن زارَ البلدة، فوجدَ شارعاً رثاً مُغبّراً يشقّ مركزها، وقد تناثرت على جانبيه أعشاشٌ طينية لبيع الملح بشكل خاص. فيما صحراء مُستوية، تشكّل خلفية اللوحة. أما النهر الوحيد، الذي كانَ سبب تأسيس البلدة في زمن يسبق الطوفان، فإن تركيا قامت على تجفيفه منذ عدّة عقود. بإختصار، إنها تربة خصبة للشِعْر!
الألف شاعر، ولدوا دفعة واحدة كما يجري عند القطيع على أثر موسم المعاشرة الدورية. ذلك حصلَ غبّ ظهور إسم أحد أبناء قريةٍ تتبع إدارياً للبلدة، كشاعر بارز ومسئول لمجلة أدبية مرموقة. الوهمُ، المُتواشج مع جنون العظمة، زيّن لهم أن الصفحة الثقافية في جريدة " البعث "، التي كانت تنشر قصائدهم، إنما تفعل ذلك إعجاباً بمواهبهم الفريدة. فيما أنها سياسة مبرمجة في فكر الحزب القائد، عن ضرورة مسخ اللغة الكردية كي لا تغدو لغة ثقافة. قبلَ ذلك، لما أشتهرَ مغنّ من إقليم " وراء السكّة الحديدية "، فإنّ أعداداً هائلة من ساكني إقليم " تحت السكّة الحديدية " قد أضحو بدَورهم مطربين. بل إنك كنتُ تزور عيادة طبيب، لتجد ثمة آلة الطنبور معلّقة على الجدار. إنها شيمة الشخص الريفيّ، فكّر دارين، المُمتلئ بالحسد من جاره ويبغي تقليده ويحاول أن تكون أرضه أفضل وموسمه أجود الخ.
2
بمَحض المُصادفة، أنّ دوغان أتصل في مساء ذلك اليوم، ليُكرر اللازمة نفسها: " سيمرّ عليك عُمَرو غداً، لإصطحابك إلى ستوكهولم. أجلب رسومَ الصحيفة معك ". في ظهيرة اليوم التالي، في النادي، أجتمع دارين مع هذا الأخير. حينما قال له، أنه ينتظر صديقين ثم ذكر له من هما،، أطلق هذا ضحكة عالية: " يا لهما من أبني زنا، يضيعُ المعروف عندهما! أنا أعرفهما جيداً، لأننا كنا معاً في فالشوبينغ. كنتُ أحياناً أساعدهما لو أحتاجا لمترجم، أو قراءة أوراق رسمية، وقد تعرفت عليهما من خلال زورو ". لم يكن مُتحمّساً للقاء بهما من جديد، فأوضحَ له دارين سببَ إنتظاره لأحدهما. عندئذٍ، علّقَ عمرو بالقول: " نصيحتي ألا تضع بين يديه مخطوطةَ ديوانك الشعريّ، لأنه شخصٌ مزيّف لا يُؤمن جانبه ". كانت لتغدو نصيحة ثمينة، لو أنّ شخصاً آخر فاه بها. وكانَ دارين قد علمَ في يوم سابق بموقفٍ طريف، كانَ قد جدّ بين عمرو وخفيفو. هذا الأخير، تعرّف في معسكر اللاجئين على إمرأة من الساحل السوريّ، هيَ زوجة معتقل من حزب العمل الشيوعيّ. كونها تقرضُ الشِعْرَ، فإنّ خفيفو أعربَ لها عن إستعداده لمراجعة قصائدها وصياغتها بأسلوبه. في النتيجة، أنها أضحت بين فترةٍ وأخرى تُدفئ فراشَهُ. هذا، مع أنه بدَوره قد تركَ في الوطن إمرأةً مع أولادهما الثلاثة. ذات صباح، عرفَ عمرو أن العشيقة في خلوةٍ مع خفيفو. فوقف عند باب الشقّة واضعاً يده على جرس الباب لعدة دقائق، إلى أن ظهرَ صاحبه وهوَ يغلي من الغضب وطرده.
هكذا بقيَ دارين جالساً، دونَ أن يجدَ مُسَوّغاً معقولاً لتجنّب اللقاء بابنيّ العم. فما لبثَ أن حضرا، ليلقيا نظرةً مُتعالية على الحضور. لكنهما تقلّصا وأنكمشا في فروتيهما الثعلبية، حالما أبصرا عمرو. مع ذلك، تبادلا معه حديثاً يتكلّف الودّ، إكتنفه إسترجاعُ ذكريات صداقتهم الحميمة في فالشوبينغ. فعلا ذلك، عندما علما أنه سيأخذ دارين بسيارته إلى ستوكهولم. قال خفيفو، مُتّخذاً نبرةَ العَظَمة: " هذه فرصةٌ كي نمضي معكما، كونَ برنامجنا تضمّنَ أيضاً زيارةَ الكاتب دوغان ". في خلال الطريق إلى العاصمة، أطلقَ السائقُ العنانَ لسجيّته المَرحة. لكنّ المسكين لبثَ واجماً، عابساً، ثمة عند باب شقّة قريبه. طرده الكاتبُ الكبير، كالعادة، بالقول: " لدينا عملٌ هام! ".
وصلوا تقريباً على وقت الغداء، وما عتمَ أن وجدوا أنفسهم في المطبخ. كمألوف عادتها أيضاً، كانت شيلان تدورُ حول مجلس دارين مثل فراشة يجذبها ضوءُ المصباح. عقبَ الغداء، لازمته بمزيدٍ من الإلحاح حينَ أقتعدت بجانبه على الأريكة. المُضيف، وقد لاحَ مُحرجاً قليلاً إزاءَ نظراتِ الأعين الثعلبية، خاطبَ إمرأته مُبتسماً : " ما رأيكِ أن تُعدّي لنا الشايَ، لكي يتسنّى لدارين مُشاركتنا بالحديث في شئون الأدب؟ ". إحمرارُ وجه المعنيّ، جلبَ ضحكةَ المرأة المُعابثة. لكنها تركتهم، لتمضي إلى المطبخ مع ردفين مُهتزّين برشاقة وهما في البنطال البيتيّ، الضيّق والرهيف. في الأثناء، كانَ الكاتبُ الكبير قد جاءَ بنسختين من روايته الأخيرة، الصادرة بطبعةٍ فاخرة. شرع بكتابة إهداءٍ لكل من ابنيّ العم على الصفحة الأولى من النسخة، مُذيلاً بتوقيعه الأنيق. في الصفحة التالية، كانَ المؤلّفُ قد أهدى كتابه لمجموعةٍ من رجال النهضة الكردية؛ وغالبيتهم مِمَن أقاموا بدمشق، وفيها أغمضوا أعينهم الإغماضة الأبدية. لم يستأ دارين لإغفال إسم والده، بقدر ما أستاء من إقحام إسم والد خفيفو.
كانَ رجلَ دين، شأن أخوته وأولاد عمومه، الذين يتعيّشون في البلدة من فضلات مواسم الآخرين، الزراعية، وكذلك بقراءة القرآن في المناسبات. لقد أضفوا على أنفسهم هالةً من القداسة، بإدّعاء نسبٍ يمتّ لآل بيت الرسول. ما أكتفوا بتسميم جوّ البلدة بالهذيان الدينيّ، بل حاربوا أيضاً الفكرَ القوميّ الكرديّ بدعوى أنه إحدى موجات الإلحاد الشيوعيّ. كانوا من المُحرضين ضد نادي كردستان، الذي تأسس في البلدة برعاية الفرنسيين في سنوات الأربعينيات، ما أدى إلى هجوم الغوغاء على مقرّه وإحراقه. والدُ دارين، كانَ آنذاك يخدمُ في الفوج الكرديّ، التابع لجيش الشرق، ومقرّه في الحسكة. بناءً على رغبة الأمير جلادت بدرخان، ذهبَ الوالدُ إلى تلك البلدة بشكلٍ دوريّ للإسهام في تعليم اللغة الأم قراءةً وكتابة، وذلك قبل إندثار مقر النادي. صديقان حميمان من الحي، كانا قد حضرا للبلدة بناءً أيضاً على تعليمات الأمير. في مرحلةٍ تالية، مع تأسيس حزب " البارتي "، تصدى لنشاطه نفسُ رجال الدين أولئك. وها هم أولادهم، يَضفون على أنفسهم هالةً مُماثلة، لكن بوصفهم ـ كذا ـ من أعلام الأدب. كذلك ركبوا الموجة القومية، كون سوقها رائجاً في هذه الفترة.
دارين، سبقَ وحصلَ على نسخته من الرواية؛ فلم يجد ضرورة للتعقيب بشيء. ما أزعجه في خلال الحديث، أنّ خفيفو أبدى حماسةً شديدة في مدح الرواية الأولى لدوغان، التي زعمَ أنه قرأها في الوطن. ففي نفس اليوم، في النادي بأوبسالا، كانَ قد أعترفَ لدارين ببساطة أنه يجهلُ الكردية قراءةً وكتابة. حينما أزفَ وقتُ النوم، وأخليت لهم حجرةُ المكتب كي يبيتوا فيها ثلاثتهم، قال خفيفو لإبن عمّه ضاحكاً: " مَن يُنصت إلى حديث دوغان، فكأنه أمامَ غابرييل غارسيا ماركيز. يا له من دعيّ، فارغ! ". كانَ قد أختصّ نفسه وابن عمه بالأريكة الوثيرة، فما لبثَ أن أنحنى على دارين، المُستلقي على الفراش أرضاً: " إمرأةُ دوغان، واضحٌ أنها تدورُ حولك من زمان وأنك تنأى بنفسك عنها. لو كنتُ في مكانك، لأنتزعتها من رَجُلها في أول مرّة! "، قالها وهوَ يفحّ من شدّة الشهوة. وكانَ جوابُ الآخرُ، أنه عدّ كلامه على سبيل المزاح غير المقبول. لم ينم خفيفو إلا بعدما قرأ قسماً وافراً من مخطوطة الديوان الشعريّ، الذي أخذه من دارين آنَ كانا بعدُ في نادي أوبسالا.
في اليوم التالي، تعهّدَ دوغان أمرَ إيصال الضيوف إلى مقر جريدة " أرمانج "، الناطقة باسم أحد الأحزاب الكردية في تركيا. بقيَ الرجلُ معهم لفترةٍ قصيرة، ثم أستأذنَ بضرورة ذهابه إلى موعدٍ هام. أحد مُحررين الجريدة، ويُدعى " تمّو "، شيّعَ الكاتبَ الكبير بنظرةٍ مُستخفّة. وكانت نبرته قد تقمّصت تلك النظرة، لما خاطبَ أبنيّ العم: " كيفَ تقاطعَ دربكما، أنتما الكاتبان المُبدعان، مع درب ذلك الشخص المُزيّف؟ ". في الأثناء، راحَ تمّو ورفاقه يحدجون دارين بنظراتٍ مليّة، غير مُريحة. كما سبقَ القول، في مكانٍ آخر، أنّ أحمي كانَ قد أعطى فكرة عن دارين بأنه من أنصار تنظيم ب ك ك. بعد أقل من عشرة أعوام، أضحى النمّامُ نفسه أحدَ أبرز إعلاميي ذلك التنظيم. وإنه تمّو، مَن سيُعبّر عن خيبته حينئذٍ، لما ألتقى دارين في منزل أحد الأصدقاء في العاصمة؛ ومن ثمّ أخبره، كيفَ أخذوا تلك الفكرة عنه على لسان الثعلب الكبير.
3
بضعة أيام على الأثر، ثم أستلم دارين مُغلفاً من لدُن أحمي، عليه طابع ستوكهولم، مع نسخة من العدد الجديد لتلك الجريدة. في المغلف كانَ ثمة رسالة، عبّرَ فيها كاتبها عن دهشته، المشفوعة بالإعجاب، غبّ قراءته لمخطوطة الديوان الشعريّ. كانَ على دارين أن يُدهشَ، بدَوره، لما قرأ مُقابلة أجراها أحمي مع ابن عمه في تلك الجريدة. لقد وَصَفَ خفيفو في مُستهل المقابلة، بأنه من أبرز شعراء سورية، بل وأيضاً من مؤسسي القصيدة الجديدة في الشعر العربيّ المعاصر. في صدر المُقابلة، كان ثمة صورة حديثة لخفيفو، تُظهر بروفيله جانبياً وهوَ بحالة تأمّل ويحملُ سيجارةً بيده. كانت نسخةً طبق الأصل تقريباً من صورةٍ شهيرة، لغابرييل غارسيا ماركيز.
بصرف النظر عما رآه في تلك المُقابلة الصحفية من زيف وتنفّج، كانَ دارين قد أعتقدَ بأنه كسبَ صديقين، يُشاركانه في قدَر الكتابة. ثم أتت الرسالة، لتعمي عينيه عن رؤية ما تمتعَ به صاحبها من خصال الخبث والمكر والغدر. أما الثعلب الآخر، فإنه لم يكن قد كشّرَ بعدُ عن أنياب الحسد. إن دارين تجاهلَ رأيَ عمرو بهذا الأخير، وما عتمَ أن أنصتَ لرأيٍ آخر. نورو، وكانَ قد ألتقاه في النادي، قال له: " لستُ على معرفة بحقيقة موهبتهما، لأنني لا أقرأ هذا الهُراء المُسمّى بالشِعْر! لكنني أعرفهما منذ الصغر، وسيرتهما لا تُشرّف أبداً. أقل ما يُقال عنهما في هذا الصدد، أنهما بغاية الأنانية بحيث لا يُريدان الخير لأحد ولا حتى لبعضهما البعض ". الملاحظة الأخيرة، وجدها دارين مُتناقضة مع ما قرأه في تلك المقابلة الصحفية. لم يخطر له عندئذٍ، أنّ كلاً منهما كانَ ينفخُ في قُربة الآخر، لكي يُبرز نفسه أمام النخبة الثقافية، ثمة في العاصمة.
من ناحية أخرى، كانَ دارين مُطمئناً إلى خلوّه من مُميّزات الشهرة والمجد، التي تجعل الآخرين يَمحضونه مشاعرَ الحسد والبغضاء. إنه قد تجاوزَ سنّ الثلاثين في عامٍ مضى، وليسَ لديه كتاباً واحداً مطبوعاً. حتى مقالاته القليلة، المُداورة في فلك التاريخ والأسطورة، فإنها نشرت في دوريات قليلة التداول. قلّة ثقته بنفسه، جعلته يُرسل قصائده لمطبوعاتٍ صحفية سياسية في لبنان وقبرص، كي تنشر في صفحاتها الثقافية، وذلك عوضاً عن أن تجدَ النورَ في مجلّات أدبية مرموقة. مُتأخراً، جذبَ إهتمامَ النخبة الثقافية في دمشق حينَ ظهرت إحدى قصائده في صحيفة أدبية أسبوعية تتبع إتحاد الكتّاب، الرسميّ. ثلاث قصائد أخرى، ستنشرها الصحيفة، لكنه كانَ آنذاك قد أضحى خارجَ البلد.
في دمشق، سبقَ لدارين أن تعرّفَ على شخصٍ لا يقل زيفاً وإدّعاءً؛ اسمه، " جلال ". جرى ذلك عقبَ عودته من موسكو، وكانَ جلال هوَ الشقيقُ الكبير لزميل دراسة هناك. كانَ يُقيم في حي مساكن برزة، المُجاور، ويُمكن الوصول لبيته مشياً على الأقدام في نحو عشرين دقيقة. كونه أحد مسئولي مكتبة شهيرة في مركز المدينة، فإنه حظيَ بمعارف كثيرين في أوساط الأدباء والفنانين. عن طريقه، كانَ دارين قد تعرّفَ على الشاعر بيكس حال إنتقاله إلى دمشق. إذاك، كانَ الشاعرُ ضيفاً على منفيّ عراقيّ آخر، يعمل محرراً ثقافياً في إحدى المجلات الفلسطينية. جلال، وربما بفعل إدمانه على الكحول، خسرَ زوجته، التي هاجرت لاحقاً مع إبنهما إلى الولايات المتحدة. حينما تعرّفَ عليه دارين، كانَ قد تزوّجَ مُجدداً ورزقَ بصبيّ. إمرأته، وكانت من الشركس المُندمجين، سرعانَ ما فتحت قلبها لصديق رَجُلها. كانت تستقبله أحياناً في إبّان غياب هذا الأخير، لتبثه همومها وما تشعر به من إحباط. كأن تقولُ له، مثلاً: " الكحول، جعله إنساناً يهذي طوالَ الوقت. إنه ينالني أمام الآخرين بسوط لسانه، بدَعوى أنني لستُ في مستواه الثقافيّ والفكريّ. جنون العظمة، هيّأ له أنه رسامٌ كبير. وقد ضربني ذات مرة، حينما تحدّيته أن يقدّم لوحاته للجمهور في معرض عام ". ثم إذا بها مُستعبرة، مدفوعة بتلك الذكرى المؤلمة، تبوحُ لدارين بأمرٍ مُشين، يشي بطبيعة نفسية رَجُلها: إنّ اللوحات الزيتية، التي يعرضُ بعضها كلّ مرةٍ على أصدقائه، بزعم أنها من ثمار قريحته وأنتجها مؤخراً، لم تكن سوى لوحات رسام سوري معروف، هاجرَ إلى أوروبا. صداقته للرسام، جعلته يحلّ في منزله مؤقتاً، ريثما ينتقل إليه أحد أشقائه، الذي يعيش في السعودية. هذا الأخير، حينَ حضرَ من السفر وأرادَ إسترجاع المنزل، فإنّ جلال قامَ بطرده. عندئذٍ، خابره الرسامُ من باريس وطلبَ منه أن يسلّم شقيقه لوحاته، على الأقل. فإدّعى جلال أن ثمة سوء تفاهم بسيط، وسيُخلي المنزل ويعود للسكنى في منزل والديه. لكنه بقيَ يُماطل، سواءً بخصوص المسكن أو اللوحات.
مع كل هذه الإحاطة عن مسلك جلال، فإنّ دارين سلّمه نسخة من مخطوطة ديوانه، المُرقّنة على الآلة الكاتبة، لكي يجد ناشرا لها. غبّ إستقراره في السويد، بعثَ إليه عدة رسائل دونَ أن يتلقى جواباً. فيما بعد، ومن خلال شقيقه المقيم في موسكو، علمَ أن جلال غارقٌ في الديون وبمشاحنات لا تنتهي مع إمرأته. بعد اللقاء الأول لدارين مع الثعلبين بثلاثة أعوام تقريباً، كانَ في زيارةٍ لغوتنبورغ. ثمة، أخرجَ خفيفو قصاصة صحيفة رسمية سورية، تتضمّنُ قصيدة لشاعر دمشقي، كان إسمه قد بدأ باللمعان. قال بنبرةٍ رصينة: " كأنك مُتأثّرٌ بهذا الشاعر؟ ". وإذا هيَ قصيدة، مُنتحلة عن قصيدة دارين، " القربان الأخير "، التي أحتواها ديوانه الشعريّ الأول. عندما ذكرَ ذلك للمُضيف، فإنه ردّ هذه المرة بغير كبير إكتراث: " قرأتُ قصيدتك بالأمس، فقارنتها مع هذه القصيدة "
" قصيدتي كانت بالطبع ضمن مخطوطة ديواني، التي ظلت في حوزتك عامين كاملين "
" أتريد القولَ، أنني مَن أرسلتُ المخطوطة لذلك الشاعر؟ "
" لا، يا أخي. ذاك موضوع آخر. نسخة ثانية من المخطوطة، تركتها لدى صديق في دمشق وكانَ قد وعدني بمحاولة نشرها. هذا الصديق، هوَ مَن أطلع المخطوطة لذلك الشاعر "
" إنك تعطي أهمية كبيرة لمجموعتك الشعرية، مع أنها نشرت أخيراً ولم تحظ بأيّ صدى! "، قالها خفيفو مُكشّراً عن إبتسامة غلّ وتهكّم. في يومٍ سابق، كانَ هذا الأخير قد لبث واجماً، عابساً، لما عرضَ عليه دارين رسالةً من أهم شاعر عربيّ، يقرّظ فيه المجموعة الشعرية بكلمات مديحٍ وإحتفاء. إنها نفس المجموعة الشعرية، التي أحتجز خفيفو مخطوطتها لعامين كاملين كي يتسنّى له إنتحال قصائدها والتنويع عليها. لا غرو أن يستحق لقب الثعلب؛ الحيوان الماكر والخبيث، الذي يتعيشُ على فرائس أصطادها غيره من وحوش البريّة.
4
دارين، كانَ إذاً قد إعتقدَ أنه كسبَ صديقين، وذلك غبّ تعرّفه على إبنيّ العم. وها هوَ على موعدٍ جديد معهما، بعد مضيّ نحو أسبوع. كانَ الوقتُ على مشارف المساء، حينَ أوصله عمرو إلى ستوكهولم. هذا الأخير، قالَ مُقطّباً قسماته، عندما وقفت السيارة بمُقابل العنوان المَقصود: " لا أرغبُ بالصعود معك إلى شقّة دوغان، لكن من الممكن أن نلتقي غداً لو بتّ أنتَ عنده ". حالما دخلَ دارين، وجدَ إبنيّ العم ثمة، ينثران المديح على المُضيف في حجرة الإستقبال ـ كما يُنثر الياسمين على رأس عروسين. ظهرَ عليهما شيءٌ من الإمتعاض لدى حضور الضيف، لأنه سيكون شاهداً على كمّ النفاق والكذب في حديثهما. دوغان، بالرغم مما يتّصف به من حصافة وذكاء، كانَ مُنساقاً مع المدائح؛ ولعله كانَ يُطرب بها. على أية حال، تناولوا عشاءً ملكياً على مائدة الرجل الكريم. في هذه المرّة، راقبَ دارين الضيفين الآخرين أثناء إنهماكهما بالأكل: لم يكن الواحد منهما يمضغ اللقمة بتأنٍ، لكي يشعر بطعمها وأيضاً لضرورة الهضم السليم، وإنما كانَ يبتلعها تقريباً في نهم. إنه الجوعُ المزمن، المُتأصّل فيهما، علاوة على جشعٍ يُودّ إلتهامَ العالم بأسره في لقمةٍ واحدة.
عقبَ مُكالمةٍ هاتفية، قال دوغان لضيوفه: " والدتي، شاءت أن تبيت الليلة عندنا. سنكملُ سهرتنا في بار، بمركز المدينة، تؤمّه في العادة النخبة الثقافية ". عندئذٍ، أدرك دارين لِمَ كانت شيلان غائبة: " هيَ الآنَ، على الأرجح، في منزل والديها في أوبسالا. إنها لا ترغبُ بأن تكون موجودة، طالما حماتها في ضيافة الإبن "، قالَ في نفسه. وسيبقى في حوار داخليّ، ثمة في البار، طوال معظم وقت السهرة. في البدء، أقترحَ دوغان أن يشربوا البيرة. وقد شربَ خفيفو قدحه بسرعة وشراهة، قبلَ أن يُخاطب المُضيف بنبرة المُتسوّل: " أفي وسعي طلب قدح صغير من النبيذ؟ ". جيء بالقدح الصغير، وما عتمَ أن شحنَ دمه بحرارةٍ إنتقلت إلى لسانه: " أنا مُوقنٌ بأنّ جائزة نوبل ستكرّمُ أخيراً الأدبَ الكرديّ، وذلك بعدما وصلت رواياتك إلى العالميّة! "، خاطبَ الكاتبَ الكبير في رصانة. هذا الأخير، وصلت إبتسامته إلى طرف أذنه لشدّة بهجته بالنبوءة. هكذا حلّقت المدائح والنبوءات في جوّ البار، لساعةٍ أخرى. وإذا دارين، يندفعُ دونَ تروّ إلى التنويه، بأنّ أحد أهم شروط القراءة الأدبية هوَ توفّرها على المتعة. إضمحلت إبتسامة الكاتب الكبير، فيما كانَ يتنحنحُ في بعض الحَرَج. قالَ مُتسائلاً: " هل تعني، أنّ رواياتي تفتقدُ لشرط المتعة؟ "
" رواياتك تهتم بالفكرة، وليسَ بالحبكة، وهذا تقليدٌ أضحى شائعاً أولاً في الرواية الفرنسية على يد آلان روب غرييه وآخرين "، ردّ دارين بجوابٍ ديبلوماسيّ. تنهّدَ الكاتبُ الكبير بإرتياح، وقالَ مُستعيداً إبتسامته الجميلة: " أنا لم أهتم بأيّ موجةٍ أدبية حديثة، خلا التأثّر المعتاد بكلاسيكيي الرواية ـ كبلزاك وهيغو ودستويفسكي "
" لهذا السبب ربما، لاحظتُ أن أسلوبك ما زالَ قريباً من الأسلوب الكلاسيكيّ "
" أهذا صوابٌ أم نقيصة؟ "، تساءل المُضيف مع إيمائةٍ مُتسامحة. هنا، تدخّل خفيفو في النقاش وكانَ قد شرعَ بقدح النبيذ الثالث: " الأعمال الكلاسيكية خالدة، وستظل الأجيال القادمة منفتحة عليها. بينما الكثير من الأعمال المُعاصرة، ستموتُ بموت مؤلّفيها ". ثم أستدرك بالقول، موجهاً خطابه للكاتب الكبير: " أعمالك معاصرة بالطبع، إلا أنها ستنعم بالخلود كالمؤلّفات الكلاسيكية! ". ربما لحظ دوغان أن الخمرة لعبت قليلاً بالرؤوس، ولذلك شاءَ أن يُحوّل الحديث بعيداً عن إبداعه الأدبيّ. أومأ إلى ناحية دارين، ليسأل إبنيّ العم: " قرأتم على ما أعتقدُ قصائدَهُ، فكيفَ وجدتموها؟ ". أمسك كلاهما عن الجواب، وكما لو أنّ لسانيهما مشدودان إلى حبلٍ صوتيّ واحد. أستمر الصمت زهاء دقيقة، ما جعلَ المُضيف ينقل عينيه بين المعنيين في شيءٍ من الحيرة. كانَ في وسع دارين إحراجَ الثعلب الكبير، بذكر رسالته، لكنه آثرَ بدَوره أن يحتفظ بالصمت: لقد أدرك الآنَ، وليسَ دونَ شعورٍ بالإحباط، كم كانَ مُغفلاً حينَ أعتقدَ أنه كسبَ صديقين، يُشاركانه قدَر الكتابة. الغريب، فكّرَ آنئذٍ، أنّ أحدهما يكتب بالكردية؛ فلِمَ يُثار فزعه مِمَن يكتب بالعربية لو كانَ أكثر منه موهبة: " إنه الشعورُ برابطة القرابة، يا للمهزلة!، مَن حكمَ عليه إتخاذ هكذا موقفٍ. كان يجب تمهيد طريق إبن العم إلى المجد الأدبيّ، مع علمه الأكيد بإفتقاره إلى الموهبة. وهوَ يظنّ، على الأرجح، أنني حجرة عثرة في ذلك الطريق ".
تظاهرَ دارين بعدم الإكتراث، قانعاً بفكرته عن الثعلبين. وها هوَ أحدهما، يشتعلُ حماساً على حين فجأة: " رواياتك يجب أن تترجم إلى العربية، التي أضحت في مصاف لغات الأمم الراقية عقبَ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل مؤخراً "، خاطبَ خفيفو المُضيفَ. هذا الأخير، هزّ رأسَهُ مُوافقاً. ثم تساءل لو كانَ ثمة مترجمٌ جيّد، يُمكن التواصل معه. بادرَ إلى الإجابة الثعلبُ الكبير، مُسمّياً إبن عمٍ له، مُنوّهاً بمقدرته على إضفاء لغة جزلة على أيّ نصّ يُترجمه. ثم قدّمَ الآخرُ شهادته عن إبن العم، قائلاً بصوته المُتذلل والخانع: " إنه رجلٌ فقير، يحيا عيشة الكفاف. لو أرسلتَ له مائتي كرون، فإنها ستشحذ طاقته على البدء حالاً بالترجمة ". قال له الكاتبُ الكبير، وقد إشتعل بنزين حماسته أيضاً: " أنا أمنحه حق ترجمة إحدى رواياتي، ومن ثم نشرها. لا أشترط إلا أن تكون الطبعة جيدة، لناحية الورق والغلاف ". ثم أضافَ، بعدما أخرجَ من محفظته ورقتين من فئة المائة كرون: " ليسَ من الضرورة، إعلامه أنني مَن أرسلتُ هذا المبلغ البسيط ".
لاحقاً، في نفس الليلة، ذهبَ دوغان إلى منصّة الهاتف، بغيَة الإستفهام من عمرو بشأن تأمين مبيت لدارين. لما أختلا هذا الأخير بإبنيّ العم، عبّرَ عن إمتعاضه من أسلوب التسوّل: " لم يكن من اللائق، قبولُ هكذا مبلغ تافه. كانَ في وسع كلّ منا تأمين مائتيّ كرون للرجل، وأيضاً الطلب من زورو أن يُساهم بذلك ". ردّ خفيفو في سخرية، محوّلاً الموضوعَ إلى ناحية أخرى: " زورو؟ إنه لن يدفع عشرين كروناً لوالده إن كانَ بحاجةٍ إليه، لكي يشتري دواءً ينقذه من الموت المُحتم ". ثم أردفَ، مع إبتسامةٍ ماكرة على طرف فمه: " أما بالنسبة لدوغان، فإنني سأقولُ له عندما ينتهي إبن عمنا من الترجمة: لو أردتَ أن تُنشرَ روايتك بطبعةٍ قشيبة، فعليك أن تدفعَ خمسمائة دولاراً على الأقل! ".
لاحَ أنه لن يتحرك من مكانه، قبل أن يحتسي كل ما في الخمارة من شراب. إلا أنّ ابن عمّه ذكّره، أنهما على موعدٍ بعد قليل مع سهرةٍ أخرى. كانا سيمضيان إلى منزل تمّو، الذي سيبذلُ لهما مائدةً عامرة بالمازة والعَرَق التركيّ. النفّاج السكّير، قال لدارين حالما علمَ أن عمرو سيأتي بسيارته كي يصحبه إلى منزل أحد الأصدقاء: " إنك تضيّع وقتك مع شخصٍ فارغ، حياته قائمة على الكذب "
" عمرو ليسَ صديقي، وعلى أية حال فخصلة الكذب أقل سوءاً من خصلة النفاق! "، ردّ دارين مُقاطعاً كلامه. تجاهل الآخرُ ملاحظته، وتابعَ مُغمغماً: " وجلوسك في نادي أوبسالا لساعاتٍ بصُحبة المدمنين على البطالة والأقاويل، أية فائدة يُرتجى منها ؟ لا، الشاعرُ المبدع يجب أن ينأى بنفسه عن هكذا مخلوقات "
" أنا شاعرٌ مبدع حينَ أكونُ مُنفرداً معكما، أو على ورق الرسائل. أليسَ صحيحاً؟ "، أخرجَ دارين أخيراً هذه الحصى من قدمه وقذفها بوجهيهما. أنكمشَ كلّ منهما في فروته، ولم يحر جواباً. في الأثناء، كانَ الكاتبُ الكبير قد عاد. خاطبَ دارين بالقول، فيما بصره يطوف على ملامح إبنيّ العم، الواجمة الكامدة: " ستنتظر عمرو بعضَ الوقت، وأنا سأوصل صديقينا إلى مكان مبيتهما ".
5
في اليوم التالي، وكانَ الأحد، تهيأ دارين للعودة إلى أوبسالا في سيارة عمرو. كانا في ضيافة شاب من مواطني هذا الأخير، شقّته تقع ضمن عمارةٍ في مركز ستوكهولم، مُخصصة لذوي الإحتياجات. كانَ الشابُ مُقعداً، وذلك نتيجة إصابته بطلق ناريّ في عموده الفقريّ أثناء عبوره الحدود إلى سورية عقبَ الإنقلاب العسكريّ في تركيا. كانوا قد تناولوا للتوّ الغداء، لما إتصل دوغان بابن خاله. على الأثر، نزل دارين إلى مدخل العمارة ليجدَ الكاتبَ الكبير في إنتظاره بسيارته. فوجيء بوجود شيلان، وكانت مُستغرقة في أفكارها وهيَ جالسة بالقرب من رَجُلها. بالكاد ردّت على تحية دارين، وما لبثت السيارة أن مضت بهم. في خلال الطريق، ظهرَ التوترُ عليها عندما هتفت بنزق وإنزعاج: " لقد أجتزتَ الإشارة الحمراء "
" ياو، إنها كانت الإشارة الصفراء! "، صحّحَ لها الرجلُ ولم يكن أقل توتراً. واضحٌ أنهما تجادلا قبلاً، وربما على خلفية وجود الأم في ضيافتهما. بعد برهة قصيرة، وكانَ قد عاينَ من خلال المرآة الصغيرة علاماتِ الحَرَج على ملامح دارين، خاطبه دوغان مُتكلفاً الإبتسام: " أنتَ تعرّفت على الشاعر بيكس، أليسَ كذلك؟ "
" نعم، أظنني أخبرتك بأننا مُتعارفان منذ أن كانَ في دمشق "، ردّ دارين. هزّ الآخرُ رأسَهُ، ثم أوضحَ أنهم في سبيلهم للقاء معه في أحد المقاهي. ثم أردفَ الكاتبُ الكبير، بنبرةٍ تُعبّر عن الضيق: " بيكس، نقدّمه إلى النخبة الثقافية السويدية، فلا يعدو كلامه معهم عن مفردة التحية أو مفردة الشكر. هذا كل ما تعلمه من اللغة السويدية، هوَ مَن يقيمُ هنا منذ قرابة العامين. نفس المشكلة، عانيناها سابقاً مع الشاعر الراحل، جكَرخوين. أمرٌ غير مُحتمل، ألا يُجيد الأديبُ لغةً أخرى ـ كالإنكليزية أو الفرنسية! ".
ألتفتت شيلان على حين غرّة إلى دارين، وكانت ملامحها قد خلت من التوتر نوعاً ما: " في وسعك الحصول على منحة دراسية، لتعلّم الفرنسية في باريس. من ناحية أخرى، فإنها مدينة الفن. دوغان، سبقَ وأستفادَ من هذه المنحة، وأيضاً أستغلّ وجوده ثمة لعقد صداقات مع مشاهير الأدباء والفنانين ". عادَ رَجُلها ليحدّق بالضيف خِلَل المرآة الصغيرة، وما عتمَ أن قالَ في زهو أنه على معرفةٍ جيّدة بالشاعر السوريّ الأهم، المُقيم هناك قي باريس، مُسمّياً إياه: " عن طريقي، أمكنَ جلبه إلى ستوكهولم في العام المنصرم بدعوةٍ من المركز الثقافيّ الفرنسيّ، حيث أهتمت به وسائل الإعلام. كذلك صدرت له منتخباتٌ باللغة السويدية، عن دار شهيرة، صاحبها من أصدقائي المُقربين! ". صمتَ قليلاً، قبل أن يستطرد بنبرة نفاد صبر: " بالرغم من ملاحظتي آنفة الذكر، في شأن بيكس، فإننا نسعى الآنَ لتعريف القارئ السويديّ على شعره، فنحاولُ إصدارَ منتخباتٍ مماثلة ".
بدَورها، رجعت شيلان لمخاطبة دارين: " لو كانَ في مقدورك ترجمة قصائدك إلى السويدية، سيضمنُ دوغان نشرها في أهم مجلة أدبية، مُتخصصة بالشعر؟ "
" لغتي السويدية، ما زالت أضعف من أن تُسعفني في هذا الشأن "، ردّ دارين. وإذا بالكاتب الكبير، يُدلي بملاحظةٍ ما كانَ لها إلا أن تثيرَ أعصاب ضيفه: " نصيحتي لك، أن تهتم بتطوير قدراتك في مجال الرسم وألا تشغل نفسك بأشياء أخرى "
" العديد من الشعراء، كانوا بالأساس موهوبين بالرسم؛ نظير ماياكوفسكي ولوركا وألبيرتي "، علّقَ دارين وقد تلاحقت أنفاسه. إذ تراءت لمخيلته سحنتا ذينك الثعلبين، الذين محضاه شعورَ الحسد والضغينة. ثم أنتبه إلى نفسه، وأنه غالى في تقدير ذاته ـ كأيّ كاتبٍ مغمور. فأستدرك بالقول، موضّحاً: " شِعْري حازَ على إعجاب بعض أعلام الأدب في بلدي، وستسمعُ رأياً مماثلاً على لسان شيركو لو أردتَ سؤاله حينَ نلتقيه بعد قليل ". واصلَ دوغان هزّ رأسَهُ، وقد إتسعت إبتسامته: " بالتأكيد، سأكونُ مسروراً بذلك ". بعد قليل أيضاً، كانت سيارتهم تخترقُ قلبَ العاصمة وقد بدأت ندفُ الثلج تنزلق على زجاجها ـ كدموع بلا عزاء.
المقهى، كانَ يعتلي مدخلَ الغاليري، الكائن على طرف ساحة " سيرغل ". كانت واجهة المقهى الزجاجية متعرّقة من أبخرة المرتادين وعطورهم، وأيضاً مما فاهت به الأفواهُ من مدائح. فعلى طاولتين متقاربتين، جلسَ عددٌ من أولئك الروّاد، وكانت أحاديثهم بالكردية؛ وبالطبع، كانَ زوجُ الثعلب حاضرَيْن. واصلا كيل المديح بلا حساب للشاعر بيكس، مع وعدهما له بترجمة أحد كتبه للعربية. لم يتوقفا سوى لفاصلٍ قصير، فرضَهُ تحيّة القادمين الجدد. ما أن أبصرَ خفيفو إمرأةَ الكاتب الكبير، إلا ولسانه طفا مع رغوة الشبق. الجلسة الأدبية الحميمة، كانَ ينقصها حقاً وجودُ إمرأةٍ جميلة. بالأمس، في سهرة البار، قال الثعلبُ الصغير أنّ الإلهامَ الشِعْريّ يحضره حالاً عندما يستمع لإحدى سمفونيات بيتهوفن.. يا سلام! والمرأة الجميلة، أليست هيَ بحدّ ذاتها سيمفونية؟ لا غرو، وهوَ قد تجاوز سنّ الثلاثين منذ ثلاثة أعوام على الأقل، ألا يكون نتاجه الشعريّ أكثر من ثلاث قصائد، سيطويها في كتابٍ مُشترك مع إبن عمّه: فكيفَ كانَ في الوسع أن يُنتجَ المزيدَ، والسيمفونية الوحيدة في بيته، ثمة في البلدة الأولى، لم تعدُ عن كونها تلاوة لا تنتهي من آيات الذكر الحكيم بصوت والده الشيخ؟ وإمرأة الشاعر المُرهف، التي تركها ثمة مع أولادهما الثلاثة، أليسَ من المُفترض أنها سيمفونية بدَورها؟ أبداً. فها هوَ يصفقُ بحماس، لجملةٍ جرت على لسان بيكس: " بعد خمس سنين زواج، تصبحُ المرأةُ بمثابة شقيقة الرجل ". ربما قالها بيكس على سبيل الدعابة، لوجود الضيفة. على أية حال، فثمة سبب آخر يُجيز لخفيفو أن يتخلى عن إمرأته: إنها عربية، وكانت صالحة للمرحلة الأممية. أما الآنَ، فإنّ ضرورات المرحلة القومية تجبره على اللهاث ـ ككلب الصيد ـ وراءَ إمرأة كردية.
ثمة رجلٌ غريب بين الحضور، سرعانَ ما تمّ تقديمه لدارين. كانَ يُدعى، " رُوْرَش قادو "، معتقل سابق قد أطلقَ سراحه مؤخراً من سجن ديار بكر. كانَ شبيهاً بالمومياء، لو أخذنا بعين الإعتبار أن المصريين القدماء كانوا يحنطون حتى حيواناتهم المنزلية. صوته مزعج أكثر من سحنته، له أحقية الطغيان كون حديث صاحبه المفضّل هوَ ذكريات السجن. على الطاولة أمامه، بسط بروفات مرقّنة بالكومبيوتر، لكتابٍ عن سيرته كسجين. حينَ علمَ أن دارين رسّامٌ، طلبَ منه أن يخطط لوحاتٍ تعبيرية تتفق ومضمون الكتاب: " هذه النسخ لك، وآمل أن تنتهي من الرسوم في مدّة لا تتجاوز الأسبوعين "، قالها بصيغة الأمر المُبرم. مُحرجاً، تناول الرسّامُ النسخَ المطبوعة من الكتاب ودسّها في حقيبة الظهر، التي ترافقه دوماً. كانَ قد قررَ، سلفاً، أنه لن يتعاون مع هذا الرجل. ثم خلّصَ ضميرَهُ، لما إطّلعَ فيما بعد على بعض فصول الكتاب ووجدَ محتواها جميعاً قصصاً من نسج خيال الكاتب أو مما رآه في السينما؛ وبالأخص، فيلم " الجدار "، للمخرج يلماز غوني. كانَ خيالاً غثاً، وأسلوباً في غاية الركاكة بلغةٍ خشبية، مهجّنة. بعد نحو أسبوعين، دوّى سلكُ الهاتف بالصوت المزعج. أعتذر دارين بوضوح عن المهمة، بحجّة الإمتحانات المدرسية. قبل أن يُغلق السماعة بغضب، علّق الرجلُ بالقول: " كانَ عليك أن تخبرني منذ البداية، لأن هناك عشرات الرسّامين يتمنى أيّ واحد منهم أن يظهرَ إسمي مع إسمه! ".
في ذلك الصباح، في المقهى، بدا كأنها شيلان، وحدها، مَن حدست كيفَ ستكون ردّة فعل الرسّام إزاءَ عرض السجين السابق، المُتّسم بالسلاطة والصلافة. فإنها رمقت هذا الأخير بنظرةٍ ساخرة، فيما كانت تتابعُ حركة دارين وهوَ يضع البروفات المطبوعة في حقيبته. لكنها ما لبثت أن هتفت بصوتٍ عال، ونظرتها قد أنتقلت إلى مكانٍ آخر: " لقد تأخرتِ قليلاً، يا عزيزتي ". تلك القادمة، كانت نوشين، التي أسرعت الخطى كي تقبّل صديقتها بنعومة. ثم ظهرَ خلفها رَجُلها، الغندورُ، وقد أخفاه للوهلة الأولى قصرُ قامته. على الأثر، دبّت الحيوية في ملامح الثعلب الصغير. كانَ حتى ذلك الوقت يتكلم مع بيكس بالعربية، مُبرراً الأمرَ بصعوبة التفاهم بين الناطقين بلهجتين مختلفتين. لكنه إنقلبَ حالاً إلى الكردية، لكي يُلفت نظرَ الضيفة الجديدة بأهميته ـ ككاتب لا يشقّ له غبار. حينما كانَ الشاعرُ المخضرم يتكلم، كانَ خفيفو يُسجّل شيئاً من أقواله على دفتر صغير أمامه على الطاولة. نفس مأثرة التملّق والمُداهنة، سبقَ أن إجترحها مع دوغان في سهرة البار. شأن شيلان أيضاً، لم تعره الضيفة الجديدة أيّ إهتمام. في المقابل، أخذ دجلة يُتابع الحديثَ في ترقّب ونفاد صبر. ثم أهتبلَ سانحة صمت الشاعر، ليتوجّه بالكلام لزوج الثعلب: " ثمة مشروعٌ طموح، أرغبُ أن تكونا من المساهمين النشطين فيه. قريباً، سأقوم بإصدار مجلة أدبية، منذورة بشكلٍ حصريّ للغة الكردية. أعتمد عليكما في رفد المجلة بنصوصكما الشعرية، وأيضاً في وصولها لكرد سورية ". صمتَ الرجلُ بدَوره، كي يسمع رأيَ المعنيين بالدَعوة. لكن الثعلبين، أكتفيا بتبادل نظرة ماكرة تفيضُ بالتهكّم. ثم سرعانَ ما أستُبدلت بنظرة عطف وتشجيع، حينَ أستطرد دجلة بالقول: " سنُكمل حديثنا عن المجلة، ثمة في منزلي، على مائدة الغداء ". ذات الدعوة، ما عتمَ أن وجهها الغندورُ لدارين؛ إنما بصفته رسّاماً. هنا، وجّه بيكس نظرَ صاحب المشروع إلى موهبة الرسّام، الشعرية. قبل أن يُعلّق صاحبُ الشأن، نبرَ خفيفو لمخاطبة الشاعر وهوَ مُمتقع السحنة من الغل والغيظ: " هل قرأتَ شيئاً من قصائد سليمو؟ أوه، لا مجال لمقارنة أيّ شاعر بسليمو! ". المَعنيّ بالمَديح، كانَ ذلك الشاعر نفسه، الذي سبقَ أن دشّنَ حجرَ الأساس ل " بلدة الألف شاعر ". لن يتأخرَ زوجُ الثعلب عن الإتصال بمواطنهما ذاك، المُقيم في قبرص، لكي يجعلا من فقرات ظهره سلماً للمجد، يرتقياه على أنغام سيمفونية بيتهوفن، الشبيهة بإمرأة جميلة.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |