أملُ إبليس: عن الحاجز الحديديّ

دلور ميقري
2023 / 8 / 13

1
كانَ خالو، شأن معظم الريفيين، يتميّز بالحرص. فلم يكن يُنفق كروناً واحداً في الملهى. كانَ يتصرفُ كلّ مرةٍ بطريقةٍ غامضة، بحيث تجعل المُحصّل لا يُطالبه بدفع ثمن تذكرة الدخول، الباهظة نسبياً. فضلاً عن ضمانه، بصورة دائمة، مَن يدفع عنه ثمنَ الشراب. وغالباً، ثمة أحد المَعارف، يُعيده في سيارته من الملهى إلى المنزل بعد منتصف الليل. كانت سويديته ضعيفة للغاية، لكنه كانَ يعرفُ بعضَ الجُمَل، الضرورية لطلب إمرأة مُتهالكة إلى الرقص ومن ثم دعوتها لتدفئ فراشه. وكانَ حظه عندئذٍ، شبيهاً إلى حدّ ما بحظه مع محصّل التذاكر. إنّ حاجته الجسدية، ولا ريب، كانت تُحتّم عليه التواجد مرتين في الأسبوع بالملهى. لقد تركَ أسرَته في تركيا، تتعيّشُ من إيراد الأرض. مرة واحدة، لا غير، دعا إمرأته المُسنّة إلى زيارته وكانَ الوقتُ صيفاً. عندما كانَ يعود من الملهى في الثالثة فجراً، وضوءُ السماء ساطعاً، كانت تفيق من النوم، معتذرةً، كي تسأله ما لو كانَ يرغبُ بتناول طعام العشاء. المرأة المسكينة، كانت تظنّ حينئذٍ أنها ساعة الأصيل. إلى ذلك، كانَ يؤجّر حجرة النوم لأحد الطلبة، ويقنعُ هوَ بالمبيت في صالة الإستقبال. في النادي، إعتادَ أن يقف كالمتسوّل، لكي يحصل مجاناً على طبق من طعام المطبخ. وكانَ يجب أن تمتلئ معدته أولاً، وإلا لكانَ من الصعب عليه إتحاف الآخرين بأفكاره، المُستمدّة من تجاربه السياسية وخبرته النضالية. في إحدى المرات، عقبَ مذبحة " حلبجة " الكيماوية، مدّ له أحدهم يدَهُ بعلبة جمع التبرعات للضحايا. فصرخ فيه خالو بغضب: " كيف تجرؤ على هذا؟ ألا تعلم من أنا! ". لقد شعرَ بالمهانة، وربما كانَ يؤمنُ بأحقيته في نيل تلك التبرعات.
ذاتَ مرّة، روى آلان لصديقه دارين واقعة، وصفها بالمُشينة. كانَ مع زميلٍ جامعيّ، من المكسيك، ثمة في ملهى " ألكسيس ". وصادفَ أنّ شقيقة الزميل، الصغيرة، كانت مع صديقاتها في الملهى. وإذا خالو يتقدّم من آلان، لكي يتكلم معه. فقامَ بواجب التعريف، مُقدّماً العجوزَ للشقيقين بأنه من المناضلين الكرد المعروفين. عندما طلبَ هذا الأخير الفتاةَ للرقص، فإنها أعطته يدها وهيَ مُبتسمة. بعد قليل، آبت إلى الطاولة، أينَ يجلسُ شقيقها مع آلان: " ذلك العجوز، طلبَ مني مُرافقته إلى الفراش! "، قالتها ضاحكةً ومتضرّجة الوجه.
كل تلك المعلومات عن العجوز، كانَ دارين يعرفها. مع ذلك، وشفقةً بحالته النفسية على أثر التصرّف المُعابث لنورو، ضيّفه كأساً من البيرة. كعادة أمثاله من اللئام، لم ينبس خالو بكلمة شكر. ثم ما عتمَ أن نهضَ مع كأسه إلى طاولة أخرى، أحتلتها إمرأة بدينة تخفي غضون بشرتها تحت طبقاتٍ من المكياج. جيجي، المُتعب من الرقص، أخذ مكانَ العجوز. ثم جاء رفيقهما لوحده حينَ توقفت الموسيقى. أمسك نورو بزجاجة النبيذ الفارغة، وخاطبهما بالقول: " لقد دفعتُ ثمنها، فهلا يتكرّمُ أحدكما بجلب واحدة جديدة؟ ". لكنهما تجاهلا طلبه، كونهما يشربان البيرة. عندما يئسَ منهما، قام إلى البار كي يأتي بكأس نبيذ. بعد قليل، نفدت سجائره. مدّ يده إلى علبة سجائر جيجي، إلا أنّ هذا سحبها ولوّح بها قائلاً: " إنها بالكاد تكفيني "
" أتضنّ عليّ بسيجارة، أيها الشاميّ؟ "
" لأنني شاميّ، أريدُ أن أستغل وضعكَ. ستدفعُ عشرَ كرونات ثمنَ السيجارة! "
" أتتكلّم بجدّية أم مزاحاً؟ "
" لا مكانَ للمزاح في التجارة "
" بالفعل، أنتَ ولدٌ ووضيعٌ أيضاً "، دمدمَ نورو بحنق. عند ذلك، مدّ جيجي يدَهُ بسيجارة لصديقه اللدود: " كنتُ أمزحُ معك ". أمسك نورو السيجارة وكسّرها بين أصابعه، وكذلك فعلَ بالسيجارة الأخرى. قال دارين للرجل المُتجهّم الوجه، مُحاولاً ترميمَ الموقف: " ليسَ لك الحق، بعدما عرفتَ أنه مزاحٌ ". وإذا بأحدهم يميلُ عليه، ليقولَ بصوتٍ خشن: " ألا تعلم أنه محظورٌ، الدخول إلى الملهى بحذاء الرياضة ". كانَ رجلاً طويل القامة، متين البنية مثل المصارعين. ملامحه، دلّت أنه من الحوض الغربيّ للمتوسّط. لقد كانَ صاحب الملهى، وهوَ رجلٌ يونانيّ. ردّ دارين ببساطة: " ولكنني دخلتُ، وأنتهى الأمر "
" لا أعرفُ كيف سمحَ لك الحراسُ بالدخول، ولكن عليك مغادرة المكان حالاً "، قال الرجلُ في صرامة. هنا، تدخّلَ جيجي لمخاطبته بالإنكليزية: " إذا منعته من البقاء، فإننا سنمشي معه أيضاً "
" أنتم أحرار، تبقون أو تخرجون معه "
" إذاً، تدفع لنا ثمنَ تذكرة الدخول والمشروب والتكسي! "
" كم ينبغي أن أدفع؟ "
" ألف كرون "، نطق جيجي الرقمَ في نعومة. أخرجَ الرجلُ محفظته، ثم سحبَ ورقتين من فئة الخمسمائة كرون. مدّ جيجي يدَهُ، لكن الرجلَ أعطى المبلغَ لدارين: " أنا آسف، هكذا هوَ قانون الملهى ". في الخارج، كانَ نورو في غاية الغيظ والتذمّر. لما رفضَ بعناده المُعتاد تقاسمَ المبلغ، المَسلوب من صاحب الملهى، سحبَ جيجي إحدى الورقتين من يد دارين ووضعها في جيبه.
دارين، شعرَ أنه أرتكبَ خطأ فادحاً حينَ أخبرَ الغندور أنه حالياً بدون صديقة. فإنّ هذا الأخير، البارع في إنتهاز الفرص، صارَ يحضر متى شاءَ إلى شقّة صديقه ويتصرّف كأنها شقّته. وها هوَ يأتي في أحد الأيام مع رفيقٍ من المُعسكر، قدّمَ نفسَهُ بنبرةٍ فخمة: " أنا شكري من عفرين، خريج جامعة بلغراد ". كانَ كرفيقه، في أواخر العشرينيات، لكنه ذو بنيةٍ رياضية مع شَعر طويل معقود إلى الوراء. كذلك، ظهرَ فيما بعد أنه من نفس المجرور الصحيّ. فإنه لحقَ جيجي إلى المطبخ، ففتح الثلاجة وراحَ يلتهمُ واقفاً هذه التفاحة وتلك الخيارة. قضى أكثر من ساعة يتحدث عن ممثله المفضّل، سيلفستر ستالوني، مُستعيداً مشاهدَ أكشن من سلسلة أفلامه؛ " رامبو ". في صباح اليوم التالي، حينَ كانَ شكري في الحمّام، قال رفيقه لدارين: " ما شاء الله على معدة الديناصور، فإنه أفاقَ في منتصف الليل وأفرغَ فيها معظمَ محتويات الثلاجة ".
في النادي، وجدوا ملّاك الأراضي ضمنَ حلقةٍ من الرجال، كانَ جلّهم من كرد لبنان. عندما أنضمّ دارين للمجلس، خاطبَهُ أحدهم بدعابة: " والله أعطيتم نورو حقّه، ثمة في الملهى ". عادَ المَعنيّ لتكرار الشكوى، وهوَ ينفثُ دخانَ سيجارته: " أحدهما أمتنع عن شراء النبيذ، والآخرُ ضنّ عليّ بسيجارة ". وإذا شكري، يدخلُ على الخط. علّق عندئذٍ بالقول، مومئاً إلى ناحية دارين: " فوقَ ذلك، يستقبلُ ضيوفَهُ بثلاجةٍ فارغة! ". بعد قليل، جاء سكرتير النادي وتكلّمَ مع معدة الديناصور. كانَ الرجلُ من نفس قريته، يكنّ وداً لدارين لأن شقيقيه متزوجين من كرد الشام. قال شكري، عقبَ ذهاب الرجل: " إنه طلبَ مساعدتنا في ترميم سقف فيلا، أشتراها حديثاً ".
في اليوم التالي، ركبوا الحافلة إلى تلك الفيلا؛ وكانت تقعُ في حيّ " سيفيا "، البعيد عن مركز المدينة. ثمة، شمّر شكري وجيجي عن ساعديهما وأخذا يعملان في إزالة خشب السقف القديم. هنيهة أخرى، وجاءت زوجة سكرتير النادي. كانت ضئيلة الجسم، ملامحها تشي بقدْرٍ معقول من اللؤم. حدجت دارين بنظرةٍ حادّة، ثم عقفت فمها على الطريقة القروية: " أنتَ، لِمَ تقف هكذا ولا تقوم بمساعدتهما؟ ". بالرغم مما يتصفُ به خلق دارين من التحفّظ والحياء، فإنه ردّ عليها بضحكةٍ ساخرة. في شقّتها، على مائدة الغداء، بقيتَ ترمقه بنظراتٍ مسمومة. كأنما كانت تقولُ: " بأيّ حق تأكل طعامنا؟ ". على المائدة، كانَ ثمة ضيفة من أقاربها. صارت تتغنّجُ لدارين، وتُطلق ضحكاتٍ ماجنة. كانت خريجة جامعية من إحدى الدول الإشتراكية، وتبيّنَ أنها كانت زميلة لإحدى قريباته: " إنها جميلة جداً، وكانَ لها علاقات كثيرة! "، خاطبت دارين وهيَ تغمزه بعينيها.
بقيَ شكري في ضيافتهم، كونه سيفيقُ باكراً كي يواصل العملَ في السقف. في خلال الطريق، قال الغندورُ لدارين: " تلك القحبة، بالرغم من أنها متزوجة وأم لطفل، ركبها في المُعسكر العديدُ من اللبنانيين والفلسطينيين. كانَ واضحاً، أنها مُعجبة بك "
" وهل ركبتها أنتَ بنفسك؟ "
" لا، لقد مثّلت دورَ الشريفة لأنني صديقُ شكري "
" أنسَ أمرها، إذاً "، قال دارين بضيق. كانَ يعرفُ زوجها، وهو شاب في غاية الوسامة واللطف، درسَ في دمشق ثم سافرَ إلى تلك الدولة الإشتراكية كي يحصل على الدكتوراه. بعد مضيّ خمسة عشرة عاماً من ذلك اللقاء بإمرأة الرجل، إجتمعَ دارين معه مُصادفةً في مؤتمر للمعارضة في باريس. كان في حالة بائسة، اضطرته أن يترك ألمانيا بعدما أنتظر الإقامة لسنين عديدة. ولم يكن لديه أمل، في أن يكون حظه أفضل في فرنسا. قال لدارين عن إمرأته، وعلى شفتيه ابتسامة قهر وحزن: " لم تكتفِ بتطليق نفسها، فيما كنتُ أنتظرُ الفيزا من السفارة السويدية، بل إنها حرمتني أيضاً من رؤية أبني طوال الأعوام المنصرمة ".

2
من شرفة شقّته، أطلّ دارين صباحاً على منظر انّيكا وهيَ تتشقلبُ. كانت تعرضُ فَرْجَها، المُتأجج بالرغبة، على كل من يريد الفرجة مجاناً. أدركَ، عندئذٍ، أنها بالفعل فتاة قاصر؛ لكنّه قصورٌ في العقل، وليس لكونها في الخامسة عشرة من عُمرها. لما ألتقت أعينهما، أراد تركَ الشرفة، وإذا به يلمحُ جيجي. كانَ مُتأبّطاً ذراعَ إمرأة جميلة القوام، بيضاء البشرة، تبدو في الأربعين. كانَ هذا، آخر ما يتوقّعه من تصرّفات الغندور، المُستهترة. أستقبلهما بلطف، على أيّة حال. لما عرفَ أنها تشيكية، تبادلَ معها بضعَ عباراتٍ باللغة الروسية. كانَ اسمها، " إيفا "، قدّمت اللجوءَ في السويد بزعم أنها يهودية. ما لبثَ أن لحقَ جيجي بالمُضيف إلى المطبخ، وقال له: " إذا كنتَ تشتهي المُضاجعة، فسأتولى أمرَ إقناعها. هيَ طيّبة، وبسهولة تسلّم نفسها ". لكنّ دارين، المَعروف بأنفته، رفضَ هكذا أسلوب من التسوّل الجنسيّ. غمغمَ الغندورُ بطريقةِ طفلٍ، يعرفُ أنه مُذنبٌ: " جاءت معي كي نسهر في الديسكو، ولا مفرّ من أن ننام هنا. أما لو كانَ لديك رأيٌ آخر، فسنبقى ساعةً أخرى وننصرف؟ "
" لا يوجد سوى سريرٌ واحد، كما ترى. ولكن أبقيا، لكي نتناولَ الغداءَ معاً "، ردّ دارين. مثلما علمنا، كانَ قد أوصدَ بابَ الحجرة الأخرى، تجنّباً للإحراج لو طلبَ صديقه مشاركته في الإقامة بالشقّة. بعدَ الغداء، مضت الساعات. لاحَ أنّ الغندورَ نسيَ ما فاهَ به المُضيف، بشأن تعذّر مَبيت الضيفة. كانَ يتحدث مع رفيقته بالإنكليزية، وعندما يستعصي عليها فهم إحدى العبارات، يطلبُ من دارين الترجمة إلى الروسية. حينَ علمت إهتمامَ المُضيف بالأدب، سألته ايفا ما لو كانَ قد قرأ شيئاً من مؤلفات مواطنها؛ ميلان كونديرا. وقد أدهشها، لما صارحها بأنه يسمعُ باسمه لأول مرّة. قطعَ الحديثَ مكالمةٌ من نورو، الذي سأله لو كانَ يرغب بالسهر في " البالديس ". جذبَ جيجي السماعةَ من يده، ليؤكّد للمتّصل أنهم سيلتقون معه في الملهى بعد التاسعة. كانَ قد بقيَ للموعد زهاء ثلاث ساعات، فنهضَ دارين لإعداد مائدة المازة والشراب. شاركتهما إيفا باحتساء الفودكا، لكنها شربت باعتدال. عندما حانت ساعة الخروج، هتفَ جيجي ضاحكاً حين رأى صديقه ينتعلُ الحذاءَ الرياضيّ: " أأنت تتعمّد ذلك، لكي تكسب ألف كرون؟ ". لكنّ دارين، عقبَ تنبيهه، عاد وأستبدل الحذاء.
كانَ ملّاك الأراضي قد سبقهم بالمجيء إلى الملهى، وقد جلسَ إلى الطاولة يعدّ سجائرَ اللف بوساطة الجهاز الدقيق الحجم. قال له جيجي، مُوبّخاً: " أوقف هذه المسخرة، إنك فضحتنا ". ردّ عليه الآخرُ، فيما يرمقُ بطرف عينه المرأةَ التشيكية: " يا أخي، أنا متخلّف ". الفرقة الموسيقية، كانت في الأثناء تقدّمُ وصلةً هادئة. فأمسك الغندور بيد رفيقته، داعياً إياها للرقص. تساءل نورو فيما يُتابعهما بعينيه، كأنما يكلّم نفسه: " كيفَ في الوسع أن يحظى بهكذا فَرْج نظيف، لو لم يكن بندوقاً؟ ". عند ذلك، تذكّر دارين أنّ ملّاك الأراضي يقيم في شقّة شقيقه، الذي سافر إلى الوطن مع عائلته. فعرَضَ عليه أن يستضيفَ جيجي ورفيقته، لهذه الليلة. قال الرجلُ، مُعتذراً: " أنا مؤتمنٌ على الشقّة، فلو أنّ الأمرَ سهرةٌ على الكأس فلم أكن لأمتنع. فلا تُحرجني، يا صديقي ". لحُسن الحظ أنّ جيجي، اللجوج في إنتهاز الفرص، ما كانَ على علمٍ بسفر شقيق نورو. لكنّ إيفا، حلّت المسألة ببساطة؛ ودونَ قصدٍ، بالطبع. فإنها بعدما طلبها دارين لحلبة الرقص، وجدت أنه ليسَ من الذوق ألا يفعل ذلك أيضاً صديقهما. فكم كانت غبطة ملّاك الأراضي كبيرة، حينما أرادت منه أن يُراقصها. قال لجيجي، غبّ عودته من حلبة الرقص: " في الوسع أن تبيتَ مع رفيقتك عندي، لأنّ شقّة دارين هي كما تعلم ". بعد منتصف الليل بقليل، أعربت إيفا عن رغبتها بالذهاب، كونها أستيقظت باكراً.
" لِمَ لا تُكمل السهرةَ لديّ، فإنني لن أنام على أيّة حال قبل ساعتين أو ثلاث؟ "، قدّمَ نورو هذا الإقتراح لدارين. ثم أضافَ: " لدينا حجرة أخرى للأطفال، وأنا سأنامُ في الصالون ". كانوا قد خرجوا إلى الشارع، بانتظار مَن يوصلهم بسيارته. " نيازي "، وهوَ رجلٌ أربعينيّ من كُرد لبنان، كانَ قد عرَضَ على صديقه نورو أمرَ التوصيل. إنه معروفٌ بشهامته وكرمه، بالرغم من إبتلائه بالإدمان على الخمر والمخدرات. كذلك، كانَ عاطلاً عريقاً عن العمل. أيضا، كان على مودّةٍ مع دارين. في النادي، ذات يوم، أشار إلى هذا الأخير، مُخاطباً بعضَ كرد تركيا: " إنه يتكلمُ لغته القومية، مع أنّ عائلته مستوطنة في الشام منذ قرنين من الزمان ".
الشقّة المَقصودة، كانت تقعُ في منطقة " كفارنياردت " على طرف مركز المدينة، فسيحة ومؤثثة بذوقٍ راقٍ. في الحال، أتّجه جيجي مع رفيقته إلى حجرة النوم. شيّعهما المُضيف بنظرةٍ مُتحسّرة، ثم قال لدارين: " ابنُ الحرام، يتعمّدُ تركيبَ قرونٍ لنا! ". ثم أنتهى إلى الفترينا، ليجلب منها زجاجة ويسكي. نبهه الضيفُ إلى أقداح الكريستال ثمة، فقال نورو مُعتذراً: " إنها ذكرى عزيزة على شقيقي من أيام دراسته في براغ "
" أنا لا أستسيغُ شربَ الخمر بأقداح الشاي "
" يا أخي، أخشى أن يُكسر الكريستال عند الشرب أو الجلي "
" لو أنّ ذلك الفَرْج النظيف، القادم من براغ، طلبَ الكريستالَ لما أعترضتَ أبداً "
" معكَ حق، والله! "، قالها نورو ضاحكاً. ثم عاد إلى الفترينا، فأخرجَ قدحين من ذلك البلور النادر. أطفأ النورَ القويّ، المنبعث من ثريا في السقف، وأكتفى بنور الكلوب الجانبيّ الضعيف. أستمرا بالشرب ساعة أخرى، فيما جهاز التسجيل يترنّمُ بصوت صباح فخري. أكثر من مرّة، أعاد دارين سماعَ أغنية " أتاني زماني ". علّقَ المُضيف بلسان ثقيل، مُتسائلاً ما لو كانَ للأغنية ذكرى ما. أجابَ دارين، وكانَ السكرُ قد نال منه أيضاً: " إنها ذكرى ليلة بعيدة، ثمة في مدينة اللاذقية؛ ليلة رأس سنة. آنذاك، كنتُ أخدمُ عسكريتي وعلى علاقةٍ مع إمرأة ميكانيكي بحّار، كانت تعيشُ مع طفلتها ووالدتها في شقةٍ صغيرة بحيّ مار تقلا ". كان يُنهي كلامه، حينَ تصاعدَ غطيطُ نورو رويداً ثم أضحى مُزعجاً. تهيأ لايقاظه، وإذا باب حجرة النوم يُفتح. مرقت ايفا بجسمها المصقول ـ كما كريستال بلدها ـ وهي في طريقها إلى الحمّام. كان ردفاها المستديران، الممتلئان، يترجرجان بشكلٍ مثير؛ بشكلٍ جعلَ دارين، بدَوره، يتنهدُ في حسرةٍ. حينما كانت تهمّ بفتح بابَ الحمّام، ألتفتت إلى ناحيته وكأنما فوجئت بوجوده في الصالة. رشقته بابتسامةٍ مُعابثة، ثم ما عتمَ أن تلقفها الحمّام بعريها العارم. مع صدور الهدير الخافت للدوش، تخيّلها مُقرفصة في البانيو، وهيَ تُفرغ الحليبَ المتخثّر بمساعدة دفقات الماء. لم يشأ هذه المرة إيقاظَ المُضيف، إلا بعدَ خروج المرأة من الحمّام وعودتها لحجرة النوم.

3
على مائدة الإفطار صباحاً، وكانَ الوقتُ ظهراً في حقيقة الأمر، كانت إيفا ترمقه بنظرةٍ، شقيقةٍ لإبتسامة الأمس. في الأثناء، كان رفيقها والمُضيف قد أستهلا النقارَ المُعتاد. قال هذا الأخير، بنبرة إنزعاج: " عندكَ الجبن والزعتر والزيتون، فلمَ التذمّر كالنساء؟ "
" هل رأيتَ في حياتك، يا رجل، إفطاراً مع برغل مخلوط باللبن؛ ومن بقايا غداء الأمس؟ "
" يا أخي، أنا حرّ بمعدتي. لكنك تشكو، في الحقيقة، لعدم وجود حمّص وفلافل "
" لعلمك، الفطورُ الشاميّ لا يحتوي على الحمّص والفلافل والفتّة إلا يوم الجمعة "
" الآن دَعنا من الفطور الشاميّ، وحدّثنا عن الفَرْج التشيكيّ! "، قالها نورو غامزاً بعينه. وكانت الضيفةُ تنقلُ بصرَها بين المُتجادلَيْن، ولعلّ الفضولُ تملّكها لمعرفة ما يُقال. علّقَ رفيقها على كلام الآخر، مُظهراً لسانه: " أحدثتُ فيه بركةً صغيرة من اللعاب، فيما كانَ غطيطك يملأ الشقة وربما العمارة جميعاً "
" أليسَ لنا نصيبٌ من هذا الرزق؟ "
" ماذا تعني؟ "
" يعني ساعة لك وساعة لصديقك "
" هل قيل لك، أنني قوادٌ؟ "
" لا حول ولا قوة إلا بالله "، ردّ نورو ضاحكاً وقد سرّ بنجاحه في إغاظة صديقه اللدود. وكانَ جيجي قد ألقى نظرةً سريعة على دارين، كأنما يتساءل ما لو كانَ قد أخبرَ نورو بأنه عرَضَ عليه يومَ أمس مضاجعة رفيقته. لم يقنع بملامح صديقه البريئة، فكلّمه بهذا الشأن لما تركوا المُضيف في الشقّة وساروا في الطريق إلى مركز المدينة. أجابَ دارين، مُتّخذاً لهجة إستنكار: " ما هذا السؤال السخيف؟ أممكن أن يصدرَ عني هكذا تصرّف؟ "
" عفواً، أنا قصدتُ أنك ربما قلت له ذلك على إعتبار أنها إمرأة سهلة المنال "، ردّ الغندور. ثم ما لبثَ أن قبضَ على خصر صديقه، ورفعه في الهواء مُقهقهاً: " يا رجل، أنتَ من وزن الريشة! ". مبعث أستهجان دارين، لم يكن في حقيقته إلا على ضوء مقته للنفاق. وقد كانَ على صواب، في آخر المطاف. ففي صباح السبت التالي، خابره الغندورُ وقال له في إنشراحٍ يليقُ بمتفائل: " إيفا ترغبُ بأن يرافقها أحدٌ إلى البحيرة، كونها لا تعرف الطريق إليها. وبما أنّ موعداً مهماً يمنعني، أقترحتُ عليها أن ترافقها بنفسك. ما رأيك؟ "
" ليسَ لديّ أيّ مواعيدٍ، تمنعني من مرافقتها "، ردّ دارين ثم عيّن للرفيقة مكانَ وساعة اللقاء. وصلت إيفا في الموعد المحدد تقريباً، وكانَ ينتظرها عند مخزن " أولينز ". كانت متأنّقة وبكامل مكياجها، كأنما لم تأتِ للسباحة. كان يوماً جميلاً، وعطلة نهاية الأسبوع أيضاً. وقد غصّ مركزُ المدينة بالحسان، اللواتي برعنَ بكشف أجسادهن بعدما حُجبت تحت المعاطف الثقيلة طوال الأشهر المنصرمة. السويديون، يعشقون صيفهم لو كانَ حاراً؛ ومن النادر أن يسافروا إلى الخارج، لتمضية إجازاتهم السنوية. ذوات الخدر، السائرات في السوق زرافاتٍ ووحداناً، لا يتسلل الحرّ إلى حجاب الواحدة منهن أو جلبابها. إنهن لا يكشفن أجسادهن إلا لبعولتهن في حجرة النوم؛ أو للجنّ في حمّام المنزل.
حينَ همّ دارين بالسير في إتجاه موقف الحافلات، المؤدي إلى البحيرة، قالت إيفا مومئة للمخزن: " أرغبُ أولاً بشراء بيكيني ". فأقترحَ عليها شراءَ سترة السباحة من المخزن الآخر، " آتش إم "، كون أسعاره رخيصة. ثمة في ذلك المخزن، أنتقت أكثر من سترة كي تجرّب تلكَ المُناسِبَة. وقفَ ينتظرها أمام المكان المُخصص لتجربة الملابس، وكانَ رواقاً طويلاً ينفتحُ عليه نصفُ دزينة من الكابينات. وقد ظهرت من إحداها فتاةٌ بملابسها الداخلية، فهرولت إلى كابينة أخرى، ربما يشغلها صديقٌ أو صديقة. بعد قليل، أطلّ رأسُ إيفا من وراء الستارة: " أدخل، لكي أسمع رأيك بالسترة ". عندما دخلَ، كان وجهها إلى المرآة. رأى ردفيها كأنهما عاريين، وقد شقّهما الخيطُ الرفيع للسروال. أدارت نفسها إليه، وقالت مُتأففة: " أنظر، كيفَ شَعرُ فَرْجي ظاهرٌ من أمام. لا، هذا لا يُناسبني أبداً! "
قال دارين: " في حقيقة الأمر، إنه لا يلفتُ النظرَ؛ كونه موضة الفتيات هذه الأيام "
" آه، فهمتُ الآنَ لِمَ هوَ أغلى من البيكيني المألوف "، قالت ذلك ثم خلعت السروالَ قبل أن يخرجَ رفيقها. كأيّ شرقيّ، كانَ لا يعجبه كثّة القشّ، المُغطية الفرنَ. مع ذلك، غادرَ الكابينة مع إنتفاخٍ في بنطاله، جعلَ السحّابَ مَقلوباً تقريباً. على الأثر، خرجت بدَورها وأتجهت معه إلى الصندوق. بطبيعة الحال، قام الرفيقُ بدفع ثمنَ بيكيني الخيط غالي الثمن.
لفظتهما الحافلة عند المفترق، المُفضي إلى البحيرة من جهة " فوردسترا ". وكانَ الدربُ ضيّقاً ومُتعرّجاً، تظلله هاماتُ الأشجار وتكتنفه خمائلُ الزهور البريّة. فيما الطيورُ والهوامُ تسبحُ بسعادةٍ في السّديم مع موسيقاها العذبة، المُشكّلة سيمفونية مُنسجمة. ولعل الرفيقان كانا أكثر سعادة، مثلما عبّرَ عنه تبادلهما القبلات طوال الطريق. كانت إيفا هيَ مَن خلعت العذارَ أولاً، ومن ثمّ تخلى دارين عن تحفّظه. مع أنّه كانَ يعلمُ مسبقاً، من خلال تجربته ـ كطالب في الإتحاد السوفييتي ـ أنّ طبيعة المرأة السلافية تتسمُ بالطيبة والبساطة والليونة والعذوبة. قال لها ذلك، فعلّقت قائلة وهيَ تضمّه لصدرها الكبير ـ كطفلٍ صغير: " أنتَ أيضاً، تمتلكُ هذه الصفات ". ثم أستدركت: " أما إيثارك العزلة والنأي عن المجتمع، فلا أدري أهوَ طبيعة الفنان فيك أم لأنك خجولٌ وأنطوائيّ ". الملاحظة الأخيرة، أحالها إلى رفيقها الغندور، وكانَ هذا يسخرُ من طبيعته ويعدّها نقطة الضعف الأساسية فيه.
ما عتمَ أن وجّه لها دارين سؤالاً، كانَ يُشغله ولم يَجد مناسبةً كي يَطرحه على رفيقها: " هل أنتِ متزوّجة؟ ". أومأت برأسها نفياً، وقد غابت قليلاً إبتسامتها: " أنا مُطلّقة. تزوجتُ باكراً، وأنجبتُ بنتاً تدرسُ اليومَ في الجامعة ". لم يشأ دارين التمادي في الأسئلة الخاصة بحياتها في بلدها، وأكتفى بالتعليق مُبتسماً: " أنا بلغتُ الثلاثين في العام الماضي، ولم أتزوج بعدُ "
" أنتَ كأيّ فنان، لا تتنازل عن حريّتك حتى في سبيل تأسيس أسرة "
" وأنتِ؟ هل البحث عن الحرية، المفقودة في بلدان الحاجز الحديديّ، قد دفعكِ إلى اللجوء للسويد؟ "
" نعم، علاوةً على فقدان الأمل بمستقبلٍ يَضمنُ حياةً كريمة "
" عندما كنتُ أنشط في الحزب الشيوعيّ، كانوا يطنبون على مسامعنا بأنّ النظام الإشتراكيّ هدفُهُ الأساسُ تأمينَ حياةٍ كريمة للشعب "
" وأظنك بدَورك، شهدتَ بعينيك الحياةَ الكريمة في الإتحاد السوفييتي "، قالتها بنبرةٍ مريرة. سرعان ما فارقها ذلك الشعور، عندما هتفت بفرح: " البحيرة! ".

4
الغندورُ، كانَ قد أودعَ سرّاً صغيراً عند صديقه المُخلص. إنه مُقدِمٌ على الإقتران بفتاةٍ فنلندية، لم يسبق لها الزواج بالرغم من سنّها المُقارب الأربعين. كانت طبيبة أطفال، تعرّفَ عليها في أثينا حينَ كان يعملُ في إستعلامات أحد الفنادق: " لو رُفِضَ طلبُ لجوئي هنا في السويد، يُمكنني عندئذٍ الإقامة القانونية في فنلندا. إنها تكنزُ مالاً جمّاً، وقد وعدتني أن تفتح لي مطعماً. لكن ما كانَ في نيّتي خطبتها، لولا تأكّدي أنها بكرٌ! "، قال لدارين. الغندور، عندما كانَ في دمشق، وقبل أن يقترنَ بابنة خاله ويجعلها تتعثّر معه في حياةٍ كلها سوء فهم ومناكدة؛ قبل ذلك، كانَ قد خطبَ نصفَ فتيات الحارَة. كلمة " الخطبة "، كانت آنذاك تترددُ على لسانه أكثر من ذكر الله على لسان شيخ الجامع. إنها حالةٌ، كانت تستدعي العلاج النفسانيّ. لكنّ الصديق اللدود لجيجي، حينما ألمّ بعقدته، فسّرها ببساطة: " كونه منيكاً في حقيقته، فإنه يُريد أن يثبت للآخرين عكسَ هذه الحقيقة! ".
بعد بضعة أيام، إتصلَ الغندورُ هاتفياً كي يُخبر دارين أنه مسافرٌ إلى بلدة خطيبته، الكائنة على الحدود السويدية: " إنها تلحّ عليّ بالمجيء مذ وصولي للسويد، كونها عاشت حالة من الحرمان بعدما ذاقت طعمَ الذكر لأول مرة في حياتها! ". وكانَ صديقه على علمٍ، مُعززٍ بالتجربة، أنّ الفتاة الفنلندية، شأن السويدية، تُدخل الذكورَ بين ساقيها بمجرّد أن تبلغَ سنّ البلوغ. إن الواحدةَ منهن، جديرةٌ بلقب " الألفية "، وكانت قد حازته ـ بحسب أحد كتب التراث الشرقيّ ـ جاريةٌ شكت لمليكها بأنها غير مُشبعة جنسياً. فغضب الملك، ومن ثم جعلَ أفراد فرقة كاملة من الجنود يضاجعون جاريته. وكالعادة، يجب أن تُختتم الحكاية بمشورة من أحد أفراد الحاشية، عن ضرورة قتل تلك الجارية كي لا تُفسد بنات المسلمين.
ثم أوصاهُ الغندور بإيفا، وبنبرةٍ أقرب للتهكّم: " أضمنُ لك أنها تحبّك، لدرجة أن تمتنعَ عن مُعاشرة الآخرين في المُعسكر. هيَ مُناسبة لك في السنّ، كما أن كلاكما مثقفٌ، وبالتالي، معقّدٌ نفسياً! ". هذا المُنقلَب، المُتّسم باللؤم والجحود، أحاله دارين ولا غرو إلى ضمان جيجي لوضعه القانونيّ في فنلندا. كونه شَعَرَ أنه مُدينٌ له سلفاً، لو حصلَ على الإقامة في السويد، شاءَ أن يتحررَ من ذلك الدَيْن عن طريق " إهداء " إيفا له. هذا، مع أنّ خلق دارين البسيط كانَ يمنعه بأيّ شكلٍ من الإشكال من إظهار نفسه بمظهر رجل البرّ والإحسان.
إتفاقاً، أنّ إيفا دعت دارين إلى قضاء بضعة أيام في المُعسكر، الذي علمنا أنه يقعُ ضمنَ قريةٍ قريبة من أوبسالا. وقد وجدها بالفعل مكاناً ساحراً، أشبه بالفردوس، بالنظر لإحاطتها بسوار كثيف من الأشجار المثمرة ـ كالتفاح والكمثرى والبرقوق والكرز. المُعسكر، كانَ مجموعة من الأبنية السكنية، خُصصَ لها ما يلزم من مرافق، مثل المطبخ والمطعم وصالات الألعاب والسينما والمسرح. في هذا الأخير، جرت حادثة طريفة سمعها دارين من جيجي مؤخرا. كان ثمة شابٌ ثلاثينيّ، على شيء من البدائية والسذاجة كونه أنتقل مباشرة إلى السويد من قريته المتخلفة، الضائعة في خريطة الشمال الكرديّ. كان أيضاً على قدْرٍ كبير من الثقة بالنفس، بما أنه فنانٌ متعددُ المواهب. فإنه جاء من القرية وفي جعبته زهاء نصف دزينة من الأغاني، ألّفها بنفسه. حقاً إن صوته يُشبه صدى تحطم زجاجاتِ خمارةٍ بأكملها، إلا أن الواجب الوطني يُحتّم عليكَ سماعَ أغانيه المُشيدة بالبيشمركة ( المقاتلين الكرد ) وبالزعيم فلان الفلاني الخ. من ناحية أخرى، بلغت به البلادة أنه لم يتعلم العزفَ على آلة موسيقية واحدة. مع ذلك، كان يقف كالمايسترو حين يتعيّن عليه قيادة فرقة موسيقية مُدججة بآلات العزف الشرقية والغربية: الملاحظة الأخيرة، مُبكرة جداً، كونها تمتّ لزمن شهرة الرجل وذيوع صيته، بحيث غدا حالياً ضيفاً على الفضائيات وكذلك على فيلات كبار المسئولين في الإقليم المُتحرر من صدام حسين والمُستلهم بعضَ أفكاره في القيادة.
اذاً، كانَ " شَفْطُر "، وهوَ اسمه الفنيّ، ما زالَ في المعسكر ويشعر بالمهانة كون موهبته مُهملة كلياً. لقد ضنّوا عليه حتى بالإقامة، ويريدون إثباتات تدعمُ إفادتَهُ. وقد هداهُ ذهنه بفكرةٍ خرقاء لإقناع المسئولين عن ملفه، ومن ثم وَضَعها في حيّز التنفيذ. أحتاج لبضعة أصدقاء، يمثلون دورَ أفراد المخابرات السورية وهم ينكّلون به كونه يُغنّي بالكردية. ثم تم تأمين كاميرا فيديو، مُناسبة لتصوير التمثيلية؛ وكان مسرحُ المعسكر، بالطبع، المكانَ الأنسب لها. جيجي، بما أن لهجته شامية ويمتلكُ نظارةً سوداء، أنيط به دورُ قائد الدورية الأمنية، المتكفلة إعتقال فنان الشعب. لكنه إنهالَ فعلياً بالضرب على هذا الأخير، فأسهمَ بنجاح شريط الفيديو. بادر شفطر من ثم إلى شكره، قائلا: " أعلمُ أنك أندمجتَ بالدور، ولكن في الحقيقة ما كان للمخابرات أن يوسعوني ضرباً كما فعلتَ أنت! ".
ثمة في المُعسكر، قضّى دارين مع إيفا أربعة أيام رائعة. حجرتها كانت جيّدة، تتنسّمُ عبيرَ الأزهار بما أنّ بابها ينفتحُ على الحديقة. كانا نهاراً يقومان بجولاتٍ مُطوّلة في ربوع القرية، المُحققة شهرتها إعلامياً، بسبب كنيستها التي كانت تحمي اللاجئين، المُهددين بالطرد من السويد. في حقيقة الحال، أنها كبيرةُ الراهبات من إتسع قلبها لأولئك المساكين، فأضحى اسمُها يُقارن باسم " الأم تيريزا ". ثمة في الكنيسة، ألتقى دارين بعائلة من الحارَة، كانت مُهددة أيضاً بالطرد. الأم، وهيَ إمرأة أربعينية، خفيفة العقل، كانت قد طلبت اللجوء السياسيّ كون زوجها عاملها بطريقةٍ فظّة. كانت أيضاً ذاتَ صوتٍ رخيم ـ شبيهٍ بصوت المَدعو شفطر ـ وقد أدّت أمام ابن حارتها وصديقته أغنيةً معروفة، تقولُ مقدّمتها: " طارت الطيّارة والحبايب طاروا ". بعد سنين عديدة، طارت إلى الوطن كي تسجّل أغانيها على شريط " سي دي "، كلّفها مبلغاً كبيراً مع الدعاية المَطلوبة. لكنه كانَ مبلغاً " من طرف الجيب " ـ كما يُقال. فهيَ المُقتّرة والمُقتصدة، عمدت في خلال السنين المنصرمة إلى تأجير ثلاث حجرات في منزلها. فيما بعد، طردت أولئك المستأجرين كي تضع عوضاً عنهم ثلاثة فتية أفغان، كانوا تحت السنّ القانونية ويحتاجون للرعاية. كانت تتركهم مُدنفين من الجوع طوال النهار، بالرغم من أنها تحصل على مبلغ جسيم من جانب السوسيال لقاء رعايتهم. ولم تكن تفعل ذلك عن لؤم، بل كونها ضجرة وتحتاج بدَورها إلى القيام بجولاتٍ في المدينة على عربتها الكهربائية، المُخصصة لذوي الإحتياجات. كانت مُجبرة، والحالة هذه، على تناول طعامها خارجَ المنزل. بالنتيجة، أنّ أولئك الفتية المساكين كانوا يجدونَ الثلاجةَ خاويةً تقريباً.
مساءً، كانت إيفا لا تُمانع في سهر صديقها مع شلّةٍ من الشبّان الكرد، تعرّفَ إليهم عن طريق شكري، ليلعبوا بالورق أو يتبادلوا الأحاديث. في إحدى تلك السهرات، إستضافوا شاباً بديناً مع إمرأته. كانَ شفطر هناك أيضاً، وما لبثَ أن بدأ يتكلّم عن مغامراته العاطفية في الوطن. حينما جرى على لسانه اسمُ إحدى العاهرات، بوصفه من زبائنها المَرموقين، إذا بتلك الضيفة تصرخُ فيه: " أيها العربيد، كيفَ تسمحُ لنفسك بتلويث سمعة خالتي! ". كادَ ذلك الموقف الطارئ أن يتحوّلَ إلى عراكٍ لا يُحمد عقباه، لولا أنّ صاحبَ المغامرات أكّدَ أنه كانَ يعني إمرأةً أخرى لها نفس الاسم والشهرة. الضيفة، وكانت شبيهة قليلاً بأنثى البوم، ستحققُ المجدَ مُستقبلاً ـ كإمرأة أكبر نصّاب في أوبسالا. في حقيقة الأمر، أنّ الشابَ البدين كانَ شخصاً بليدَ الفهم لا يتميّز سوى بعضلاته وشراسته ووقاحته. إنما هيَ مَن كانت تُخطط لكل عملية نصب، إلى أن صارَ ضحاياهما بالعشرات؛ ليسَ في السويد، حَسْب، وإنما أيضاً في أوروبا. كانَ يستدينُ من كل ضحيةٍ مبلغاً كبيراً، بمُبرر إتمام مشروع إفتتاح مطعم. في هذا السبيل، جلبَ ذاتَ مرةٍ كمية هائلة من اللحوم من المحلات الشرقية ـ بالدَيْن طبعاً ـ ثم قام ببيعها لمحلاتٍ أخرى بنصف ثمنها. كانت عمليات النصب والإحتيال تتم بسهولة ويُسر، بحيث أنه كانَ بنفسه يتعجّب من وقوع بعضهم ضحيةً للخداع مرتين مُتتاليتين. عدا عن عبقرية إمرأته في التخطيط، كانَ يُغطي نفسه بالنشاط في حزبٍ كرديّ ذي جماهيريّة ملحوظة في سورية ـ كمسئول لمنظمة أوبسالا. كذلك كان يُدير حجرة ( بالطوك ) باسم الحزب مع شخصٍ سَرْسَريّ من شاكلته، كانَ يُقيم في هولندا. لمَحض المُصادفة، أنّ النصابَ أخذ شقّة جديدة في جوار شقّة دارين، وذلك عقبَ عقدٍ تقريباً من اللقاء بذلك المُعسكر. آنذاك، لم تكن فضيحةُ النّصب قد أنفجرت بعدُ. لقد نشأ بينهما على الأثر نوعٌ من الصداقة، كون أنثى البوم أقامت سابقاً مع أسرتها في الحارَة. بطبيعة الحال، حاولا النصبَ على دارين. لكنهما حينَ أدركا أنه بالفعل لا يكنزُ المالَ، قنعا بالإستيلاء على مكواةٍ كهربائية بحجّة الإعارة.

5
إمرأة دوغان، ستتولّى إدهاشَ دارين، لما أعربت له عن رغبتها يزيارته في شقّته. ففي صباحٍ جميل، إتصلت معه كي تسأله ما لو كانَ لوحده في المسكن. بعد ذلك، قالت له بنبرةٍ مرحة: " إذاً لا تتحرك من مكانك، لأنني قادمةٌ بعد قليل "
" هل عادَ دوغان من تركيا؟ "
" لا، سأحضرُ بمفردي من السوق مباشرةً "، قالت ذلك ثم أغلقت السماعة. أحسّ برعشةٍ في داخله، مصحوبة بشعورٍ مشئوم. لقد تراءى له وجهُ الزوج، البشوش والدائم الإبتسام، وهوَ يبثه كلماتِ التشجيع مع كثير من الود. إمرأته أيضاً كانت بذات اللطف معه، لكنها قد تكونُ صاحبةَ نزواتٍ شأنَ أجنبياتٍ قدمنَ إلى هذا البلد في سنّ مبكرة نوعاً، فتعلمنَ الإنغماسَ بعلاقاتٍ غير محدودة مع الرجال في نهمٍ وبطنة. خلالَ تواجده في النادي، صادفَ أمثال هاتيك النسوة، وتلقى أحياناً إشاراتهن الشبقة، المُوارَبة. بقيَ مُبلبلاً مع هكذا أفكار، لحين سماعه صوت جرس الباب. كانت بهيئةٍ مُبهرة، وتلهثُ قليلاً: " المصعدُ معطلٌ "، قالتها ثم أحتوته في بساطة بين ساعديها الناصعين. حين أصبحت في حجرة النوم، أومأت إلى كيسٍ بلاستيكيّ، وضعته إلى جانبها: " تسوّقتُ بعضَ الأشياء، لأنني كنتُ ضجرة ". ثم أخرجت من الكيس سترةً سوداء، يفوحُ منها رائحةُ القماش الطازج، وكانت من النوع المَنذور لليالي الملهى والمُناسبات: " أعتقدُ أنها على قياسك، وقد جرّبتها بنفسي كوننا بذات الرشاقة "، قالت ذلك وهيَ تبتسم. تناولَ منها السترة، فشكرها. كانَ بغاية الخجل والإرتباك. لم يسبق له، أبداً، أن أمتلكَ سترة. كانَ يمقتُ الظهورَ بهيئةٍ رسمية، ومعتاداً في أشهر الدفء على ملابس السبور وحذاء الرياضة. ويتذكّر كيف أنّبته معلّمته الروسية، ثمة في موسكو، لما رأته في الحفل السنويّ دونَ سترةٍ مُناسبة.
سادُ الصمتُ، وكانت شيلان في الأثناء تحدجه بنظرةٍ ثابتة من مكانها على الكرسيّ الوحيد. فيما شعاعُ الشمس، المُتسلل خِلَل النافذة، راحَ يغمرُ قمةَ رأسها المُتوّج بشعرٍ فاحم. كانَ دارين يشعرُ بأنفاسها اللاهبة، المُتماهية مع عطرٍ باريسيّ راقٍ.
" أتودّين شربَ القهوة أو الشاي، أم ربما العصير؟ "، قالها كي يهربَ من نظرتها ومن الصمت المشحون. أبتسمت في رقّة، ثم ما عتمَ أن أستقامت بقامتها الجميلة: " سأتولى بنفسي تحضيرَ الشاي ". وبنفس البساطة، خطت باتجاه المطبخ. تنهّدَ بارتياح، ومن ثمّ رأى من اللباقة أن يتواجدَ في المطبخ للمساعدة. ثمة، حينَ أراد مدّ يده لتناول علبة السكّر من على الرف، كانت يدها أسرع. عندئذٍ أحسَ بليونة جسدها، الملتصق بجسده. المطبخ، كانَ ضيّقاً وبالكاد يتسع لشخصين. مائدة الطعام، كانت لهذا السبب موضوعة في الردهة. فيما كانَ وجهها إلى الموقد، سألته بنبرة عتاب: " لِمَ لم تمرّ عليّ في ستوكهولم، بعدما تكلمنا بالهاتف آخر مرة؟ ". ثم أستدركت، بنبرةٍ أخرى: " أخبرتك حينئذٍ أنني أودّ رؤيةَ رسومك الجديدة، المُخصصة للصحيفة ". سكتت هنيهة، قبل أن تقول: " كذلك أردتُ أن نجلسَ في أحد مقاهي المدينة القديمة، لأنني أعرفُ أنك تعشقها ". شددت على مفردة " العشق "، المُستعارة من اللغة العربية، فيما كانت تلتفتُ إليه بعينيها الضيّقتين والمَكحولتين.
ردّ عليها، مُتلعثماً: " حقاً لم تسنح لي فرصة الذهاب إلى ستوكهولم، كون أحد الأصدقاء ترك المُعسكر وجاءَ للإقامة معي جلّ الشهر الأخير من الصيف ". هزّت رأسَها بحركة تفهّم. لكنها في الحجرة، لما عاد كلّ إلى مكانه، فاجأته بالقول مع إبتسامةٍ فاترة: " لم تخبرني أيضاً، أنك كنتَ مشغولاً مع إمرأة تشيكية من ذلك المُعسكر ". أدركَ، ولا غرو، أنه شقيقها آلان مَن باحَ بالأمر. العلاقة بين الشقيقين، مثلما أختبرها دارين، كانت مبنية على الثقة والصراحة؛ ربما لكونهما " على رأس بعض ". إلا أنه لم يعلّق على كلامها، بل سألها متضرّج الوجه: " كم ملعقة سكّر ترغبين؟ ". لاحظت إحمراره، فهزّت رأسَها في حركة أسف أو شفقة. عقبَ دردشة قصيرة، إذا هيَ تمدّ يدها إلى الكيس البلاستيكيّ كي تُخرجَ غلالة نوم، بلونٍ بنفسجيّ: " أريدُ تجربتها الآنَ، مُمكن؟ "
" بالطبع "، أجابَ وهوَ يخطو هارباً من الحجرة. قبعَ في الردهة أمامَ طاولة الطعام، مُنتظراً أن تفرغ الضيفة من تجربة قميص النوم، الذي أشترته من السوق. فُتحَ بابُ حجرة النوم رويداً، ثم ما عتمَ أن مرقت شيلان في طريقها إلى الحمّام. ألقت عليه نظرةً سريعة، قبلَ أن تدلفَ ببطء إلى داخل الحمّام: " أرغبُ بتأمّل هيئتي في مرآة الحمّام ". الغلالة الرقيقة والقصيرة، كشفت جسَدَها الأشبه بالماس المَشغول. لما أستدارت، كانَ خيطُ السروال الداخليّ مُنغرساً في الردفين الفاتنين. هنا، أستعادَ دارين حركتها المُشابهة في دار والديها، وأيضاً حركة إيفا أثناء تجربة البيكيني في المخزن. في اللحظة التالية، رنّ جرسُ الباب ليُجفله ويُخرجه من خيالات تلك الصوَر. من خلال العدسة السحرية، رأى إيفا نفسها. كانَ إحتمالُ زيارتها غير واردٍ، بالنظر إلى أنها لم تخابره مُسبقاً. لكنه كانَ يوم السبت، وأعتادا أن يخرجا ليلاً إلى الملهى. مع ذلك، شعرَ بالراحة لأنها يُمكن أن تنقذه من التورّط بحماقةٍ شنيعة: " إلا أنّ إيفا قد تقطع علاقتها بي، مدفوعةً بشعور الغيرة والغيظ ".
مع أنه كانَ في غاية الحيرة، إذا يده تتحرّك بصورة آلية لفتح الباب. فيما كانت تعتنقه، لحظت صديقته كم كانت سحنته مُمتقعة: " هل أنتَ مُتوعّكُ الصحة؟ أم أنك لم تنم جيداً، ليلة أمس؟ ". في اللحظة التالية، فتحَ بابُ الحمّام لتظهرَ شيلان بهيئتها المعلومة. ظلتا تتبادلان النظرات لبرهةٍ، قبل أن تخلي إحداهما المكانَ للأخرى. عادت إيفا لفتح باب الشقة، مُطرقة برأسها فيما تتمتمُ بكلامٍ مُبهم. حاولَ دارين تداري الموقفَ، لكن البابَ إنصفقَ بقوّة.
بعد قليل، وكانت قد عادت وأرتدت ملابسها، قالت له شيلان مُتكلّفة إبتسامة حزينة: " أنا آسفة. أعتقدتُ أنك صرفتَ الزائرَ، كونك تعلم أنني في الحمّام ". لازما الصمتَ دقيقة أخرى، وفي الأثناء خاطبها في داخله: " يا لكِ من كاذبة، ومن ممثلة رديئة! أيمكنُ أن تظهري شبه عارية، لولا يقينك بأنها صديقتي؟ ". كأنما قرأت فكرته. فما عتمَ أن نهضت، لتجلس بجانبه على السرير: " كيفَ عليّ أن أواسيك، وأنا أدركُ ذنبي؟ لكن في وسعك تبرير الموقف فيما بعد، كوننا بريئَيْن بالطبع! "
" لا يهم، لننسَ أمرَها "، قال دارين وهو ما زالَ مُقطّب الوجه. كانَ مَحنيّ الرأس، يلوحُ كأنه غارقٌ في الحلم وليسَ في الفكر. أحاطت عنقه بذراعها العاري، وقالت مع تعبيرٍ مُنكسر: " اكنتَ تحبّها، حقاً؟ ". هوّ رأسَه نفياً. آبت عندئذٍ لتكسي وجهها بتعبيرٍ آخر، مرح: " كنتُ مُتأكّدة أنها كانت كتلك الإيرانية، مُجرّد شريكة في الفراش "
" يبدو لي، أنّ آلان يُحب الثرثرة كثيراً "
" ولكنني أنا مَن كنتُ أستجوبه، أتدري لِمَ؟ "، طرحت عليه السؤالَ بشكلٍ مباشر وبكل جدّية. هربَ بعينيه مُجدداً، ولم يُجب. نهضت شيلان وبيدها الكيس البلاستيكي، ثم عادت وأنحنت عليه لتقبّل وجنته الملتهبة: " أنا ذاهبة ". عند باب حجرة النوم، قالت له: " فكّر ملياً في الوضع، وستجد أنه من المُحتّم علينا أن نتفاهمَ على صيغةٍ من الصداقة لا تؤذي من نحبّهم ونحترمهم ". بدا لدارين أنّ داخلها كان عندئذٍ يغلي ـ كالمرجل ـ بغيظٍ جامح. لعله كانَ غيظَ إمرأةٍ، كُبحت رغبتها في آخر لحظة لسببٍ تافه، لأنّ خلق شريكها لم يسمحَ له أن يكونَ عبداً للرغبة الآثمة.
إيفا، وكانت قد قطعت علاقتها بدارين منذ ذلك الصباح من أواخر الصيف، عادت إلى موطنها عقبَ سقوط أنظمة الستار الحديديّ. في الأشهر الثلاثة، التي سبقت عودتها، نجحت بإقامة علاقة مع رجلٍ سويديّ، يكبرها قليلاً. وعلى الأرجح، أنها ضمنت سلفاً الحصول على الإقامة عن طريق الزواج حينَ صارَ مُستحيلاً الحصول عليها بداعي اللجوء السياسيّ. هذا ما أفادَ به جيجي، وكانَ قد رجعَ منذ بداية الخريف إلى المُعسكر، تاركاً خطيبته الفنلندية تُعاني الحرمانَ الجسديّ.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي